إصحوا كما ينبغي و لا تخطأوا، لأن بينكم قوما يجهلون الله كل الجهل (1كور 15 /34)
سرّ التوبة و المصالحة - جنود مريم
ماهيّة سرّ التوبة
هو سرّ المصالحة مع اللـه والذات والآخرين، سرّ الارتداد والاهتداء.
سرّ تغيير الحياة والمسلكيّة والعلاقات وتجديدها. تجديد النذور والعهود. نتلمسّ جوهر هذا السرّ ومضمونه في مثل الابن الشاطر، فهو لوحة فاتنة الجمال تعبّر عن موقف الانسان الخاطئ واختبار الضعف والغرور، وهو يتوهّم أنّ حرّيته وكرامته، ذاتيّته وسعادته تكمن في البعد عن اللـه وألفة بيته، والاستقلال والانفصال عنه. فإذا الشقاء والفقر والذلّ. هو حقيقة حنان الاب وانتظاره عودة الخطأة وارتدادهم إليه؛ هو سرّ غفران الآب ومحبته.
لقد اعتُبر سرّ التوبة في الكنيسة، كتجديد لسر المعموديّة المقدّسة وإعادة لحالة البرارة الأولى. ولكي تتضح لنا ماهيّة السرّ، لا بدّ من لمحة تاريخيّة تضعنا في جوّه الأصيل.
طقوس التوبة في العهد القديم:
يوجد في العهد القديم رتب طقسيّة لمغفرة الخطايا وللتوبة، يشترك فيها الكاهن والجماعة وتُقدّم فيها ذبائح تكفيريّة ويتمّ إقرار بالخطايا وأعمال توبة. (سفر العدد 15/22-31).
طقوس التوبة في العهد الجديد:
تطوّر وتحوّل مفهوم التوبة في العهد الجديد، فالتوبة ترتبط بالملكوت وهي دخول فيه، «توبوا فقد اقترب ملكوت اللـه ». هي طرح جديد ومنطق جديد لإنسانٍ جديد.أشار السيّد المسيح إلى أن الاب هو الّذي يغفر الخطايا. وشدّد أيضًا على أنّ ابن البشر له السلطان على الارض بأن يغفر الخطايا (متّى9/6). وقد منح السلطان الالهيّ والمسيحانيّ لبطرس وللرسل. «سأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكلّ ما تربطه على الارض يكون مربوطاً في السماوات، وكلّ ما تحلّه على الارض يكون محلولاً في السماوات » (متّى 16/18-19) .
وأيضًا بعد القيامة « نفخ فيهم وقال لهم: خذوا الروح القدس، فمن غفرتم خطاياهم غُفِرَتْ لهم، ومن أمسكتم خطاياهم أُمْسِكَتْ » (يوحنّا 20/21-24).وهكذا أسّس السيّد المسيح سرّ التوبة ومنح كنيسته سلطان مغفرة الخطايا، دون تحديد الطريقة والكيفيّة لمنح الغفران.
الكنيسة وسلطان الحلّ:
كانت التوبة، في الاجيال المسيحيّة الستة الاولى، تعتمد الاعتراف العلني، أي القيام بأعمال التوبة العلنيّة، كالصوم والصلاة والصدقة، ولمرّة واحدة في الحياة، وذلك لشعور الكنيسة بقداستها وضرورة قداسة أعضائها وحفظ حرارة الايمان وقداسة المعموديّة في قلوب المهتدين.أمّا التوبة فكانت تفترض إحدى الخطايا الكبائر الثلاث: الجحود- القتل- الزنى.
- الجحود: يعني إنكار اللـه وكسر علاقة المحبّة معه وتأليه الأصنام والأوثان.
- القتل: يشمل، القتل الجسديّ، والروحيّ والمعنويّ، قتل محبّة القريب في القلب.
- الزنى: خيانة العهود مع اللـه والناس.
تخبرنا قصّة الخلق أنّ اللـه خلق الانسان ليكون سعيدًا في علاقته باللـه والاخرين والكون، فرفض الانسان هذه الدعوة وحطّم كلّ شيء.
