من أراد أن يخدمني فليتبعني و حيث أكون أنا يكون خادمي و من خدمني أكرمه أبي (يو 12 /26)
ظهورات سيدة الأيقونة العجائبية - باريس
الظهور الأول:
في ليل 18-19 تموز 1830، ظهرت العذراء مريم للمرة الأولى إلى مبتدئة شابة في جمعية راهبات المحبة اسمها "كاترين لابوريه".
لنترك القديسة تروي لنا الحادثة: " عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، سمعت صوتاً يناديني باسمي استيقظت ونظرت من حيث يأتي الصوت وأزحت الستار فرأيت ولداً يلبس الأبيض، عمره بين الأربعة أو الخمس سنوات وقال لي: " انهضي بسرعة وتعالي إلى الكنيسة، العذراء القديسة تنتظرك!" ... تبعته، و كان ينشر النور حوله أينما حلّ.
كل الأنوار كانت مضاءة في كل مكان مررنا به. هذا ما أذهلني ولكن مفاجأتي الكبرى كانت عند دخولي إلى الكنيسة.... انفتح الباب الكبير بمجرد لمس الملاك له. ولكني لم أكن أرى العذراء. فقادني الصبي إلى داخل المعبد بالقرب من كرسي الأب المدير (قرب المذبح) فسجدت هناك وبقي هو واقفاً بقربي. كنت أشعر بطول الوقت...
وأخيراً أتت الساعة، فأعلمني الملاك وقال: " ها هي العذراء القديسة، ها هي !" فسمعتُ حفيف رداء من حرير يأتي من ناحية المنصّة... يأتي ويجلس على كرسي على درجات المذبح... شككت أن تكون العذراء ولكن الولد قال لي : " ها هي العذراء القديسة". يصعب عليّ وصف شعوري في ذلك الوقت أو ماذا كان يجول بداخلي... وكأني لا أرى العذراء. فردّد الولد: " ها هي العذراء القديسة ".
(كاترين لا تستوعب وتبقى على بعد).
عندها علا صوت الولد وكأنه بنبرة رجل ... حينها، نظرت الى العذراء القديسة وما كان مني إلاّ أن قفزتُ نحوها وركعت على ركبتيَّ على درجات المذبح وأتكأتُ يديّ على ركبتيّ العذراء. هنا، قضيت أجمل وأعذب وقت في كل حياتي... يستحيل وصفه...
قالت لي العذراء كيف يجب عليّ أن أتصرّف مع مرشدي وكيف أسلك في صعوباتي.
ثم قالت:الله يريد أن يحملّك رسالة. ستتحملين المشقات... سيقاومونك. ولكنكِ ستحصلين على النعمة. لا تخافي. قولي كل شيء بثقة وبساطة... ثقيّ ".
ثم غرقت العذراء في حزنٍ كبير وقالت: "ستكون الأيام سيئة، سينقلب العالم كلّه من جرّاء المصائب المتعدّدة. سيتعرّض الصليب للإهانة والإزدراء. سيُرمى على ألأرض. ستجري الدماء. سيفتحون قلب سيّدنا من جديد.
ستمتلئ الشوارع بالدم. سيكون العالم كلّه في الحزن." كنا لم تعد تستطيع العذراء أن تكمل والحزن اشتدّ على ملامح وجهها.
وأخيراً تكشف مريم لكاترين عن مشروعها لتأسيس جمعية جديدة للشبيبة. هذه الجمعية تسمّى اليوم: " الشبيبة المريمية في عائلة مار منصور"
وأضافت مريم :" تعالي إلى أقدام هذا المذبح. هنا، ستفيض النِعَم على جميع طالبيها بثقة وحرارة، كباراً وصغاراً.
وأخيراً ذهبت واختفت كخيال يتبدَّد. نهضت كاترين ورجعت إلى سريرها يرافقها الولد. "أعتقد أنه كان ملاكي الحارس، تتابع كاترين، وعندما عدت إلى سريري سمعت الساعة تدّق الثانية ليلاً. وبعد ذلك لم أعد أستطيع أن أنام".
