الرب يؤتي العزة شعبه الرب يبارك بالسلام شعبه ( مز 29 /11)
البيان ليوسف 2006-2007 - المطران بشارة الراعي
البيان ليوسف
الله في كشف دائم لمقاصده الخلاصية
من انجيل القديس متى 1/ 18-25
قال متى الرسول: أما ميلاد يسوع المسيح فكان هكذا: لما كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف، وقبل ان يسكنا معاً، وجدت حاملاً من الروح القدس. ولما كان يوسف رجلها باراً، ولا يريد ان يشهّر بها، قرر ان يطلقها سراً. وما إن فكر في هذا حتى تراءى له ملاك الرب في الحلم قائلاً: " يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، فالمولود فيها إنما هو من الروح القدس. وسوف تلد ابناً، فسمه يسوع، لانه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم". وحدث هذا كله ليتم ما قاله الرب بالنبي: " ها إن العذراء تحمل وتلد ابناً، ويدعى اسمه عمانوئيل، اي الله معنا". ولمّا قام يوسف من النوم، فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته. ولم يعرفها، فولدت ابنهاً. وسماه يسوع.
**
الملاك الذي بشّر زكريا ومريم في اليقظة، هو اياه بشّر يوسف في الحلم. هكذا تكتمل البشارات الثلاث التي اوحى الله فيها ذاته المتجلية في الكلمة المتجسد يسوع المسيح، وكشف سرّ الانسان كمعاون لعمل الله الخلاصي في شخص يوحنا المعمدان ومريم ويوسف، وابان ان العائلة هي المكان الذي يتواصل فيه الوحي واعلان مقاصد الله.
اولاً، مضامين النص الانجيلي
1. تكامل البشارات الثلاثاء
أوحى الله ذاته بشكل متكامل وكشف سر الانسان:
في البشارة لزكريا بمولد يوحنا(لو1/5-25)، اوحى الله ذاته انه صادق في الوعد، ومستجيب لصلاة الابرار، ومفتقد شعبه السائر في ظلمات هذه الدنيا، واله غني بالرحمة. وكشف سرّ الانسان بشخص يوحنا المعمدان، هو الصوت الذي يسبق الكلمة ويعبّر عنها، والبشير الناطق بكلام الله، والفجر الذي يعكس اقتراب طلوع الشمس، والسابق الذي يمهّد طريق المسيح الى القلوب والعقول.
في البشارة لمريم بتجسد ابن الله وامومتها له (لو1/26-37)، اوحى الله ذاته بشخص المسيح انه اله واحد مثلث الاقانيم: آب خالق بحبه، وابن مخلص بتجسده، وروح قدس محيي ومقدِس بحلوله، وان المسيح كلمة الله المتجسد يوطّد في الارض ملكه الدائم الى الابد، هو ملكوت الله الظاهر في الكنيسة السر والشركة والرسالة، مبتدئاً في التاريخ على الارض ومكتملاً بالابدية في السماء. وكشف الله سرّ الانسان بشخص المرأة مريم التي هي زوجة تحب وام تعطي الحياة، وعذراء طاهرة تقدم ذاتها بسخاء وتجرّد من دون حساب وام نقية روحية تشفع وتحمي وتواكب الحياة البشرية من البداية حتى النهاية، وانثى تؤنسْ المجتمع وتنعش البيت كما الروح ينعش الجسد.
في البشارة ليوسف بابوته ليسوع المخلص وببتولية مريم خطيّبته ( متى1/18-25)، اوحى الله ذاته انه بشخص الابن الذي يصبح انساناً اسمه في التاريخ يسوع اي " الله الذي يخلص شعبه من خطاياه"، ويتضامن مع كل انسان في شتى مراحل حياته، ويحضر بقربه في كل ظروفه وحالاته بكلمته ونعمته ومحبته الى منتهى الدهر، لكونه " عمانوئيل- الهنا معنا ". وكشف سرّ الانسان بشخص يوسف الذي هو زوج امين للوعد يتعهد شريكة الحياة باخلاص ويحمي كرامتها، واب محب يتفانى بالعمل في اعالة الاسرة ورعاية الحياة البشرية، ورجل مسؤول يحافظ على الكنزين: الام وابنها، ومعطيهما هوية عائلية واسماً في سجل العائلة البشرية، ومربٍ لابنه بالمثل والعمل.
1. الحبل بلا دنس الاساس البعيد للبيان ليوسف
2.
احتفلت الكنيسة في الاسبوع الماضي بعيد الحبل بلا دنس الذي يأتى بمثابة اساس للبيان ليوسف تكامل مع البشارة لمريم.
