مِن جَميعِ مَعاصيَّ أنقِذْني و عارًا لِلأَحمَقِ لا تَجعَلْني ( مز 39 /9)
ثالثاً : خادم مريم - القديس بيريغران - جنود مريم
1. عند «خدّام مريم»
لقد مسّت النعمة عقل بيريغران. ولكن، كيف يمكنه أن يستمرّ في هذه النعمة؟ أليس هو زعيم الشبيبة المتمرّدة، دون منازع؟ ولكنه قد تغيّر تمامًا لدى رجوعه إلى فورلي. وعلى الرغم من استهزاء رفاقه فهو قد صمد.
كان اهتداؤه وارتداده عملاً بطوليًّا. بل صبره قد كسب لله هؤلاء بالذات، الذين كانوا يسخرون منه. إنّ الاهتداء يعني الثبات. وإذا كنا لا نستحقّ الثبات فإنّنا نستطيع الحصول عليه. وكيف ذلك؟ - بالصلاة. فأخذ بيريغران يصلّي. كان يمضي ساعات وساعات في الكنيسة، وبصورة خاصّة في كنيسة الصليب المقدّس.
كان فيليب قد أعطاه النصيحة التالية: «لكي تنال نعمة تغيير حياتك، أحبب كثيرًا العذراء الفائقة القداسة».
طلب بيريغران من مريم، بحرارة كبيرة واستمرار بالغ، أن تُطلْقه على طريق القداسة، وكانت تلك الحرارة وذلك الاستمرار من القوة ما جعل طلبه هذا يُستجاب.
ومنذ ذلك الحين حاول أن يعيش متّحدًا بالله في الحبّ الأعظم، وذلك بممارسة «التطويبات» على أكمل وجه ممكن.وهكذا قد تهيّأ لتلبية نداء الرب يسوع له كي يعيش في خدمة متواضعة ومُحبّة لمحيطه.
في سنة 1285 وقد بلغ بيريغران العشرين من عمره، أخذ يصلّي أمام سيّدة النِّعم في كاتدرائيّة مدينته، فورلي. كان يلتمس من أمّه مريم أن تدلّه إلى طريق الخلاص.
«أنا أيضًا، يا بنيّ العزيز، أودّ أن أقود خطاك على طريق الخلاص».
فأثّرت هذه الكلمات في نفسه تأثيرًا عميقًا، ولكنّه بقي متردّدًا.
«لا تخف، يا بنيّ: أنا، حقيقة، أمّ الذي تصلّي له. هو ذاته قد أرسلني لكي أدلّك إلى طريق التطويبات».
فأجاب بيريغران قائلاً: «أنا حاضر لتلبية ندائك، وكنت أرغب بحرارة أن اتّبع أوامرك بأمانة».
فقالت مريم: «هل تعرف هؤلاء الرهبان الذين يسمّونهم «خدام مريم؟»[1].
- إنّي أذكر أنّني قد سمعت الناس يتحدّثون بإطراء عن عيشهم بقداسة وعن رهبنتهم، ولكني لا أعلم أين هم يقيمون».
- أنت تدعى بيريغران (حاج)، وستكون اسمًا وفعلاً. يجب أن تذهب فورًا إلى مدينة سيينا، وهناك تجد رهبان صلاة. أطلب إليهم أن يقبلوك في أسرتهم. بهذا الشرط سأحميك وستخلَص».
فانطلق بيريغران، في ذلك الليل ذاته، إلى سيينّا متخلّيًا عن كلّ شيء. وكان فيليب يقيم في سيينّا، وقد علم، بروحه النبويّة، أن بيريغران قادم إليهم، فأخذ يترقّب وصوله بل أنّه أعلن ذلك إلى رهبان الدير.
لدى وصول بيريغران تظاهر الأخ البوّاب، المسنّ، بأنّه لا يعرفه.
«من أنت» ألا تعلم أنّ هذا الوقت هو وقت السكوت؟».
فخرّ بيريغران على قدمي الأخ متوسّلاً إيّاه ألاّ يغلق الباب في وجهه، فإن لديه أشياء كثيرة يريد إبلاغها إلى الأب الرئيس.