في هذا الظهور الأوّل كان اللقاء حميماً بين كاترين وامّها السماوية. كانت العذراء الأمّ المرشدة لكاترين: قالت لها كيف تتصرّف في حياتها وكيف تتعامل مع الأب الروحي ومع مَن حولها. إنّ الإرشاد الروحي هو المرافقة في الحياة المسيحيّة. الأقدم في الإيمان يساعد الأصغر في تمييز إرادة الله في حياته. الإيمان المسيحي ليس تديُّن ولا تطبيق قوانين ووصايا بل هو لقاءٌ مع القائم من الموت وحياةٌ مع الحيّ. لذلك كل مؤمن هو بحاجة الى معلّمِ حياةٍ متمرّسٍ بالمسيح. مريم تعلّمني اليوم ألاّ أسير في إيماني لوحدي.
" تعالي إلى أقدام هذا المذبح ..." في هذه الكلمات تدلّ العذراء كاترين الى الينبوع الذي يفيض بكلّ تعزية وفرح وسلام ورجاء... إنّها توجّهها الى المذبح... الى يسوع الذي يقدّم ذاته لأجلنا... قلبه المفتوح يكشف لنا حبّ الآب... العذراء تدلّني الى مَن التجئ اليه في عطشي ونحو مَن أُوجِّه كلّ محتاج يستنجد بي ويطلب مساعدتي.
المسيحي لا يقبل أن يكون هو الحلّ والسند لأحد. بل إنّه الجسر الذي يوصل الى المسيح، المخلّص الوحيد. وهذا الدور هو جوهر شفاعة مريم ووساطتها. لا تقف العذراء بيني وبين المسيح لأتعامل معه من خلالها بل هي تعمل كي يصل كلّ أبنائها الى اللقاء الشخصي بإبنها الوحيد. وصورتها وهي تحمل العالم وتقرّبها إلى ابنها أفضل تعبير عن هذا الدور الأمومي.
كانت العذراء مريم كالأمّ الحنون التي تحمل هموم البشر، وتهتمّ بخلاصهم، وهي تعرف أنّ لا خلاص من دون ابنها يسوع الذي حمل هموم الإنسان على كتفيه حتى الصليب. حنانها الأمومي انعكاس لحنانه الأبوي... وحزنها ودموعها فيض من دموعه على العالم الذي أضاَع حبّ الآب وحضنها الدافئ هو الطريق للرجوع اليه...
في 27 ت2 1830، خلال فترة التأمّل في الكنيسة رأت القديسة كاترين العذراء للمرّة الثانية. إنها تروي الحدّث: "رأيت العذراء القديسة، واقفة، لباسها أبيض بطول متوسط ووجهها رائع ويستحيل عليّ وصف جمالها...
كانت العذراء تحمل بين يديها كرة ذهبية يعلوها صليب صغير...
كانت تحملها براحة وعيناها نحو السماء ... إنّها تقدّمها لله... ثم سمعت : "هذه الكرة تمثِّل العالم بأسره... وتمثِّل كل إنسان بمفرده". فجأة، امتلأت أصابع العذراء التي تحمل الكرة بالخواتم المرصّعة بالحجارة الكريمة. كانت الحجارة تتلألأ. أشعتها برّاقة ساحرة.
في ذلك الوقت عينه، كان صوت يقول لي: هذه الأشعة ترمز الى النِعم التي تنالها العذراء للذين يطلبونها منها. أخيراً رأيت بعض الحجارة الكريمة بدون أشعة. كانت رمزاً للنعم التي ينسى أن يطلبها الناس".
ثم تكوّن إطار ذهبي بشكل أيقونة بيضاوية كتب عليه بأحرف ذهبية: "يا مريم التي كُوِّنت بلا خطيئة، صلي لأجلنا نحن الملتجئين إليكِ ".
ثم استدار المشهد على ذاته ورأيت الوجه الآخر للأيقونة واستطعت أن أميّز فيه حرف M يعلوها صليب.
