هذا هو اليَومُ الَّذي صَنَعَه الرَّبُّ فلنبتَهِجْ و نَفرَحْ فيه ( مز 118 : 24 )
ختانة الطفل يسوع ورأس السنة ويوم السلام العالميّ 2005-2006 - المطران بشارة الراعي
ختانة الطفل يسوع ورأس السنة ويوم السلام العالميّ
إنجيل القدّيس لوقا 2/21
سلامنا، هبة ومسؤوليّة
تحتفل الكنيسة اليوم باسم يسوع وبرأس السنة الجديدة التي يطبعها باسمه، لتكون سنة خلاص وسلام للانسان وللشعوب والدول. ولهذا تحتفل بيوم السلام العالميّ الذي أسّسه بإلهام مشرق البابا بولس السادس في 8 كانون الأوّل 1967، من أجل تعزيز ثقافة السلام .منذ ذلك الحين حتّى يومنا، والأحبار الرومانيّون يوجّهون سنويًّا رسالة إلى العالم في مناسبة يوم السلام العالميّ.
أوّلاً، معاني العيد
1. دعي اسمه يسوع
«في اليوم الثامن لولادته تمّت ختانة الطفل، ودعي اسمه يسوع». الختانة رتبة طقسيّة عند اليهود (تكوين 17/10-14) للدلالة على العهد مع الله: «فأذكر عهدي مع يعقوب ومع اسحق ومع ابراهيم، وأذكر الأرض? وأكون لهم إلهًا أنا الربّ» (أحبار 26/42 و45) ، وعلى الانتماء إلى الشعب المختار، وعلى تطهير القلب ليحبّ الانسان الله فيحيا: «ويختن الربّ إلهك قلبك وقلب نسلك، لتحبّ الربّ إلهك بكلّ قلبك وبكلّ نفسك لكي تحيا» (تثنية الاشتراع 30/6)، ويضيف بولس الرسول: «ليس الختان بما يبدو في ظاهر الجسد، بل الختان ختان القلب العائد إلى الروح، لا إلى حرف الشريعة. ذاك هو الرجل الذي ينال الشفاء من الله لا من الناس» (روم 2/28-29). وأخيرًا على الخضوع لله وتأدية العبادة له بالروح (فليبّي 3/3).
في رتبة الختانة يُعطى المولود الجديد اسمًا. هذا ما يجري في المسيحيّة عند منح سرّ المعموديّة والتثبيت (الميرون).
«دعي اسمه يسوع، كما سمّاه الملاك قبل أن يحبل به»
«يسوع» اسم عبريّ «يشُوَعٍْ»، لفظة مصغّرة لـ«يهو ?شٌوَعْ» أي «الله هو الخلاص». أمّا اسم «المسيح» بالعبريّة «ماشيح»، وبالأرامية «مشيحا»، وباليونانيّة «كريستوس»، فيعني «الذي» مسحه الله وكرّسه وأرسله لخلاص البشر.
في الثلاثين من عمره، بعد نيل معموديّة يوحنّا وامتلائه من الروح القدس وإعلان بنوّته الالهيّة للآب على نهر الأردن (لو 3/21-23)، أعلن يسوع مضمون اسمه ورسالته المسيحانيّة بشكل رسميّ في الهيكل: «روح الربّ عليّ، مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين، وأعلن للمأسورين تخلية سبيلهم، وللعميان عودة البصر إليهم، وأفرّج عن المظلومين، وأعلن سنة رضى عند الربّ» (لو 4/18). وقد اختصرت كلّها بكلمة واحدة هي السلام، كما أنشده الملائكة ليلة ميلاده:«السلام في الأرض للناس الذين يحبّهم الله» (لو 2/14)، وأعلنه بولس الرسول: «المسيح سلامنا» (أفسس 2/14).
