إِرْحَمني يا أَللهُ، فإِنَّ الإِنسانَ يُرهِقُنِي و المُقاتِلَ طَوالَ النَّهارِ يُضايِقُني. (مز 56 /2)
قصةوعبرة : بهلوان العذراء
بهلوان العذراء
يحكى في قصص القديسين عن أحد البهلوانات، أمير القافزين، أستاذ في الألعاب الجنونية، أنه كاد يُقتل وهو في حال الخطأ المميت. فشعر بالنعمة تليّن قلبه ونذر نفسه للعذراء مريم. فأعطى لأحد رفاقه حلقاته ولآخر الحبل الذي يقفز عليه، لهذا ولذاك كل آلات حرفته، وذهب ويداه فارغتان وقلبه عامر بالإيمان إلى الدير القريب.
استغرب رئيس الدير أمر هذا الزائر الجديد وزاد عجبه لما علم بنذره. وكان رجل علم غزير وفضيلة سامية إنما شديد الميل إلى تفضيل العلم عن العمل.
سأله: "يا ابني! ماذا يمكنك أن تصنع في خدمة الرب؟"
أجابه ذلك: "مع الأسف، لا أعرف غير ربط البقر وتلبيس الكلاب وتزيين العنزات وعمليات أخرى كهذه، مثل فصد القطط وحجم الثيران. أقلّد صوت الثعلب وسجع الحمام، يمكنني التكلم من بطني والقيام بألاعيب أخرى كثيرة لتسلية الناس. والأكيد أنني لم أقترب قط من السماء أكثر من مسافة قفزة من قفزاتي.
أجابه الرئيس: "امض في سبيلك إذاً يا صديقي، وكن فاضلاً في مهنتك فليس الدير لأمثالك. ففيه يُعبد الله وابنه الإلهي والعذراء مريم بالصلاة والتأمل والترانيم وهذا ما لا يتسنى لك تعلّمه بعد هذا السن."
لكن البهلوان ألحّ بشدة حتى حصل على دخول الدير بصفة أخ للخدمة، وقام الأخ الجديد بأعمال عديدة فقد كان بارعاً في البستنة والنجارة والسكافة والخياطة والصيد والطبخ وفي أشياء أخرى كثيرة لا تحصى. إذا كان منقطع النظير في العمل اليدوي، أما العمل العقلي فقد كان قليل الدراية به.
الكتب المكتوبة بلغة الملائكة كانت سراً مغلقاً عليه. ونوطة الموسيقى على الكتب والصلوات كان يخالها عصافير حطّت على أغصان.
لماذا تتغير ألحان الصلوات الفرضية مع فصول السنة وأيام الشهر وتبدّلات القمر؟ لماذا تتغير ألوان الحلل الكنسية أكثر من تغير الأحوال الجوية؟ هذا كان فوق طاقة تفكيره.
فكان يركض وينهض، يرفع عن رأسه القبعة ويردها إليه كما يرى الآخرين يصنعون دون أن يفهم لذلك سبباً، جاهلاً تمام الجهل أصول المراسيم الطقسية وفي خوف دائم من أن يهين أحداً من سكان السماء.
وباختصار الكلام كان يصنع دائماً عكس المطلوب، فيركع حينما يجب الوقوف ويقف حينما يجب الجلوس فيشوّه الحفلات ويسمها بالزراية والمهانة.
فاستدعاه يوماً الأب الرئيس وقال له: "يا ابني عليك أن تحجم من الآن فصاعداً عن الحضور إلى الكنيسة في ساعات الاحتفالات لأنه لا يجوز أن يتشتت الجميع بسبب أحد الأفراد".
فانقطع الأخ المسكين عن حضور الصلوات العامة والأسى يحزّ في قلبه. فكان ينتظر خروج الرهبان ليذهب بدوره إلى الكنيسة، فيسجد باتضاع للسيدة العذراء وهو آسف لعدم تمكنه من إكرامها بصلاة جميلة.
وفي أحد الأيام قال لها: "يا سيدتي وربتي! اغفري جهلي. لم يعلمني قط، وأنا صغير، أستاذُ في مدرسة، كيف أدوّر لساني. لا أعرف أن أحرّك غير جسمي. فتنازلي واقبلي ما علمتني إياه الأيام".
وللحال خلع ثوبه ولفّ قميصه وشدّه على حقويه وابتدأ ألعابه وقفزاته وقلباته لا يتوقف إلا ليعلن للعذراء: هذه تدعى قفزة الملكة وهذه القفزة الفلانية...
ومرّ صدفة راهب فرآه وبهت وأسرع إلى الأب الرئيس يطلعه على الأمر. فلم يشكّ الأب الرئيس إلا أن روحاً خبيثة دخلت الرجل. وذهب من توّه على الكنيسة ومن فرج الباب نظره وهو يعمل كأنه على خشبة المسرح.
وإذا بالبهلوان يقفز قفزة اخيرة عظيمة ويسقط بلا حراك على درجات الهيكل. فتنحني عليه البتول لكل حنو وبطرف ثوبها الحريري تروّح له. وإذ رأى الرئيس ذلك انسحب بكل احترام وقلبه مفعم عجباً، قاصداً ألا يقدر العلم من الآن فصاعداً أكثر مما يستحقه. هذا مغزى القصة.
أما البهلوان فقد فارق الحياة في اليوم نفسه. وقبر بكل أبهة وإكرام في مقبرة الدير.