فأخذه الأخ الطيّب ألكسي، وقد تعذّر عليه إخفاء ابتسامته كما يجب، أخذه بيده بلطف، وسار به إلى غرفته، وقدّم له طعامًا معدًّا للفقراء والمسافرين.
«كُلْ واسترح الآن، وسنرى الأمر بعد صلاة العصر».
بعد قليل من الوقت قابله الأب الرئيس. فأخذ بيريغران يقصّ حكايته، مشدّدًا على الرؤيا التي ظهرت له في كنيسة الصليب المقدّس، وإذ بالأب فيليب يدخل. فخرّ بيريغران على قدميه وتوسّله باكيًا أن يقبله في عداد تلاميذه.
«نعم، أقبل، أجاب فيليب، إذا كان هذا رأي الأخوة أيضًا».
فقدّمه فيليب إلى الآباء المجتمعين في مجمع، وأثنى على ما فيه من روحيّة الصلاة والتوبة، ثمّ أضاف: «سيكون مبشّرًا لسيّدة الآلام».
فدقّوا أجراس كنيسة «الخدّام» التي امتلأت بالمؤمنين. وبعد قليل خرج الرهبان من الخورس ومعهم بيريغران مرتديًا ثياب فارس كما جاء جلس هو في الوسط وأحاط به الرهبان بشكل إكليل مواجه له. وبعد الاستجواب بدأت الآلة تعزف الترتيلة الخاصّة بهذا الاحتفال وهو احتفال ارتداء الثياب الرهبانيّة.
مساء ذلك اليوم عيْنِه غادر فيليب سيينّا موصيًا، بحرارة، الرئيس وجماعة الرهبان، بيريغران خيرًا.
2. الراهب
في سنة 1265 بلغ بيريغران الثلاثين من عمره. ونظرًا للأمانة الرهبانيّة التي برهن عنها بيريغران فقد أرسله رؤساؤه إلى مسقط رأسه، فورلي، بمهمّة تأسيس دير هناك.
كان الرهبان الصالحون المحيطون به عديدين:
إنهم تلاميذ القدّيس فيليب. وتجاه إرادة الآخرين الطيّبة، وكلامهم الجميل، وأمثلتهم الجيّدة بصورة خاصّة، فقد أصبح بيريغران ذلك الراهب البارّ. إنّ نعمة الله تقدّسنا، وتفعل فينا، مع إبقائها على طبيعتنا. فهي تصحّح هذه الطبيعة ولكنّها لا تدمّرها. بقي الأخ بيريغران على طبعه الحارّ، الاستقلالي، الطموح، السخيّ. وقد أخضعت النعمة هذه الهمّة الحارّة إلى توجيهات العقل والإيمان موحّدة بحكمة. فروحيّته الاستقلاليّة سيطر عليها تواضعه العميق. وكان يقول: «التواضع هو الحقيقة». وطموحه، إلى جانب رغباته في العظمة، قد توجّه نحو غزو ملكوت الله، من أجله هو ومن أجل الآخرين.
كان يقرأ ويتأمّل في سِيَر القدّيسين. والقدّيس إنّما هو ذلك الإنسان الذي يدرك أنّ هناك شيئًا وحيدًا هو ضروري بشكل مطلق، وهو أن يعيش الإنسان معموديّته، أن يعيش مع يسوع إماتة الأنانية والعجرفة والشهوانيّة، لكي ينبعث في ممارسة التطويبات.
كان يعيش ممارسًا الخدمة، عارفًا ومعترفًا أنّ «سيّدتنا» هي المؤسّسة الرئيسيّة لرهبنته التي لها في قلب «السيّدة» المكان الذي يعود لها. ومن التأمّل في آلام العذراء التي لم تكن تبرح فكرة بفعل الثوب الذي كان يرتديه، كان يستقي حافز تكامله اليومي.
كان يعيش قدّيسًا أيّ راهبًا أمينًا لنذوره، لقواعد رهبنته وروحيّتها، ولمراعاة وممارسة حتّى أصغر الواجبات اليوميّة.