2. يسوع عطيّة السلام
يحتفل العالم اليوم مع الكنيسة «بيوم السلام العالميّ». إنّه احتفال بالمسيح الذي هو سلامنا عطيّة السلام لجميع الناس، أعطيت منه يوم القيامة: «السلام لكم» (يو 20/19؛ 21/26). لقد أتى المسيح ليجمع ما كان منقسمًا، وينتزع الخطيئة والبغض، موقظًا في البشريّة الدعوة إلى الوحدة والأخوّة. إنّه المبدأ والمثال للبشريّة المتجدّدة، الممتلئة حبًا أخويًّا وإخلاصًا وروحًا مسالمًا، إليها يتوق الجميع.
تريد الكنيسة في هذا العالم الجديد أن تثبت دعوتها ورسالتها بأن تكون في المسيح سرًّا (sacrement) أي علامة السلام وأداته في العالم ومن أجل العالم. وهي تفعل ذلك بوضع إنجيل السلام في خدمة الجنس البشريّ. عندما نقول الكنيسة نعني رعاتها ومؤمنيها، جماعاتها ومؤسّساتها، بل كلّ الناس ذوي الارادة الحسنة.
ولأن السلام عطيّة من الله لأرضنا ، فقد بات الالتزام به عملاً جوهريًّا. فهو كالمبنى في طور بناء دائم، والكلّ مدعوّ للالتزام به: الأهل في العائلة ليعيشوا السلام ويشهدوا له ويربّوا أولادهم عليه؛ المعلّمون في المدارس والجامعات لينقلوا قيم المعرفة وتراث البشريّة التاريخيّ والثقافيّ؛ الرجال والنساء في عالم العمل ليناضلوا في سبيل كرامة العمل البشريّ على أساس العدالة والتضامن؛ حكّام الدول لكي يضعوا في قلب عملهم السياسيّ العزم الثابت على الالتزام بالسلام والعدالة؛ العاملون في المنظّمات الدوليّة لكي يواصلوا عملهم كفاعلي السلام بالرّغم من المخاطر التي تهدّد سلامتهم الشخصيّة؛ المؤمنون لكي يعزّزوا بالحوار المسكونيّ وبين الأديان قضيّة السلام والحبّ، هم الذين يعتبرون أنّ الايمان الأصيل هو ضدّ الحرب والعنف.
3. يسوع أساس السلام الشامل
بميلاد ابن الله انسانًا، يسوع المسيح، في بيت لحم، كانت للعالم رسالة من السماء تؤكّد أنّ الله يحبّ جميع أناس الأرض ويعطيهم الرجاء بزمن جديد، هو زمن السلام، وأنّ حبّه الذي تجلّى بملئه في الابن المتأنّس هو أساس السلام الشامل. ذلك أنّ من يقبل الابن بكلّ قلبه، يصالحه الابن مع الله ومع ذاته، ويجدّد العلاقات بين الناس، ويذكي العطش إلى الاخوّة القادرة على تجاوز تجربة العنف والحرب. هذه الرسالة السماويّة تدعو البشريّة لتؤلّف عائلة واحدة على قاعدة العلاقات المتناغمة بين الأشخاص والشعوب، والانفتاح على الله المتسامي، وتعزيز كرامة الانسان، واحترام الطبيعة.
لكن البشريّة تصاب بخسارة كبيرة بسبب الحروب المتتالية والنزاعات وموجات القتل والتهجير التي تزرع وراءها البؤس والجوع والأمراض والتقهقر الاجتماعيّ والاقتصاديّ. على أساس هذه المآسي يوجد منطق الظلم والاستضعاف، الذي تغذّيه رغبة جامحة في التسلّط على الآخرين واستغلالهم. وإذا بالحروب تتسبّب غالبًا في حروب أخرى، لأنّها تذكي أحقادًا عميقة، وتخلق أوضاعًا من الظلم، وتدوس كرامة الأشخاص وحقوقهم. معروف أنّ من ينتهك الحقوق الانسانيّة إنّما ينتهك الضمير الانسانيّ، بل البشريّة ذاتها. ومع ذلك لنا بالميلاد رجاء أنّ السلام ممكن، ويجب التماسه كعطيّة من الله، وبناؤه يومًا بعد يوم بأعمال عدالة وحبّ، وبعون الله. وسيكون سلام بمقدار ما تكتشف البشريّة بأسرها دعوتها الأصليّة لتكون عائلة واحدة تحترم فيها كرامة الأشخاص وحقوقهم، أيًّا يكن عرقهم ودينهم وحالتهم. هذا ما تؤمن به الكنيسة، وتدعو إليه بلسان أحبارها الرومانيين في اليوم الأوّل من كلّ سنة، عبر نداءاتهم.
