(( إِنَّ لِلبارِّ ثَمَرًا إِنَّ في الأَرضِ إِلهًا ديانًا )). (مز 58 /12)
ميلاد الربّ يسوع 2005-2006 - المطران بشارة الراعي
ميلاد الربّ يسوع
إنجيل القدّيس لوقا 2/1-20
روحانيّة التجسّد
بميلاد ابن الله إنسانًا، عاد إلى كلّ إنسان بهاء إنسانيّته، ومنح الله العالم هبة السلام، وأعطى معنى للحياة البشريّة وللوجود التاريخيّ. هذا ما أنشده الملائكة ليلة الميلاد: «المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر» (لو 2/14).
أوّلاً، لوحة الميلاد
1. الاطار التاريخيّ
«صدر أمر من أغوسطس قيصر لتُكتتب شعوب المسكونة كلّها» (لو 1/1).
الاحصاء المسكونيّ يشكّل الاطار التاريخيّ للميلاد الذي يحدّد زمان هذا الحدث المحوريّ لتاريخ الخلاص، ويتّخذ منه معناه وأبعاده في التصميم الالهيّ.
فتاريخيًّا عرفنا أنّ ميلاد ابن الله إنسانًا حدث في بيت لحم، أثناء ولاية الامبراطور أغوسطس قيصر على المملكة الرومانيّة، وقوريناوس على المنطقة الجغرافيّة في المملكة، المعروفة بسوريا، ومن ضمنها فلسطين، وفي مناسبة الاحصاء المسكونيّ.
ولاهوتيًّا ندرك أنّ التاريخ البشريّ، وما فيه من أحداث، هو في خدمة تصميم الله الخلاصيّ، بحيث يتحقّق تصميم الخلاص، المكتوم في الله منذ الأزل، في أزمنة محدّدة. هذا يعني أنّ يد الله العليا والخفيّة هي التي تقود تاريخ البشر. ونفهم أيضّا أنّ ابن الله الأزليّ يلج تاريخ البشريّة، عبر إحصاء مسكونيّ يتسجّل فيه إنسانّا مولودّا في عائلة من الناصرة مقدّسة، لكي يفتدي البشريّة جمعاء، ويسجّل أسماء المؤمنين المخلَّصين به في «سجلّ الحياة الأبديّة».
2. حدث الميلاد
«وهما هناك، تمّت أيّام مريم لتلد، فولدت ابنها البكر، ووضعته في مذود» (لو 2/6-7).
مكان ميلاد ابن الله، بالطبيعة البشريّة، بيت لحم مدينة داود، لأنّه المسيح الذي ينتمي إلى سلالة داود الملوكيّة، من جهة يوسف ومريم المنتمين إليها، ومن جهته هو بوصفه الملك الموعود والمنتظر الذي «يجلس على عرش داود أبيه، ويملك إلى الأبد، ولا يكون لملكه انقضاء» (لو 1/32-33).
المكان مذود بيت لحم رمز الفقر والتواضع، بالنسبة إلى أورشليم، مدينة داود هي أيضًا، حيث مجد ملكه، ورمز الغنى والقوّة. يولد في بيت لحم الوادعة فقيرًا، ويُصلب في أورشليم المتكبّرة ليغنيها بالفداء والخلاص. هذه علامة أنّ سرّ المسيح لا يُقبل إلاّ في القلوب المتواضعة، الفقيرة إلى الله وقيم الملكوت، وأنّه يفتدي كلّ غنى ومجد وسلطة.
المكان بيت لحم، لا الناصرة بلدة يوسف ومريم، من حيث أتيا ليتسجّلا في الاحصاء، وسلكا مسافة 150 كلم تقريبًا، مشيًا على مدى أربعة أو خمسة أيّام. إنّه دليل على أنّ هذا الذي لم يولد في بلدته وبيته، ليس من هذا العالم، ويريدنا ألاّ نكون من هذا العالم، التائه في شرّه وخطيئته، كما سيقول عن نفسه وعنّا في صلاته الكهنوتيّة الأخيرة: «أنا لا اصلّي لتخرجهم من العالم، بل لتحفظهم من الشرّير، لأنّهم ليسوا من العالم، كما أنّي أنا لست من العالم. أيّها الآب، قدّسهم بحقّك، فإنّ كلمتك هي الحقّ» (يو 17/15-17).