قد أدّت إرشاداته إلى إرتداد من مواطنيه إلى طرقات الربّ. حيثما مرّ كان يهدي إلى التقوى بتفانيه، وصلاته، وخدمته المتواضعة والمحبّة لدى الفقراء والمساكين والمرضى...
3. الكاهن
طلب الأخ لوتّار رينغو، خليفة فيليب، إلى رئيس دير سيينّا الأخ متّيو أن يهيّئ الأخ بيريغران، الطيّب، للكهنوت. وإزاء تردّدات بيريغران، الذي يعرف أنّه خاطئ وخارق للقدسيّات، وعليه بالتالي أن يبكي ندمًا على أخطائه ويكفّر عنها، أجاب الرئيس العام رئيس الدير: «لقد أخبرني فيليب أن الأخ بيريغران، الذي شارك بالأمس في فساد أخلاق مدينة فورلي، عليه اليوم أن يشارك في توبتها».
ولنستمع إلى شاهد، معتمد يشهد على كهنوت بيريغران وهو الأخ فيتال أقانزي[2] إذ كتب بعد أربع سنوات من وفاة الأخ بيريغران ما يلي: «إنّ بيريغران الذي، بموجب الطاعة، قد رسم كاهنًا وواعظًا، قد حاز على تأسيس دير في مدينة فورلي، وبموجب الطاعة عاش في هذا الدير حتّى وفاته.
والأخ فيتال المذكور هو أوّل من جمع أعمال بيريغران ومآثر سلوكه. والأخبار التي أوردها تتمتّع بأهميّة كبيرة، لا سيّما إذا اعتبرنا أنّه حجّة وثقة، وأهل لأن يدرك جيّدًا ما كان يكتبه ولأن يدقّق فيه. لقد طلب إلى الأخ بيريغران، بموجب الطاعة المقدّسة، أن يمثل لدى الأسقف لكي يتلقّى الرتب المقدّسة. وعندما أتت اللحظة المهيبة ? لحظة وضع الأيادي ? شعر بيريغران بما ترتّله الكنيسة باسمه خلال القدّاس، وهو: «لقد اشتعل قلبي حبًّا». ووسط هذه الأجواء بدأ، مع الأسقف، إقامة القدّاس.
لقد زادت هذه الرتبة المقدّسة من تواضعه كثيرًا. فبعد رسامته عاد إلى الدير، ولم يلاحظ عليه أي تغيير تجاه إخوته. فبقي على روحيّة الصلاة، والتعطّش الكبير إلى التألّم، ورقّته وحنانه تجاه غيره من الرهبان.
فبالنسبة لبيريغران: أن يكون الرجل كاهنًا، هذا يعني مزيدًا من المشابهة ليسوع، مزيدًا من الاتحاد به، بل أن يصبح يسوع حتّى.أن يصبح المرء كاهنًا، هذا يعني أن يدع إله الإفخارستيّا يحبّه.
يا لها من نعمة... إنّه يستطيع الآن أن يجعل يسوع ينـزل إلى المذبح ويتكّلم إليه مثل صديق. وكان الأخ بيريغران يخشى أن يفقد نعمة الله، خشية بلغت درجة أنّه ? قبل أن يبدأ القدّاس ? كان يرى من الضروري أن ينال «سرّ المصالحة».
4. روحيّة التوبة والندامة والتكفير لدى بيريغران
«إنّ بيريغران باهر في كلّ شيء، ولكن بصورة في حرمان الذات والإماتات التي يُخضع لها جسده. أنا لم أعرف أبدًا شخصًا يمكن مقارنة بيريغران به، ولم أصادف في حياة القدّيسين تكفيرات مماثلة.
لم يعرف الجلوس ولم يأوَ إلى سريره، فلم يسمح لنفسه إلاّ بقليل من الراحة، أو بالأحرى كان يضيف الى تعذيب جسده أنّه كان يتّكئ إلى حجر. وهذا التكفير الخارجيّ لم يكن سوى نتيجة للندم الحارّ على خطاياه، والخوف من أن يسيء إلى الله الرحوم...»