البراءة التي اعلن بها الطوباوي البابا بيوس التاسع عقيدة الحبل بلا دنس في 8 كانون الاول 1854، وعنوانها: "الله غير المدرك" ( Ineffabilis Deus)، قالت: " ان الله غير المدرك اختار مرة منذ البدء وقبل الدهور اماً لابنه الوحيد الذي سيولد منها بالجسد وهو المولود من قلب الآب مساوياً له في جوهر الالوهة، وجعلها فوق جميع الخلائق، متقدمة على الملائكة وجميع القديسين، واغناها بغزارة المواهب الفائضة من كنز الالوهة، وحررها من كل دنس خطيئة وجمّلها بكمال البراءة والقداسة، وعصمها من وصمة الخطيئة الاصلية ونصرها على الحية القديمة، وزيّنها ببهاء القداسة الكاملة". ويضيف البابا في براءته: " لمجد الثالوث الاقدس، ولاكرام لائق بالعذراء والدة الاله، ولتعزيز الايمان الكاثوليكي والدين المسيحي، اناّ بسلطان سيدنا يسوع المسيح والرسولين بطرس وبولس وبسلطاننا نحدد ونعلن العقيدة بان العذراء مريم الكلية الطوبى، بنعمة خاصة وامتياز من الله القادر على كل شيء، حفظت من كل دنس الخطيئة الاصلية منذ اللحظة الاولى للحبل بها، استباقاً لاستحقاقات المسيح يسوع مخلص الجنس البشري. انها عقيدة موحاة من الله، ينبغي على جميع المؤمنين الايمان بها بثبات وشكل دائم".
في البيان ليوسف انكشف الوحي الالهي بشأن عقيدة الحبل بلا دنس بطريقة غير مباشرة.
مريم زوجة يوسف، التي لم تنتقل بعد الى بيته ولم تساكنه، هي العذراء الحبلى من الروح القدس بيسوع " الاله الذي يخلص شعبه من خطاياه". المرأة العذراء نبؤة نجدها في الصفحة الاولى من سفر التكوين، حيث تظهر مع ابنها بدون رجل: " اجعل عداوة بينكِ ( الحية القديمة- الشيطان) وبين المرأة، بين نسلكِ ونسلها، هو يسحق رأسكِ، وانت تترصدين عقبه" ( تك3/15). يكشف اشعيا مضمون النبؤة: "يؤتيكم الرب آية، ها ان العذراء تحبل فتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل" (اشعيا 7/14). ونجد رموزها العديدة في كتب العهد القديم: العليقة المتقدة التي رآها موسى تلتهب ولا تحترق، وكان منها نداء الله لخلاص شعبه ( خروج3/1-11)؛ عصا هارون التي ابتلعت عصي سَحَرَة مصر التي انقلبت تنانين (خروج7/12)؛ جزّة جدعون التي ملأها الندى ( قضاة 6/38)؛ العروس البستان المقفل والينبوع المختوم ( اناشيد4/12).
كانت ان مريم الام العذراء تحفظ في صميم قلبها الرغبة في تكريس ذاتها لله وحده تكريساً كاملاً، بحيث تقف ذاتها كلياً له وحده، كما نفهم من سؤالها للملاك: " كيف يكون هذا وانا لا اعرف رجلاً"( لو1/34). لكن الله سبق وكرّسها له في اللحظة الاولى للحبل بها، تكريساً عصمها من خطيئة آدم الاصلية. واليوم يحقق رغبتها في تكريس بتوليتها له بصيرورتها حصراً اماً لابن الله بفعل الروح القدس ( البابا يوحنا بولس الثاني: حاري الفادي،18). امومتها لابن الله بالجسد هي ثمرة تكريسها المزدوج المصدر: تكريس من الله وتكريس منها.
مريم زوجة يوسف هي المرأة الحامل بفعل الروح القدس: " لا تخف يا يوسف ان تأخذ مريم امرأتك، لان الذي ولد فيها هو من الروح القدس" ( متى1/20). لقد رأها يوحنا الرسول في بهاء سرّها ورسالتها كأم المسيح الاله وام جسده السري، الكنيسة: " ظهرت آية عظيمة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها اكليل من أثني عشر كوكباً، حاملٌ تصرخ من ألم المخاض. وظهرت آية اخرى: تنين كبير اشقر له سبعة رؤوس وعشرة قرون... وقف امام المرأة التي توشك ان تلد، حتى اذا وضعت ولدها ابتلعه" ( رؤيا 12/1-4).