وهذا دليل أيضًا أنّ مملكته التي يتسلّم زمامها، مولودًا في مدينة داود الملك أبيه بالنسب، ليست من هذا العالم، كما سيقول لبيلاطس ردًّا على سؤاله أثناء المحاكمة: «أنت ملك اليهود؟ - إنّ مملكتي ليست من هذا العالم» (يو 18/33-36). مملكته، التي يبدأها في بيت لحم، هي ملكوت الله الذي زرعُه وبدايته الكنيسة (الدستور العاقائديّ: في الكنيسة، 5)، هذه «العلامة والاداة للاتّحاد بالله ولوحدة الجنس البشريّ» (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 1؛ رجاء جديد للبنان، 19). وهكذا تمّت نبوءة ميخا التي ترقى إلى ما بين 750 و687 قبل الميلاد: «وأنتِ يا بيت لحم، إنّك أصغر عشائر يهوذا، ولكنْ منك يخرج ملك يرعى شعبي، وأصوله منذ القديم، منذ أيّام الأزل» (ميخا 5/1).
وهذا دليل أخيرًا أنّ يسوع لم يولد من زرع بشريّ، بل من عذراء متزوّجة وقد حبلت به بقوّة الروح القدس، كما جاء في البشارة لمريم وفي البيان ليوسف. ولهذا تعمّد لوقا القول في رواية الميلاد: «صعد يوسف مع مريم خطّيبته وهي حبلى (لو 2/5) علمًا أنّهما تساكنا بعد بيان الملاك له: «أخذها إلى بيته ولم يعرفها فولدت ابنها البكر وسمّاه يسوع» (متّى 1/24-25)، هذا الذي سيكون «البكر لإخوة كثيرين» (روميه 8/29)، أبناء شعب الله الجديد «الذين ليسوا من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله ولدوا» (يو 1/31). إنّه يدشّن الأزمنة الجديدة، إذ، لكونه «ابن الله الوحيد» (يو 1/14) و«صورة الله الذي لا يرى»، هو «بكر جميع البرايا» (كولوسي 1/15). مريم البتول الأمّ، في بيت لحم، ستصبح يوم موته على الصليب، في أورشليم، أمّ البشريّة جمعاء المتمثّلة بشخص يوحنّا (يو 19/26-27)، وستكون «أيقونة الكنيسة» التي هي «أمّ وبتول» بالنعمة. «أمٌ» تلد بالكرازة والمعموديّة لحياة جديدة، و «بتول» أعطت إيمانها لعريسها وتحفظه كاملاً ونقيًّا (الدستور العقائديّ: في الكنيسة، 63-64؛ التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 507).
3. ليتورجيّا السماء
«مجد الربّ أشرق عليهم... وبغتة ظهر مع الملاك كثير من جنود السماء، يسبّحون الله ويقولون: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر» (لو 2/9و13-14).
إنّه ظهور إلهيّ في ليتورجيّة سماويّة تحتفل بحدث َ تمّم، وجمع الماضي والحاضر والمستقبل، هو ميلاد المسيح، ابن الله، الذي «يسير بالأزمنة إلى تمامها، فيجمع في ذاته كلّ شيء ممّا في السموات وما في الأرض» (أفسس 1/10).
في طفل المذود كان الله نفسه حاضرًا، ومعه نزل الجنود السماويّون من السماء إلى الأرض، يحتفلون بدخول المسيح يسوع إلى العالم، كما يقول بولس الرسول، مستندًا الى المزمور 97: «قال الله، عند إدخال الابن إلىالعالم: لتسجد له جميع ملائكة الله» (عبرانيين 1/6).
«الليتورجيّا» تعني، من حيث اللفظة الأصليّة، «العمل العام» أي «خدمة يقوم بها الشعب لصالحه»، وفي التقليد المسيحيّ تعني مشاركة شعب الله في «عمل الله». المسيح، الفادي والكاهن الأعظم، هو الليتورجيّ الأوّل الذي يواصل في الكنيسة، ومعها وبواسطتها، عمل فدائنا (التعليم المسيحيّ، 1066). الليتورجيّا التي نحتفل بها، في كنائسنا على الأرض، تواصل خدمة الملائكة، وتستبق ليتورجيّا أورشليم السماء وتتذوّقها (المرجع نفسه 1088). إنّنا بالمهابة والجمال والتقوى نقيم الاحتفالات الليتورجيّة ونشارك فيها.