هذا الموقف سبّب الانفصال عن اللـه وكسر علاقة الإبن بالآب.
سبّب الانفصال في العائلة الزوجيّة وبدأت الغربة والاتّهام بين المرأة والرجل. الانفصال في العائلة الأخويّة، وانقضّ قايين على أخيه وقتله فانكسرت الأُخوّة بين الناس.قضي على العائلة الاجتماعيّة فتصاعد الثأر والانتقام وبدأت مأساة الدم والتعدّي.قضى الانفصال على العائلة البشريّة، فانتفضت الامم ضدّ اللـه «هيّا نبني برجًا يطال رأسه السماوات». وبدأت بلبلة اللغات والمقاصد والمصالح تتآكل، في غوغائيّة وفوضى، بابل، وانعزاليّة وانغلاق صادوم: إنّها الجريمة الّتي قتلت اللـه في يسوع المسيح. "إنّها خطيئة العالم". ومن هنا حتميّة المُصالحة وعودة الوحدة واللقاء.
تبعات الخطيئة على الخاطئ:
- الانفصال عن الجماعة المؤمنة لانّه أحدث ضررًا بها، لأنّه عضوٌ مريض في ذاته ودوره، تعطّلت مهامه في خدمة الجماعة وأعاق حياتها ونشاطها.
- فقدان مرتبته في الكنيسة وحرمانه من الاشتراك في حياتها الأسراريّة والصلوات الجمهوريّة.
- أمّا دور الجماعة، نحو الخطأة، وهي صاحبة العلاقة، فيكمن في: مساعدة الخطأة على الارتداد وعلى القداسة بالصلاة والمثل، والبكاء والتضرّع لاجلهم، والتكفير عنهم بالصوم والتقشّف، ليعودوا إلى جسمها السّريّ.
مراحل التوبة:
1. طلب التوبة.
2. الإقبال على التوبة: وفي جوّ الصلاة الجمهوريّة يفرض الأسقف على التائب أعمال التوبة التكفيريّة الملائمة لحالته.
3. القيام بأعمال التوبة: يتعهّد التائب بما يفرض عليه ويقبله كوسيلة تكفير ودواء روحيّ.
4. المصالحة والحلّة: في نهاية المرحلة التكفيريّة تتمّ رتبة الغفران والمصالحة. والجماعة المسيحيّة، حول التائبين، ترتّل المزامير معهم وتصلّي لاجلهم وتقرأ أمثلة من الانجيل تشجّع على التوبة وعلى الثقة باللـه.
ثمّ يضع الأسقف يده على رؤوس التائبين، ويصالحهم مع اللـه ويعيدهم إلى الجماعة مع الحقوق الروحيّة السابقة.
انتقال الكنيسة من ممارسة التوبة العلنيّة الشاقّة إلى التوبة السّريّة الفرديّة:
إنّ هذه الطريقة القاسية وتجاوبًا مع حاجة النفوس، وتصحيحًا لاوضاع رعويّة شاذّة، حملت الكنيسة على تغيير الاطر الخارجيّة لسرّ التوبة، مع حرصها الشديد على تعاليم المخلّص، وللأسباب التالية:
1- امتناع البعض من الاقبال على التوبة او تأجيلها إلى ما قبل الموت خوفًا من الوقوع مرّة ثانية وهم يعيشون في قلق الضمير الدائم وهاجس الموت المفاجئ، فلجأت إلى إمكانيّة تكرار التوبة.
2- الخطر من التقدّم من المناولة في حالة الخطيئة.
3- الانتظام في سلك الحياة الرهبانيّة ومن دون دعوة حقيقيّة، وذلك بدافع الإِعفاء من أعمال التوبة العلنيّة لانّ حياتهم الرهبانيّة القشفة توازيها مشقّة واستشهاداً.وهكذا انتقلت التوبة من صفتها العلنيّة وصارت خاصّة، قابلة للتكرار؛ وتعمّمت في كلّ مكان منذ القرن السادس.