رؤيا يوحنا ترجمت نبؤة سفر التكوين (3/15)، وافتتحت نبؤة العهد الجديد: " يا امرأة هذا ابنك" ( يو19/26)، وهي امومة مريم بالنعمة للكنيسة، جسد المسيح السري، وللجنس البشري؛ وكشفت ان الكنيسة هي على صورة مريم، عذراء وام، ام ومعلمة؛ واظهرت بُعدها النهيوي- الاسكاتولوجي، اعني انتصار الكنيسة الدائم على التنين وسائر قوى الشر: " ابواب الجحيم لن تقوى عليها" ( متى16/18)، وهي قوى الشر" القائمة على رمال بحر هذا العالم، تحارب سائر نسل المرأة الذين يحفظون وصايا الله، والذين لهم شهادة يسوع" ( رؤيا12/17-18).
في لوحة البيان ليوسف، انكشف سرّ الرجل في عمل الله الخلاصي، الى جانب المرأة. حاول يوسف ان يخلي سبيل مريم سراً ( متى1/19)، بعد ان قرر انسحابه لئلا يعرقل الخطة الالهية التي باتت تتحقق في مريم". لكنه ادرك ان الخطة الالهية تشمله هو ايضاً كزوج لمريم وابٍ شرعي ليسوع ومربٍّ له.
فالله يريده، بقوة العهد الزوجي، شريكاً لمريم في كرامتها السامية، ورفيقاً لحياتها، وشاهداً لبتوليتها، وحارساً لشرفها. ويريده اباً لابنه الالهي، لا بالانجاب، بل باعطاء الاطار البشري لأسرة ابن الله. فهو الاب بالاصالة البشرية وحامل كل دور الاب في العائلة. ويدعوه الى كمال حبه الزوجي لمريم، مجدداً اياه بالروح القدس، فوهب يوسف كل ذاته وحياته وعمله لمريم، وحوّل دعوته البشرية لتأسيس عيلة الى تقدمةً ذاته وقلبه وجميع طاقاته وبذلها في خدمة المخلص المولود في بيته (حارس الفادي،8 و10 و21). هكذا، بطاعة الايمان أخذ يوسف مريم الى بيته واحترم تكرسّها المطلق لله" فلم يعرفها، وولدت ابنها البكر" (متى1/25).
2. القديس يوسف معلم ثقافة السلام
عاش يوسف البار في مخافة الله، ساعياً الى مرضاته، ما جعله في حالة اصغاء دائم لما يقول الرب ويوحي، في اليقظة وفي الحلم. فاتّصف بالحكمة التي مكّنته النظر الى احداث حياته من منظار الله: " لما قام من نومه، صنع كما امره ملاك الرب، فاخذ مريم امرأته الى بيته، ولم يعرفها، فولدت ابنها البكر، يسوع". انها ثقافة السلام.
لقد حمى يوسف كرامة مريم خطيبته البريئة، وهي البتول الحبلى بيسوع بقوة الروح القدس، دون ان يشك بشأن حبلها. جابه النزاع بتجنّب اللجوء الى القضاء، وفكّر بتخلية مريم سراً. هذا الموقف يشكلّ الاساس في بناء السلام. جميع القوانين تدعو الى الحلول السلمية مثل المصالحة والتحكيم والتسوية، قبل الذهاب الى المحاكمة القضائية البغيضة. لم يشك يوسف ببراءة مريم، فسعى الى حمايتها.
السلام يوجب حماية الابرياء، على مستوى الافراد والشعوب. في كثير من الظروف السكان المؤنيون يُضربون ويُستهدفون في النزاعات المسلحة. يُقتلون ويُهجرون من بيوتهم وأراضيهم بطريقة وحشية. وتُعطّل مصالحهم وتُخرّب مؤسساتهم، وتقطع طرقاتهم، وتُدمّر جسور معابرهم. هذا ما عشناه مؤخراً في لبنان في الحرب المدمّرة التي فرضت عليه طيلة 33 يوماً في تموز ? آب 2006. ان الشرع الدولي الانساني يقضي بحماية الابرياء، فيجب احترامه. كم العالم بحاجة الى انسنة!
ونحن ايضاً المؤتمنين على السلام، عطية الله للبشرية بشخص يسوع المسيح، الذي نستعد لاستقباله في قلوبنا، مدعوون الى التشبّه بفضيلتي القديس يوسف البتول، الحكمة ومخافة الله. بالحكمة نستلهم انوار الروح القدس لننظر الى احداث حياتنا والى الاشخاص من منظار الله، بروح الحنان والانصاف. وبمخافة الله نسعى في كل موقف وقرار وعمل الى مرضاة الله، مدركين اننا اليه تعالى نسيء عندما نرتكب الاساءة الى الانسان. الحكمة ومخافة الله تحميان الابرياء، وتبنيان ثقافة السلام.