4. البشارة لرعاة بيت لحم
«أبشركم بفرح عظيم، يكون للعالم كلّه: لقد وُلد اليوم لكم المخلص الذي هو المسيح الربّ» (لو 2/10-11).
للرعاة الفقراء والبسطاء كانت بشرى الملاك، وهي أوّل إعلان لانجيل الخلاص. اللفظة الأصليّة هي «أؤنجلكم»، أي «أبشركم»؛ استعملها الربّ يسوع، من كلمات أشعيا، في هيكل الناصرة: «روح الربّ عليّ: مسحني وأرسلني لاؤنجل المساكين» (لو 4/8).
«فقراء» أو «مساكين» الانجيل هم الناس المفتقرون إلى الله، إلى نعمه وخيراته وتجلّياته؛ هم المتواضعون الودعاء الذين، بروح الطفولة، يفتحون عيونهم وعقولهم وأياديهم وقلوبهم إلى الله وعطاياه؛ هم الناس المرهقون تحت نير الظلم والاستضعاف والاستعباد. لا يستطيع الانجيل أن يصل إلى القلوب المتحجّرة والعقول المنطوية على ذاتها. ولا يستطيع الناس الممتلئون من ذواتهم والمكتفون بحالهم وحالتهم والناقمون واليائسون أن يقبلوه، ويسيروا على هدي الحقيقة والرجاء.
مضمون «البشارة السارّة»- الانجيل- هو «الفرح العظيم» لجميع الناس بأنّ المسيح المولود يأتي ليحمل اليهم التحرير والخلاص. كلّهم مدعوّون إلى هذا «الفرح العظيم». كلّهم يحتاجون اليه، وهو مقدَّم للجميع، «للعالم كلّه». البابا يوحنّا بولس الثاني جدّد النداء في بداية حبريته: افتحوا الأبواب للمسيح! بل شرّعوها لقوّته الخلاصيّة! افتحوا حدود الدول، والأنظمة الاقتصاديّة والسياسيّة، والحقول الواسعة: حقول الثقافة والحضارة والانماء. لا تخافوا ! فالمسيح يعرف ما في داخل الانسان. وحده يعرفه (22 تشرين الأوّل 1978).
اليوم ولد لكم المخلّص. هو «يوم» الله يصبح «يوم الانسان». إنّه بداية الزمن المسيحانيّ، زمن الخلاص، ونهاية الأزمنة السابقة واكتمالها، والزمن الأخير الحاسم لخلاص جميع الناس. كلّ يوم من حياتنا صدى لهذا «اليوم»: هو عمّانوئيل «الله معنا» لخلاصنا. هذه هي رسالة الكنيسة تواصلها كلّ يوم بإعلان إنجيل الخلاص والتحرير.
هذا المخلّص هو «المسيح الربّ» الذي مسحه الروح القدس في طبيعته البشريّة، المتّحدة بالشخص الالهيّ، نبيًّا وكاهنًا وملكًا، والذي يشرك في مسحة الروح شعب الله الجديد، جاعلاً إيّاه شعب الأنبياء والكهنة والملوك، على ما سيكتب بطرس الرسول: أمّا أنتم فإنّكم ذرّية مختارة وجماعة ملوكيّة كهنوتيّة، وأمّة مقدّسة، وشعب اقتناه الله للاشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب. لم تكونوا بالأمس شعب الله، وأمّا الآن فإنّنكم شعبه (1 بطرس 2/9-10). هو «االربّ» الذي يخلّص بقدرته الالهيّة، يعطي الخيرات ويحرّر من الشرور.
5. شهادة الرعاة
«سيروا بنا إلى بيت لحم لنرى الكلمة التي كلّمنا عنها الربّ... وبعد أن رأوا، أخبروا بما قيل لهم عن الطفل... ثمّ رجعوا وهم يسبّحون الله ويهللون» (لو 2/15،17،20).
في صمت الليل وبساطة القلوب، سمع الرعاة بشرى الربّ. إعلان الخلاص يأتي من الله بالوحي، لا من عقل الانسان. نحن بحاجة إلى الصمت وبساطة القلب لكي نسمع الله الذي يتكلّم. فأسرعوا ليروا، وقد أعطاهم الملاك «علامة». إنّها قصّة كلّ يوم أحد: الربّ يوحي ويتجلّى تحت علامات الخبز والخمر في القدّاس، والمؤمنون «يسرعون ليروا».
