إِلى جُبِّ الهاوِيَة أَنتَ يا أَللهُ تُنزِلُهم رِجالَ الدِّماءِ و الخِداع قَبلَ أَن تَنتَصِفَ أَعْمارُهم أَمَّا أَنا فعلَيكَ أَتَوَكَّل (مز 55 /24)
البيان ليوسف 2005-2006 - المطران بشارة الراعي
البيان ليوسف
متّى 1/18-25
كرامة الأسرة والحياة المكرّسة
البيان ليوسف، عن حقيقة حبل مريم البتوليّ بقوّة الروح القدس، وعن قيام زواجه الدائم من مريم، هو البشارة التي بلّغه إيّاها ملاك الربّ عن أبوّته الشرعيّة ليسوع، وائتمانه على الكنزين مريم ويسوع، بالعناية الزوجيّة والوالديّة بهما. وهكذا تمَّ افتداء العائلة التي شوّهتها خطيئة آدم وحواء، وافتداء الحبّ باستعادة طهارته وقدسيّته، وافتداء عقد الزواج برفعه إلى رتبة سرّ من أسرار الخلاص السبعة. وبما أنّ يسوع التاريخيّ أصبح، بعد موته وقيامته وإرسال روحه القدّوس، المسيح السريّ أي الكنيسة، صار يوسف أبوه وحاميه شفيعًا للكنيسة الجامعة، كما أعلنه البابا الطوباويّ بيّوس التاسع في 8 كانون الأوّل 1870، ومثالاً، مع مريم، للمكرّسين والمكرّسات في الرهبانيّات وفي العالم.
أوّلاً، مضمون النصّ الانجيليّ
1. البيان البشارة ليوسف
«عزم أن يطلّقها سرًّا.... فتراءى له ملاك الربّ في الحلم» (متّى 1/19-20).
احتار يوسف أمام حبل مريم خطّيبته، وهي زوجته الشرعيّة، التي لم تنتقل بعد لمساكنته حسب الشريعة اليهوديّة. ولأنّه «صدّيق» (بارّ)، يخاف الله ويحترم الانسان، صدّق في قرارة نفسه أنّ سرًّا خفيًّا يحصل في حبل مريم البتوليّ، وأعتبر أنْ لا دور له في ما يخطّط الله بواسطة مريم، إذ إنّ البشارة من الملاك جبرائيل كانت لها وحدها. ففكّر بأن ينسحب من هذا الأمر بمنتهى التواضع وإخلاء الذات، من دون أيّ حقّ مكتسب في تخطيط الله، وبالتالي يتخلّى عن حقّه في مريم زوجته. ولأنّه «صدّيق»، أملت عليه برارته قرارًا مشرِّفًا في تلك الليلة: أن يلفّ بالصمت السرّ الالهيّ الخفيّ، ويحافظ على كرامة مريم فلا يشهر أمرها بالحصول على كتاب طلاق من السلطة، ويكل إلى عناية الله الطفل الذي سيولد، ويقرّر تطليقها سرًّا.
في تلك الليلة ظهر الله له في الحلم، كاشفًا حقيقة السرّ الخفيّ، هذا الحبل البتوليّ بقوّة الروح القدس. وأكدّ له أنّ مريم تظلّ امرأته وهو زوجها من دون أيّ تراجع: «لا تخف أن تأتي بامرأتك مريم إلى بيتك». وبشّره أنّ المولود منها هو ابنه، ولو من غير زرعه، لأنّ مريم أمّه هي زوجته. فأبّوة يوسف ليسوع لها أساسها القانونيّ في زواجه من مريم، ما جعل دوره أن يؤمّن ليسوع الحماية الوالديّة، فقامت علاقة بينه وبين المسيح تقرّبه منه، مع ما في هذا القرب من اختيار إلهيّ لتحقيق تصميم الله الخلاصيّ في الانسان وفي التاريخ (أنظر روم 8/28-29)، وهي علاقة تمرّ عبر الزواج بمريم. وأمره أن يعطي للمولود اسم «يسوع» وهو ليس من زرعه بل من الروح القدس، ليؤكّد له سلطته الوالديّة عليه. ولهذا دعاه الانجيليّون «زوج» مريم، ودعوا مريم «زوجته»، وهي أيضًا سمّته «أبا» يسوع (لو 2/48). والاثنان دعيا «والدي يسوع» لا بالزرع بل بالروح. يقول القدّيس اغسطينوس: تحقّقت في زواجهما خيور الزواج الثلاثة: الانجاب والأمانة الزوجيّة والسرّ في الرباط الزوجيّ الدائم.