**
ثانياً، وجوه عاشت في الحكمة ومخافة الله
من بين القديسين المعاصرين الجدد، نذكر وجهين من العلمانيين المؤمنين بالمسيح، بلغا الى القداسة من خلال نشاطهما الزمني في الطب والادارة المدنية، وعززا ثقافة السلام.
القديس جوزبّي موسكاتي (Giuseppe Moscati) (1880-1927)
اعلنه قديساً البابا يوحنا بولس الثاني. هو طبيب ورئيس قسم في مستشفى مدينة نابولي. تربّى في عائلة مسيحية حقة، اختبر الألم الخلاصي بوفاة الوالد عندما كان طالباً جامعياً، وبوفاة شقيق له بعمر 32 سنة بداعي المرض. عاش الدعوة الى القداسة في حياته العلمانية، وقال عنه البابا يوحنا بولس الثاني ان هذا القديس يدعو العلمانيين الى اعتبار دعوتهم الى القداسة كأبناء للكنيسة.
الطوباوي البرتو مارفيلّي (Alberto Marvelli) (1918-1946)
أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباوياً في 5 ايلول 2004. تربى في عائلة من ستة اولاد، وانتمى الى منظمة العمل الكاثوليكي فإلى الحزب الديموقراطي المسيحي في ايطاليا وانتخب عضواً في مجلس بلدية مدينة ريميني(Rimini). خدم المحبة اثناء الحرب الكونية الثانية واتخذ مواقف إيمانية وجعل من القداس اليومي ينبوع نشاطه الكنسي والاجتماعي والسياسي مقتنعاً بضرورة العيش بشكل كامل كإبن لله في التاريخ. توفي بحادث سير وهو بعمر 28 سنة.
**
ثالثاً، الخطة الراعوية
وفي زمن المجيء والميلاد، وهو زمن الرجاء، تواصل الخطة الراعوية التفكير معاً، على مستوى الجماعات في الكنيسة والمجتمع، حول " كنيسة الرجاء" وهو عنوان النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني، فنفكّر سوية في علامات الرجاء.
1. الرسالبة في المحيط المشرقي ( فقرة 25)
يذكّرنا النص المجمعي ان للمسيحيين في هذا الشرق، الذي تدين اكثرية سكانه بالدين الاسلامي، رسالة لها جذورها التاريخية ومبرراتها، ولو كانت محفونة بالاخطار. ان حضورهم هو للشهادة والرسالة والخدمة. هذا ما ردده بطاركة الشرق الكاثوليك في رسالاتهم الراعوية المشتركة. لهذه الثلاثة كان خيارهم في هذا الشرق، والتزامهم بالعيش المشترك القائم على الاحترام والحوار والتعاون لبناء وطن يسوده الحق والعدل.
تقتضي الخطة الراعوية من الجماعات اتخاذ مبادرات عملية لاداء الشهادة والقيام بالرسالة وتأدية الخدمة، في ضوء انجيل اليوم.
2. وعي المسيحيين العوام دورهم في حياة الكنيسة ورسالتها ( فقرة 26).
ان هذا الوعي آخذ في التنامي، ولاسيما على مستوى الشبيبة والمرأة. يشير النص المجمعي الى مساهمة الاخويات والمنظمات الرسولية، ومعاهد التثقيف الديني، ووسائل الاعلام الدينية، في تنامي هذا الوعي,
تقتضي الخطة الراعوية ايجاد السبل لتعزيز الانتماء الكنسي، على مستوى المشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها، والتشجيع على القيام بالمهمات الكنسية على صعيد الرعية والابرشية واللجان الاسقفية الراعوية. يبقى القديس يوسف البتول النموذج والمثال.
**
صلاة
ايها القديس يوسف، شفيع الكنيسة، انت العامل الصامت في كرم الرب، من اجل حراسة الكنزين الاغليين مريم ويسوع. مساهماً في حياة ورسالة الكنيسة الناشئة في الناصرة، بارك كنيستنا المحلية، في الرعية والابرشية والوطن، اعضدها دائماً وسرّ بها الى الامام في طريق الامانة للانجيل. اعطِ ابناءها وبناتها نعمة الالتزام في حياتها ورسالتها، على مثالك. ساعدنا لكي نصغي الى الهامات الروح. احمِ السلام في العالم، هذا السلام الذي يستطيع وحده ضمانة ترقي الشعوب، وتحقيق الآمال البشرية. نسألك ذلك من اجل خير البشرية ورسالة الكنيسة اومجد الآب الذي اختارك والابن الذي شرّفك بابوته والروح القدس الذي قاد خطاك وقراراتك، للاله الواحد الحق كل مجد واكرام. آمين ( مقتبسة من صلاة البابا بولس السادس).
****