رأى الرعاة العلامة فآمنوا وأخبروا بكلّ ما سمعوا. المسيحيّة خبر مفرح تحمله لجميع الناس: «إذهبوا في الأرض كلّها وأعلنوا بشارتي إلى الخلق أجمعين» (مر 16/15). وعادوا يسبّحون الله ويهلّلون، مواصلين بدورهم الليتورجيّا الملائكيّة.
وهكذا أصبح الرعاة، وقد «أشرق عليهم مجد الربّ»، أوّل من استودعهم الله بشرى الخلاص، وأوّل المشاهدين المتأمّلين لسرّ الكلمة، وأوّل المبشّرين «بالفرح العظيم»، وأوّل المسبّحين لله في ليتورجيّة العهد الجديد.
ونحن، في الميلاد، نواصل السماع والرؤية ونقل الخبر ورفع آيات التسبيح، من أجل عالم يتخبّط في الظلمات، وقد وافاه «الشارق من العلى» (لو 1/78).
***
ثانيًا، الخطّة الراعويّة
يفتتح المجمع البطريركيّ المارونيّ نصوص الملفّ الثالث حول آفاق المستقبل تحت عنوان «حضور الكنيسة في عالم اليوم»، بالنصّ الخامس عشر، فيحدّد عالم اليوم بالنسبة إلى الكنيسة المارونيّة.
تقتضي الخطّة الراعويّة أن نعيش روحانيّة التجسّد التي تطبع الكنيسة المارونيّة، انطلاقًا من عقيدة مجمع خلقيدونيا (سنة 451).
أ- يتشاور أبناء الرعيّة وأفراد الأسرة وأعضاء الجماعة الديريّة والمنظّة الرسوليّة والمؤسّسة واللجان الراعويّة، في ضوء روحانيّة التجسّد، بشأن حضورهم في زمانهم ومكانهم، شهودًا لمحبّة الآب التي تظلّل الجميع، ولنعمة الابن الوحيد التي تخلّص الجميع، ولقوّة حلول الروح القدس التي تحيي وتجدّد الجميع. كيف يبلورون في الواقع هذا الحضور وهذه الشهادة؟
ب- يوصي المجمع البطريركيّ في النصّ 15، مستعملاً كلمات البابا يوحنّا بولس الثاني (رسالة الفادي، 42-43)، بأن نندمج، نحن المسيحيّين، بحكم روحانيّة التجسّد، في صميم حياة الشعوب الذين نعيش معهم وبينهم، بحيث نكون «آيات إنجيليّة» بأمانتنا لوطننا وشعبنا وثقافتنا الوطنيّة، ثقافة الحوار والتلاقي والديموقراطيّة والوفاق، مع الاحتفاظ بكنز الحريّة التي أكسبنا إيّاها المسيح. نتشاور ونفكر معًا ونرسم خطّة نلتزم بها معًا.
ج- خطّتنا الراعويّة هي أن تبقى الجماعة المسيحيّة حاضرة في عالمها العربيّ، لا من أجل ذاتها ومصالحها، بل من أجل رسالة خلاصيّة تسلّمتها من المؤسّس الالهيّ. فالعالم العربيّ، عالمنا، يبحث عن ذاته، وعن صيغة لوجوده، وعن موقع له في عالم اليوم، وهو بحاجة إلى الاستقرار والسلام. إنسانه متألّم، فيلجأ الى التعبير عن ذاته عن طريق العنف أو التطرّف أو العدوانيّة أو التعصّب، إذ يرى نفسه مهدّدًا في هويّته وشخصه وكيانه (رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك: الحضور المسيحيّ في الشرق؛ النصّ المجمعيّ 15، عدد 17).
صلاة
ليلة الميلاد، يُمّحى البغضُ، ليلة الميلاد، تزهرُ الأرضُ
ليلة الميلاد، تدفن الحربُ، ليلة الميلاد، ينبت الحبُ
عندما نسقي عطشان كأس ماء، نكون في الميلاد
عندما نكسو عرياناً ثوب حبّ، نكون في الميلاد
عندما نكفكف الدموع في العيون، نكون في الميلاد
عندما نفرش القلوب بالرجاء، نكون في الميلاد.