2. تجديد الزواج وتقديسه
على عتبة العهد القديم كان زوجان، آدم وحوّاء. لكنّ زواجهما جلب الخطيئة والموت للعالم، وجُرح الحبّ الذي يجعل الانسان على صورة الله. وفي بداية العهد الجديد كان زواج يوسف ومريم الذي أفاض النعمة على الجنس البشريّ. ذلك أنّ الله، في ذروة تاريخ الخلاص، كشف حبّه للبشر بعطيّة ابنه الوحيد، الكلمة المتجسّد، من خلال زواج يوسف ومريم القائم على الاتّحاد البتوليّ المقدّس، وبالابن جدّد كلّ شيء. فتجدّد الزواج وتقدّس ليصبح سرّ العهد الجديد، وتطهّر الحبّ ليصير عطيّة ذات ويتجلّى في اتّحاد النفوس والقلوب بين الزوجين، قبل أن يكتمل باتّحادهما الجسديّ، وتقدّست العائلة لتكون «هيكل الحبّ ومهد الحياة» (حارس الفادي ،7). وهكذا كانت العائلة المقدّسة في الناصرة «أوّل كنيسة بيتيّة» ونموذجًا لكلّ عائلة مسيحيّة (وظائف العائلة المسيحيّة، 49).
أصبح عقد الزواج في المسيحيّة، مع عائلة الناصرة، عهدًا وسرًّا.
هو عقد قوامه الرضى الشخصيّ، الواعي والحرّ، يتبادله الزوجان، فينشأ عنه رباط زوجيّ دائم واستئثاريّ، يقتضي أمانة الزوجين لهذا الرّضى وتبادل الذات بينهما حتّى الموت.
وهو عهد على صورة العهد الذي أبرمه الله مع البشريّة وختمه بدم ابنه فادي البشر، وشبّهه بالعرس. تنشأ من هذا العهد شركة حياة. إنّه «عهد حبّ وحياة» مثلّث الاتّجاهات: عهد مع الله ينبع منه ويقود إليه، وعهد بين الزوجين يهدف إلى سعادتهما وخيرهما الشخصيّ وخير الأولاد وسعادتهم، وعهد مع التاريخ يواصل نقل الحياة البشريّة وسلالة الأسرة.
وهو سرّ أيّ وسيلة لحضور الله الثالوث في حياة الزوجين وعلامته: يجعلهما بالنعمة «جسدًا واحدًا»، ويقدّسهما في حياتهما الزوجيّة والعائليّة، وينقي حبّهما، ويوطّد وحدتهما، ويثبّتهما في العقد والعهد، عبر ظروف الحياة الحلوة والمرّة.
3. بتوليّة الأبّوة والأمومة ورسالة الفداء
«ستلد ابنًا فسمّه يسوع، لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم» (متّى 1/21).
في البشارة لمريم كانت دعوتها لأمومة ابن الله المتجسّد، فتحقّقت بقوّة الروح القدس، لمّا أجابت «أنا أمّة الربّ». وفي البشارة ليوسف كانت دعوته للأبوّة، فتحقّقت لمّا «فعل كما أمره ملاك الربّ، فأتى بامرأته إلى بيته، ولم يعرفها». فكانت أبّوته بتوليّة مثل أمومة مريم. ومعًا تكرّسا في البتوليّة لخدمة ابنهما وعمله الخلاصيّ.
خدم يوسف مباشرة، بممارسة أبّوته، شخص يسوع ورسالته. فكما يعاون في تجسّده، يعاون أيضًا في سرّ الفداء؛ ولهذا يسمّيه القدّيس يوحنّا فم الذهب «خادم الخلاص». فقد جعل من حياته خدمة وتضحية في سبيل سرّ التجسّد ورسالة الفداء؛ وحوّل دعوته للحبّ الزوجيّ والعائليّ إلى تقدمة الذات الفائقة الطبيعة؛ وقدّم قلبه وكلّ إمكانيّاته لمحبّة المسيح (أنظر حارس الفادي، 8).
وبما أنّ التجسّد والفداء يشكّلان وحدة عضويّة لا تنفصم، فيوسف مثل مريم شريك الفداء، ولو أنّه لم يقف مثلها على أقدام الصليب. ولهذا السبب قرّر البابا الطوباويّ يوحنّا الثالث والعشرون أن يضاف في نافور القدّاس الرومانيّ اسم القدّيس يوسف بعد الكليّة القداسة مريم العذراء، قبل الرسل والأحبار الرومانيين القدّيسين والشهداء.