«إنّ بيريغران سخيّ الدموع. وهو لا يبكي ندمًا على خطاياه هو فقط بل أيضًا على خطايا الآخرين. وبيريغران يكرّس ساعات للقراءات الروحيّة وللصلاة والتضرّع عندما تسمح له انشغالاته بأن يختلي في الصومعة» (أقانزي).
«لقد مارس بيريغران خلال سنوات عديدة أقسى التكفيرات إلى درجة أنّه كان أحيانًا يثير الشفقة. وكان متواضعًا إلى حدّ أنّك تخاله عديم القدرة والكفاءة، وكان أيضًا يحبّ الوحدة والصمت».
«كان يقول أحيانًا: إذا عاش الراهب مختليًا ومرتاحًا حقًّا فباستطاعته التأكّد من اكتساب كلّ الفضائل، دون أن يدرك ذلك حتّى» (نيكولا دي بيستوا).
«إنّ الأخ بيريغران يفرض على نفسه تكفيرات صارمة وبما لا يصدّق. لم يره أحد جالسًا طيلة ثلاثين سنة، فكان واقفًا طوال الوقت، حتّى وهو يأكل. وكان يركع عندما يصلّي. ولكي يتغلّب على النعاس كان يكتفي بالاتّكاء.
يمضي لياليه بالصلاة. يتأمّل في التسابيح والمزامير. إنّه يريد تقليد أمثلة الربّ يسوع».
«كان يدقّق كلّ يوم في أفعاله. يبكي على تقصيراته أو مخالفاته، ويتحرّق رغبة في أن يعيش التطويبات كليًّا» (بورجيز).
لقد بلغت إماتات الأخ بيريغران من الصرامة حدًّا جعل البعض يعتقد أنّ استمراره حيًّا كان أعجوبة.
5. حكاية لصوص
مثلهم مثل لصوص اليوم، لم يكن لصوص القرون الوسطى يأبهون لاحترام حقّ ملكيّة الناس ولا حياتهم. دأبت عصابة من اللصوص مؤلّفة من رجال سُرّحوا من الجيش، على الاختباء في الجبال القريبة من مدينة فورلي.
كانت ترصد المسافرين الذين لم تكن تتيح لهم أحوالهم المادية أن يستأجروا مواكبين مسلّحين.
فقرّر الأخ بيريغران، وهو الذي كان دومًا يبحث عن نفوس بحاجة إلى الخلاص كي يخلّصها، أن يلتقي هذه العصابة. والواقع أنّه كان يعرف أفراد تلك العصابة ورئيسها. فذهب ذات يوم منفردًا، مغامرًا في الجبال.
ولم يتأخّر اللصوص حتّى أحاطوا به. فانحنى أمام رئيسهم، وذكّره بروابط الصداقة التي كانت فيما مضى تربط بين عائلتيهما. فحرّك مشاعره حتّى اغرورقت عيناه بالدموع، وذلك بذكر أشخاص أعزّاء انتقلوا من هذه الدنيا. وبتلك الحرية والمحبّة الخاصّتين برجال الله أثار في مخيّلة رئيس العصابة هذا، عار ممارسة قطع الطرق هذه، وتهديدات الناس، وقصاصات الله، وانتهى بالتكلّم عن حبّ خدمة الله. وأخذ الأخ بيريغران يروي لهم قصّته هو، الشخصيّة، بما في ذلك قصّة اهتدائه. فهو أيضًا كان رجلاً خاطئًا، متمرّدًا، أقدم على مهاجمة أعلى سلطة. بل إنّ الأمر قد وصل به إلى حدّ أنّه قد صفع راهبًا مرسلاً من البابا قدّيسًا، خارقًا بذلك حرمة المقدّسات. وختم بقوله: «إنّ الله عادل ورحوم ولو كان البشر ليسوا كذلك. اتركوا مهنتكم هذه البائسة والخطرة. افعلوا ما فعلته أنا: أعطوا نفسكم لله في حياة جديدة، تائبة».
وفيما كان يتكلّم كانت نعمة الله تفعل في قلوب هؤلاء اللصوص. فاهتدوا بشفاعة الأخ بيريغران، وانزووا في أديرة أو مناسك ليقدّسوا تلك الأمكنة عينها التي كانوا قد روّعوها.
جمعيّة "جنود مريم"