4. شروط السلام ومقتضياته
للسلام شروط يقوم عليها، ومقتضيات ينبغي الالتزام بها. نذكر منها:
التضامن الذي يجعل من البشريّة عائلة واحدة. إنّه يجد نقطة الارتكاز في مبدأ شموليّة خيرات الأرض التي أعدّها الله لجميع الناس. هذا المبدأ لا ينتزع شيئًا من شرعيّة الملكيّة الخاصّة، بل يكشف وظيفتها الاجتماعيّة. لا سلام بدون تضامن وبدون إنماء شامل للانسان والمجتمع.
الاقتصاد الذي يحتاج إلى مفهوم جديد. لا بدّ من العودة إلى أهداف الاقتصاد الرامية إلى توفير الخير العام. يُشّوه الاقتصاد إذا أصبح وسيلة تجعل الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقرًا. الاقتصاد الذي لا يولي أيّ اعتبار للبُعد الخلقيّ، ولا يحمل أيّ همّ لخدمة خير الشخص البشريّ، ليس جديرًا بأن يدعى «اقتصادًا"، بمفهومه كإدارة عقلانيّة ومفيدة للثروة الماديّة.
الانماء الذي لا يقف عند حدود المساعدة الطارئ، بل يكون التزامًا عمليًّا وواقعيًّا في جعل الفقراء فاعلي نموّهم، وفي تمكينهم من ممارسة ما عند الشخص البشريّ من طاقة خلاّقة. هذا الأمر يشكّل ثروة الأمم. يشمل الانماء المجتمع البشريّ بحيث يقتضي وعيًا للقيم الخلقيّة الشاملة، التي بدونها لا مجال لحلّ النزاعات ولتأمين مستقبل أفضل للبشريّة، قائم على العيش معًا وفق مقاصد الله، وعلى الحوار والتعاون بين الشعوب والثقافات والأديان، وعلى اللقاء بين العقل والايمان، وبين الحسّ الدينيّ والحسّ الخلقيّ.
المساعدة الانسانيّة التي هي حقّ لمليارات من الناس الفقراء، يفرضها مبدأ احترام الشخص البشريّ الذي يسمو ويفوق كلّ المؤسّسات. واجب لوقف كلّ اعتداء يتسبّب في إفقار الناس .
***
ثانيّا، الخطّة الراعويّة
«السلام ثمرة العدالة» يقول أشعيا النبيّ (32/17). «والانماء هو الاسم الجديد للسلام» (البابا بولس السادس: ترقّي الشعوب، 87).
أ- تبدأ الخطّة الراعويّة من الذات، من السلام الشخصيّ مع الله والناس، بالتوبة والمصالحة. كلّ واحد منّا، في بداية السنة الجديدة 2006، يلتزم بتجديد ذاته. هذه هي التوصية الأولى من المجمع البطريركيّ المارونيّ في ملفّه الثاني، وعنوانه التجدّد في الأشخاص والهيكليّات. بتجدّد الشخص تتجدّد الهيكليّات. الأساس هو تجديد الذات بسلام الضمير الآتي من سماع صوت الله في أعماق نفسي؛ وبالسلام مع حالتي الشخصيّة الناتج من الأمانة لدعوتي الخاصّة ولواجباتي؛ وبالسلام مع الله بالرّجوع إليه من حالة الخطيئة عبر سرّ التوبة والمصالحة والاغتذاء من الحياة الجديدة في الافخارستيا. ذاتي المتجدّدة هي نقطة أرخيميدس (187-212 ق.م.) التي منها أستطيع رفع العالم.