في اسفلها قلبا يسوع ومريم الأقدسين: " سمعت صوتاً يقول لي: أطبعي ايقونة على هذا الشكل. كل مَن يلبسها بثقة، خاصة معلقة في عنقه ينال نِعَماً غزيرة"
بعد الظهور بسنتين طُبعَت الأيقونة بأمر من رئيس أساقفة باريس. ومن ذلك الحين والأيقونة تنتشر بشكل هائل في كل أنحاء العالم، بينما بحر النِعَم والآيات والشفاءات والحماية وخاصة التوبة واهتداءات لا ينقطع ولا يتوقف. مما أدّى إلى أن لقّبها الشعب "بالأيقونة العجائبية".
ففي 15 ك2 1842 شاءت الصدفة أن يلتقي في إحدى شوارع روما التاجر العبراني الكبير والملحد الشرس المعادي للإكليروس "ألفونس راتيسبون"، بصديق أخيه "تيودور دي بوسّيار" وكان كاثوليكياً ملتزماً.
فكان سلامٌ فموعدٌ فلقاءٌ في اليوم التالي. في هذا اللقاء دار نقاش حاد بين الصديقين حول موضوع الإيمان. فما كان من تيودور إلاّ أن طلب من صديقه بإلحاح أن يلبس الأيقونة العجائبية إرضاءً له فقط حتى ولو لم يكن يؤمن "بهكذا خرافات".
في اليوم 20 من الشهر عينه التقى الصديقان في نزهة في شوارع روما. فما إن وصلوا إلى أمام كنيسة القديس اندراوس حتى استأذن تيودور صديقه لوقت قصير.
وبينما كان ينتظر صديقه دخل ألفونس إلى الكنيسة بداعي الفضول. وفجأة ... تحضر العذراء... كما هي على الأيقونة العجائبية...
ولما عاد تيوديور وجد صديقه الملحد جاثياً على ركبتيه أمام المذبح. فسأله عمّا حصل فأجابه: " مريم العذراء، لقد رأيتها ! .. لم تقُل لي شيئاً ولكني فهمت كل شيء.
تقبّل ألفونس سرّ العماد في 31 من الشهر نفسه وبعد خمسة أشهر دخل الرهبنة اليسوعية واضعاً نفسه في خدمة البشارة وعاملا من أجل الحوار المسيحي العبراني.
(نحن أيضاً، إننا بحاجة إلى معونة أمنا السماوية لكي نتوب نحن المسيحيين الفاترين. ليست الأيقونة شعوذة بل وسيلة للعودة الى الرب. كما تقول كاترين: "مَن يلبس الأيقونة يسلّم ذاته للعذراء". فلننشرها اذاً من حولنا كعلامة تكريس ذواتنا في خدمة البشارة).
العذراء ترفع العالم وكلّ فرد مِنّا الى ابنها. يداها المملوءتان نِعَماً تكشف لنا أنّ محبة الله وحنانه وعطفه علينا هي غزيرة على قدر غزارة هذه الأنوار. مريم تفيض علينا بالنعمة التي امتلأت بها منذ تكوينها. هي تقول لي: الله أبوك! الله لا يخيف! ليس قاضياً ظالماً! أليس هو الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار. الله ليس بعيداً عنكَ! هو لا يحتاج الى مَن يحنّن قلبه عليك بل ينتظرك لتعود اليه بالتوبة ويهيّء لك خاتم الأبناء. مريم، كالأمّ الحنونة، تدلّني إلى الآب وكالتلميذة الأمينة تدفعني لألتقي به شخصياً.
الشعاعات المطفأة أي "النِعَم التي لا يطلبها أحد" هي رمز لكلّ مرّة أقرّر فيها أن أترك الله وأن أعيش حياتي وأن أحلّ مشاكلي بدونه.