الاعتراف كما نمارسه اليوم:
لم يتبدّل السرّ بتبدّل طقوسه مراعاةً للظروف الرعائيّة، غير أنّه يمرّ بأزمة في مفهومه وحقيقته. يمرّ بأزمة لانّ المؤمنين يتهرّبون منه، وقد نتجت هذه الازمة من ضعف الايمان في الضمائر، وعدم وجود المفهوم الصحيح لماهيّة الخطيئة والتوبة وتربية الضمير.
مفهوم الخطيئة ومعناها المسيحيّ:
لا تفهم الخطيئة في المسيحيّة إلا من خلال الوحي: هذا الوحي دُعِيَ قديمًا العهد او الشريعة، وهذا العهد تجسّد وتكمّل بيسوع المسيح الإِله المتأنّس، وكلّ جرح أو رفض أو خيانة له هو خطيئة. الخطيئة ليست انتهاكًا لمحظور، يستوجب غضب اللـه، بل هي تضييق الحياة، عائقٌ للفرح وتقليص للكائن وكسرٌ للحُبّ.الخطيئة هي خيانة للعهد مع الله ورفض الانسان لعلاقة المحبّة مع الله وجرح للآخرين.
الخطيئة هي رفض اللـه والقطيعة والعداوة معه والتنكّر لعلاقة الصداقة والحبّ الشخصيّ الذي يربطنا به. الخطيئة المميتة هي الّتي تميت محبّة الله في قلبنا ومحبّة القريب.
هي محاولة اغتصاب الالوهة للانسان، وجعل ذاته مطلقًا ومرجعيّة لذاته. هو الّذي يقرّر ويحدّد ما هو الخير وما هو الشرّ. لا تتمّ الخطيئة إلاّ إذا توفّرت فيها ثلاثة أمور: المعرفة والإرادة والحرّيّة. إنّها موقف قناعة تحدّد مسؤوليّة الخاطئ.
تجسّدات الخطيئة في حياتنا:
1- أن نعطي الأشياء أكثر من قيمتها او أقلّ ونستعملها ونتعامل معها لغير المهمّة الّتي وُجدَت من أجلها، أن نستعمل الانسان ونحبّ الشيء.
2- عبادة الأوثان وتأليه المال والجنس والسلطة، العقل والغرائز على حساب اللـه، وتفشيل تدبير الخلاص في البشريّة والكون.
الخطيئة، في بُعدها الايجابيّ، هي أنّه لم يعد يكفينيّ أنا المسيحيّ، أن لا أبغض بل صار مطلوبًا منّي أن أحبّ وأعطي وأضحّي؛ أن أفتّش كم قصّرت بواجباتي ومسؤوليّاتي وعلاقاتي؟ كم سعيت لتحقيق مشروع الخلاص في ذاتي وعيلتي ومحيطي. كم جاهدت بصدق لتحقيق ملكوت المحبّة والخلاص في البشريّة والكون، وانطلاقاً من قداستي الشخصيّة والتزاماتي الخلاصيّة، صار مطلوب منّي ضميريًا: التحرّك باتّجاه القضاء على الشرّ والظلم والجوع والجريمة والحرب محبّة بالله.أتحرّك باتّجاه تحقيق مجتمع خيّر يخدم إنسانيّة الانسان وسعادته وكرامته وخلاصه وانطلاقًا من عائلتي وبيئتي.
مفهوم التوبة:
ليست التوبة في المسيحيّة ارتدادًا إلى أحكام الشريعة ولا إلى أصالة الذات، بل هي ارتداد إلى محبّة الله الحيّ.
1- هي الاتّجاه المعاكس للخطيئة.
فإذا كانت الخطيئة هي الغربة والاستقلال عن اللـه ورفض حبّه ودعوته بيسوع المسيح، تصير التوبة: الارتداد إليه والعودة إلى أبوّته والامانة لعهده والمصالحة معه. تفترض جوهريًا التغيير الباطنيّ الجذريّ بالحياة والمواقف والمسلكيّة والعلاقات مع اللـه والذات والاخرين. هي النظر إلى المستقبل لنعي متطلبات دعوتنا الإنسانيّة والمسيحيّة، فنلتزمها وننمو بالمعرفة والحرّيّة والمحبّة.