ب- لقاء الجماعة، في الرعيّة والأسرة والدير والمدرسة والمنظّمة الرسوليّة والمؤسّسة وما شابهها، يخلق جوًّا ملائمًا ليساعد كلّ شخص في إلقاء نظرة وجدانيّة على ذاته، واستخراج ما يجب تغييره وتجديده. ثمّ يصار إلى تبادل الأفكار والخبرات، ومن بعدها إلى رسم خطّة مشتركة لبناء السلام الداخليّ.
ج- تنتقل الخطّة الراعويّة إلى البعد الاجتماعيّ، لبناء السلام على المستوى الأفقيّ، أعني إنماء الشخص البشريّ والمجتمع، على قاعدة المحبّة والعدالة والخير العام، في ضوء كلمة البابا بولس السادس. «الانماء هو الاسم الجديد للسلام». نعني الانماء الشامل ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، كما نجده في النصوص المجمعيّة 18 و19 و 20 و21.
1) السلام الثقافيّ يتوفّر عندما يحفظ التراث الذي يشكّل هويّة الجماعة الحضاريّة بصفاتها وخصائصها، وهي حصيلة النتاج الماديّ والفكريّ والروحيّ والفنيّ، بأصوله السريانيّة والأنطاكيّة واللبنانيّة. يوصي المجمع البطريركيّ بكشف النقاب عن التراث والمحافظة عليه وإحيائه، حفاظًا على هويّتنا. فإهماله يعني اقتلاع الجماعة من جذورها، ما يعرّضها إلى خطر الذوبان السريع أو التغرّب عن بيئتها التاريخيّة والحضاريّة (النصّ 18: الكنيسة المارونيّة والثقافة).
2) السلام السياسيّ منوط بتوفير الخير العام، الذي يقتضي إيجاد الحلول لمشاكل المجتمع ولتأمين حقّ الانسان بالحريّة والعدالة والاستقرار والعيش الكريم والمساهمة في الحياة العامّة. فالعمل السياسيّ فنّ شريف، يصفه البابا بولس السادس «بالطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحيّ في خدمة الآخرين» (النصّ 19).
3) السلام الاجتماعيّ يتوفّر بخدمة المحبّة للمعوزين والمرضى والمعاقين، وبروح التضامن مع هؤلاء، ومساعدتهم للخروج من معاناتهم. إنّ تعليم الكنيسة الاجتماعيّ يشكّل أفضل ثقافة على مستوى السلام الاجتماعيّ (النصّ 20).
4) السلام الاقتصاديّ يتأمّن بتأمين فرص عمل للجميع، وتنشيط كلّ نشاط إنتاجيّ على مختلف الأصعدة، فيعيش الناس بطمأنينة وكرامة، ويحدّ من موجة الهجرة والبطالة.
إنّ الخطّة الراعويّة تقتضي من سائر القوى الحيّة في الرعيّة والأبرشيّة والمجتمع التفكير معّا والتخطيط والتطبيق. فبالتضامن والتعاون نبلغ مبتغانا المشترك.
صلاة
أيّها الربّ يسوع مخلّصنا، الاسم المقدّس الذي بشّر به الملاك، وفيه أسمى الأوصاف: المعلّم والرئيس والمشترع والكاهن والوسيط والذبيحة والفادي والمخلّص، يا أمير السلام، امنحنا أن نعتقد بأنّ السلام الحقيقيّ ممكن، لانّ البشر الذين جبلتهم على صورتك هم في أعماقهم صالحون. أعطنا ربّ، أن نكون فاعلي سلام، نبنيه على الحقيقة والعدالة والحريّة والمحبّة. لك المجد إلى الأبد.
* * *