وهنا أكون أنا مَن وضع حياته خارج الخلاص ومشى خارج النور. إنّ حب الله لا يتخلّى عني حتى لو تخلّيتُ عنه، فالشعاعات المطفأة تصبح نوراً مع مشاركتي، تماماً كما أنّ مشروع الخلاص لم يكن قد تمّ لولا طاعة مريم. مريم تعلمني أن أسمع كلام الله وافتح له حياتي (أنا أمة الرب...) لأكون مثلها الأرض الطيّبة التي تزُرع فيها الكلمة فتزهر قيامةً. وهذا يرمز اليه حرف M الذي يحمل الصليب.
إنّ إنسان اليوم يبحث عن السعادة ويعتقد إنّه سيجدها في التقدم وفي التكنولوجيا والطبّ، في جمع المال والغنى وهكذا أضاع الطريق. الخطيئة وقلّة المحبّة هما سبب ألم الإنسان الحقيقي. فكلّما تقدّس وصار "كاملاٍ بلا عيب ولا دنس في المحبة" (كما يقول مار بولس) كلّما اقترب من تحقيق المشروع لوجوده في الكون وكلّما كان سعيداً.
الطهارة بلا دنس التي تكوّنت فيها العذراء والتي حافظت عليها حتى موتها المقدّس هي الأمل لنا جميعا، نحن الخطأة، بأنّنا قادرون بمشوار توبتنا، برفقة مريم، أن نصل يوماً إلى هذا النقاء، قادرون أن نصل الى ساعة موتنا بدون خطيئة لا عيب فينا كاملين في المحبة... لأن خلاصنا بيسوع أكيد وحقيقي وقادر على تقديسنا شرط أن نقبله.
فيا مريم البريئة من الخطيئة الأصلية صلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليك. صلّي لأجلنا حتى لا تغشّنا وعود العالم الكاذبة. صلّي لأجلنا حتى لا نلجأ في مشاكلنا وضعفنا إلى ينابيع الحل المزيّفة. صلّي لأجلنا حتى لا نبحث في آلامنا وأمراضنا وموت جسدنا إلاّ عن الحياة الحقيقية عند يسوع، أي المحبة كما هو أحبّنا، لأنّ هذه المحبّة هي الحياة الحقيقيّة الأقوى من الموت.
فكما اشتعل قلبُكِ يا مريم بحبّ الله والبشر، من خلال اتحاده بقلب يسوع، فشاركتِه آلام الخلاص والقيامة، هكذا لا تتخلّي عنّا إلى أن نشتعل نحن أيضاً بحبّه من كلّ قلبنا وكل عقلنا وكل قوتنا وبحبّ اخوتنا كنفسنا، فننشر حولنا لغة المحبّة والغفران والخدمة طاعة للذي أرسلنا في الأرض كلها لنعلن البشارة لكلّ إنسان، وهذا رمز النجوم.
إنَّ كاترين هي قديسة الصمت. أمضت باقي حياتها بخدمة الفقراء والمرضى والعجزة.
رغم انتشار الأيقونة والعجائب الكثيرة التي حصلت بواسطتها بقيت مخفيّة كاتمة السرّ فلم يستطع أحد أن يعرف مَن هي هذه الراهبة المحظوظة التي رأت العذراء، لأنها عرفت أنّ السعادة الحقيقية تكمن في الحبّ وليس في الشهرة. لقاؤها بالعذراء كان بداية مشوار فتقدّست بحبّ المسيح وخدمته في الفقراء وليس لأنها رأت العذراء.
تعلمنا كاترين أن لا نبحث عن الشهرة والغنى ولا عن العجائب في هروب من صليبنا
بل أن نبحث عن الحب الحقيقي في الإتحاد بالمسيح
لأنّه هو الكنـز الدفين الذي يستحق أن نبيع كلّ ما لنا لنشتريه.
إحمل الأيقونة كعلامة ايمان، وانشرها من حولِكَ، متخذاً من العذراء أمّاً لك jأخذها الى بيتكَ وتقرّرُ معها السير في مشوار الإيمان نحو الإتحاد بالمسيح خلاصنا الوحيد.