من حتميّات التوبة:المصالحة مع اللـه والعودة إليه، إنّها لا تتحقّق إلاّ من خلال القريب. «اغفر لنا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا».
2- إنّها تفترض وجود فريق آخر، يمثّل اللـه والكنيسة، يأخذ التائب على عاتقه، يصلّي لأجله ويداوي أمراضه: هو الكاهن، بدونه لا تتمّ المصالحة ولا تُعطى الكفّارة والحلّ؛ بدونه لا يمكن الاشتراك في الحياة الالهيّة وحياة الكنيسة من جديد، وهنا يظهر البُعد الجماعيّ للسرّ ومهمّة الكاهن الحتميّة، فهكذا أراده المسيح وهكذا مارسته الكنيسة.
خــــلاصــــة:
إنّ تشويه سرّ التوبة وتردّدنا في ممارسته يعود إلى:
1- غموض مفهوم التوبة والخطيئة وضعف الايمان.
2- النظرة إلى السرّ من زاوية منطق المحاكمة : وكأنّنا في مناخ المحكمة والقاضي والمستنطق والاقرار والحكم وفرض العقوبة، عوض الاهتداء والارتداد والمصالحة مع اللـه والقريب، والاحتفال بمحبّة الله الّتي تشفي المرضى وتحي الموتى.
3- غياب دور الجماعة المصلّيًة المرافقة الضارعة من أجل الخطأة، وكأنّ الجماعة لم تعد مسؤولة عن قداسة أعضائها وارتدادهم.
4- عدم شعورنا بأنّ خطيئتنا الفرديّة تجرم إلى الكنيسة كلّها، وهي جسد المسيح السريّ ونحن أعضاء فيه، فما يصيب العضو في الجسم يتأثّر به الجسد كلّه.
5- النظرة إلى الكاهن وكأنّه قاضٍٍ، أكثر منه " الأب الروحيّ" ممّا يحصر دور التائب في التفتيش عن عدد الخطايا وسردها، أكثر منه في تحقيق اهتداء إلى اللـه وعودة إلى الجماعة المقدّسة وتجديد للحياة والعهود.كلّ هذا يوجب العودة إلى أصالة السرّ وطبيعته العفويّة، إلى جوّه الطقسيّ الكنسيّ، حيث يظهر: اللـه غافر الخطايا، الكاهن ناقل المغفرة، والكنيسة الوسيطة الضارعة من أجل أبنائها الخطأة.
هكذا يستعيد السرّ جاذبيّته الخلاصيّة ونستفيد من عطاياه. سرّ التوبة، هو سرّ رحمة اللـه، الراعي الصالح الّذي يبحث عن خروفه الضّال، ليعيده إلى أحضان الحنان والحرّيّة ويشركه في حياته وسعادته.هو سرّ ضعف اللـه أمام الانسان الّذي يحبّه، فاللـه محبّة وأبوّة وحنان، يكفيه أن نعود لينسى كلّ شيء ويعيد إلينا كلّ شيء. هو صديق الخطأة وعدوّ الخطيئة. سنظر إلى جهادنا ويبارك انتصاراتنا أكثر ما يحصي أخطاءنا.
في مَثَل الابن الضّالّ، لجأ الأخ الأكبر إلى منطق العقل والعقاب. حاول أن يحتكر الأبوّة لانّه حفظ الشريعة، ونسي منطق الحُبّ الأبويّ والأخويّ. أراد أن يتنكّر الأب لأبُوّته كما تنكّر هو للأُخوّة. فكان جواب الأب: منطق الغفران والحُبّ والرحمة، منطق الأبوّة الّتي تحتضن الجميع، في بيتها الوالديّ ويبدأ عيد اللقاء والوليمة.دعوتنا الدائمة أن نقتدي في هذا الوالد المحبّ.
ولا نرفض الحُبّ ونبقى فريسة الموت والضلال!
جمعيّة "جنود مريم"