والذين يسخرون مني فليندهشوا لخزيهم (مز 70 /4)
مقاييس الله تختلف عن مقاييس البشر
ـ حسناً قلت يا رب في سفر أشعياء النبي (55 : 8 ـ 9 ) 8
"لأَنَّ
أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ
الرَّبُّ. 9لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا
عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ"
و ما أكثر الأمثلة في الكتاب المقدس
التي تصب في مفهوم هذه الآية سواءً من العهد القديم أو العهد الجديد ففي
مثل الفريسي و العشار نرى أن الفريسي المعروف عنه أنه مدقق في الشريعة و
يضيق على نفسه من أجل تنفيذ الوصية حسبما قال بولس الرسول في سفر أعمال
الرسل (26 : 5 ) 5عَالِمِينَ بِي مِنَ الأَوَّلِ، إِنْ أَرَادُوا أَنْ
يَشْهَدُوا، أَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا الأَضْيَقِ عِشْتُ
فَرِّيسِيًّا. و الفريسي إنسان محترم يقول له الناس سيدي سيدي كما ورد في
(متى 23: 7 ) و هو رجل صوم و صلاة و يدفع العشور أما العشار فكان معروفاً
عنه أنه من طائفة محتقرة من الناس مشهورة بالظلم و القسوة و كان معروفاً أن
كل إنسان عشار هو إنسان خاطئ لذلك لما دخل السيد المسيح إلى بيت زكا
العشار تذمر الناس و قالوا كيف يذهب و يبيت في بيت رجل خاطئ هذه كانت
نظرتهم عنه لكن فكر الله عكس ذلك تماماً على الرغم أن صلاة الفريسي كانت
طويلة و ابتدأها بالشكر إذ قال اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ
مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ،و فيما
يقول هذا وقع نظره على العشار و قال وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ أَصُومُ
مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. فتميزت
صلاته بالفخر و الأنا و البر الذاتي و أيضاً تميزت بإدانة الآخرين و فيها
الكبرياء بأنه فوق مستوى سائر الناس ذاكراً فضائله أمام الله و يدين الناس
في نفس الوقت و للأسف مازالت هذه النفوس المشابهة لذلك الفريسي موجودة إلى
وقتنا هذا التي لها مظاهر التقوى لكن من داخلها تشكر الله أنها ليست مثل
باقي الناس الغير متعلمين الجاهلين الفقراء و لامثل تلك العائلة أو ذلك
الشخص وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ
يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ
قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ
صلاة قصيرة لكنها
معبرة ، فوقوفه من بعيد و نظره منكساً نحو الأرض و قرع الصدر , كلها
تعابير عن الندم و الأسف و التواضع ، فالواقف من بعيد كانت صلاته قريبة من
الله لأنه قالها بانسحاق روح كما يقول المزمور (51 : 17 ) 17ذَبَائِحُ
اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ و ما أجمل الجملة التي قالها السيد المسيح
في نهاية هذا المثل 14أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ
مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ،
وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ».
ـ و أيضاً في مثل الغني و
أليعازر : يقول المثل 22فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ
إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ، ربما
أقيمت لهذا الغني حفلات تأبين و قصائد شعر تمدح سيرة حياته ذاكرةً فضائله
واصفةً مدى عظمته و مكانته المرموقة في المجتمع ـ هذه نظرة الناس ـ لكن
نظرة الله تختلف تماماً عن ذلك و هذا ما تبين لنا من خلال مصيرهما فالغني
رَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الجَحِيمِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى
إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، فأليعازر الذي كانت
الكلاب بمثابة أصدقاء له إذ كانت تلحس قروحه الجلدية و ينتظر معها الفتات
الساقط من مائدة الغني , لذلك السيد المسيح لم يقل للذين عن اليسار في (
متى 25 : 41 ) اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ
الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ، لأنهم خاطفين أو
ظالمين أو زناة أو متكبرين بل لأنهم لم يطعموا الجائع و لم يسقوا العطشان
........ فكان مصير أليعازر مختلفاً عما كان يظنه الناس بأنه هل يعقل بأن
الغني سوف يكون مصيره هكذا ....... لكن مقاييس الله تختلف عن مقاييس البشر .
ـ
أيضاً عندما نقرأ في ( مرقس 12 : 41 ) 41وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ
الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي
الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا.
42فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا
رُبْعٌ.و في هذه الحادثة كان السيد المسيح هو الذي يراقب ليس أحد آخر و ما
زال المسيح يراقب إلى الآن و بمنظور إلهي أما من المنظور البشري ماذا يساوي
هذان الفلسان أمام قطع النحاس الملقاة داخل الخزانة من قبل مجموعة من
الأغنياء إذ كانوا يلقون كثيراً لكن ليس من عوزهم , أي قيمة ما وضع لا يؤثر
على ميزانيتهم العامة ظانين أن ما ألقوه هو الكثير و إذا حسبنا القيمة على
أيامنا هذه قد تكون ألوف أو مئات الألوف لكن ماذا تشكل أمام الملايين و
مئات الملايين فمن المنظور البشري كان هذا كثيراً أما من المنظور الإلهي
يختلف تماماً إذ أن السيد المسيح دَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ
لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ
قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِن جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ،
44لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ
إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا».
هذا يرينا
أن صدى قطع النحاس و هي ترن نازلة إلى الخزانة لم يسمعها الله بل كان صوت
الفلسين مدوياً في مسامع الله : فالله هو الذي يسد العوز و ليس أحد سواه
لذلك حسابات البشر قد تختلف في أحيان كثيرة عن حسابات الله
ـ حتى
في العهد القديم كان هذا المفهوم جلياً جداً و في عدة مواضع يذكرها الكتاب
المقدس ففي سفر الخروج إصحاح 14 تظهر بكل وضوح أن حسابات و مقاييس البشر
تختلف عن مقاييس الله إذ تذمر اليهود على موسى النبي عندما وصلوا في
ترحالهم و هم نازلون عند البحر عند فم الحيروث أمام بعل صفون إذ قالوا له
«هَلْ لأَنَّهُ لَيْسَتْ قُبُورٌ فِي مِصْرَ أَخَذْتَنَا لِنَمُوتَ فِي
الْبَرِّيَّةِ؟ هذا ما تراه عيون البشر لكن الله إله قوي يستطيع أن ينقذ و
يخلص شعبه و سلطانه ليس فقط على البشر بل حتى على الطبيعة بما فيها من بحار
و أنهار و جبال , فعلق أرضاً على مياه البحر و عبر شعب إسرائيل في وسط
البحر على اليابسة و مجد الله اسمه في فرعون و مركباته و فرسانه و أنقذ
شعبه المتذمر على موسى بأنهم حسب منظورهم و حساباتهم أنهم هالكين لا محالة
لأن البحر من أمامهم و فرعون و مركباته و فرسانه من خلفهم
لكن مقاييس الله تختلف عن مقاييس البشر
ـ
أيضاً حادثة حصلت مع أليشع النبي و غلامه جحزي في سفر أخبار الملوك الثاني
الإصحاح السادس عندما حاصر ملك آرام الموضع الذي يقيم فيه رجل الله أليشع (
دوثان ) بخيل و مركبات و جيش ثقيل للقضاء على أليشع و من معه فماذا يفعل
هذا الرجل لوحده أمام هذه الأعداد المهولة من الجيش و العسكر حتى قال له
غلامه جحزي «آهِ يَا سَيِّدِي! كَيْفَ نَعْمَلُ؟» فمن الفكر و النظرة
البشرية أنهم هالكون هالكون لا محالة لكن الله له رأي آخر يتجلى في رد
أليشع على غلامه حجزي إذ قال له : «لاَ تَخَفْ، لأَنَّ الَّذِينَ مَعَنَا
أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُمْ». 17وَصَلَّى أَلِيشَعُ وَقَالَ: «يَا
رَبُّ، افْتَحْ عَيْنَيْهِ فَيُبْصِرَ». فَفَتَحَ الرَّبُّ عَيْنَيِ
الْغُلاَمِ فَأَبْصَرَ، وَإِذَا الْجَبَلُ مَمْلُوءٌ خَيْلاً وَمَرْكَبَاتِ
نَارٍ حَوْلَ أَلِيشَعَ. 18وَلَمَّا نَزَلُوا إِلَيْهِ صَلَّى أَلِيشَعُ
إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «اضْرِبْ هؤُلاَءِ الأُمَمَ بِالْعَمَى».
فَضَرَبَهُمْ بِالْعَمَى كَقَوْلِ أَلِيشَعَ. و من هنا نرى أن حسابات جحزي (
البشر ) تختلف عن حسابات الله
فالأمر الذي يجب أن ندركه أن مقاييس الله غير مقاييس البشر بل يجوز عكسها تماماً