على مثال يوسف ومريم، سيكرّس يسوع الابن كلّ ذاته للآب ولرسالة الفداء، فعاش مثلهما بتولاً وفقيرًا، «ليس له مكان يسند إليه رأسه» (متّى 8/20)، ومطيعًا حتّى الموت على الصليب (فليبيّ 2/8) ليفتدي البشر ويقدّسهم. وهكذا، منذ بداية الكنيسة، ما زال يعتنق رجال ونساء نهج السيّد المسيح البتول والفقير والمطيع، سواء في العالم أم في الحياة الرهبانيّة، ويكرّسون ذواتهم لله، بدافع من الحبّ الذي أفاضه الروح القدس في قلوبهم (روم 5/5)، ويحيون أكثر فأكثر للمسيح الربّ ولجسده السريّ الذي هو الكنيسة (كولسي 1/24؛ القرار المجمعيّ في المحبّة الكاملة، 1). إنّهم يعيشون الأبّوة والأمومة الروحيّة تجاه الكنيسة ورسالتها، نظير يوسف ومريم تجاه يسوع التاريخيّ ورسالة الفداء.
إنّ المكرّسين والمكرّسات، سواء في العالم أم في الحياة الرهبانيّة أوالكهنوت، هم الذين اختارهم الآب بحبّه لرسالة خاصّة، ودعاهم الابن، الطريق الوحيد إلى الآب، للسير في اتّباعه حيث يذهب، والعيش معه والتخلّي عن كلّ شيء في سبيله، بالالتزام الكامل، وكرّسهم الروح القدس، مصوّرًا إيّاهم على صورة المسيح البتول والفقير والمطيع، ودافعًا بهم إلى تبنّي رسالته الخلاصيّة، وإلى مواصلة حضوره في التاريخ حضورًا مميّزًاً. لقد لبّوا الدعوة، مثل يوسف ومريم، ووقفوا ذواتهم كاملة على الله وعلى تصميم الخلاص: بالبتوليّة المكرّسة يهبون ذاتهم لله بقلب غير متجزّىء، بحبّ يعكس حبّ الله الثالوثيّ، ويدفعهم إلى حبّ شامل لله وللناس. بالفقر الانجيليّ يتخلّون عن ثروة الأرض ليغتنوا بالله وحده، ويخصّصون لرسالة الكلمة والنعمة والمحبّة ما عندهم وما تجني ايديهم وما يُقدّم لهم، ويعتنون عناية خاصّة بالفقراء، ويعيشون بروح الفقر والأمانة اقتداءً بالمسيح؛ بالطاعة يواصلون طاعة المسيح لارادة الآب وتصميم الخلاص، ويظهرون جمال الانتماء البنويّ للآب، الذي يحرّر من كلّ عبوديّة ويغني بروح المسؤوليّة (الحياة المكرّسة 17-21).
***
ثانيًا، الخطّة الراعويّة
كما تعهّد القدّيس يوسف حراسة العائلة المقدّسة ودافع عنها، هكذا يحمي من السماء كنيسة المسيح، وسط المضايق، في التزامها بإعلان إنجيل الخلاص؛ إنّه مثال ساطع للمؤمنين في الفضائل: فهو «أطهر الناس في بتوليّته، وأعمقهم في تواضعه، وأشدّهم في حبّه لله وللناس، وأرفعهم في الحياة التأمّليّة» (القدّيس برنردين السيانيّ)؛ وهو قدوة في سماع كلام الله والاستعداد المطلق لخدمة إرادته الخلاصيّة، وفي التنفيذ الأمين لأوامر الله؛ ويسطع في حياته اتحاد الفعل الالهيّ والفعل البشريّ في تصميم الفداء.
ولئن كان الفعل الالهيّ كافيًا بحدّ ذاته، فان مؤآزرة الفعل البشريّ تبقى، على ضعتها، ضروريّة ومشرقة.
تتّخذ الخطّة الراعويّة القدّيس يوسف مثالاً للحياة المسيحيّة والزوجيّة والمكرّسة، يوصي الارشاد الرسوليّ «رجاء جديد للبنان» بالأمانة المزدوجة: للمسيح والكنيسة (عدد 53)، وإعلان أولويّة الله المطلقة على الواقعات البشريّة (عدد 52). هذه التوصية نفسها يكرّرها المجمع البطريركيّ المارونيّ في النصوص المتعلّقة بتجدّد حياة الأشخاص: البطاركة والأساقفة، الكهنة، الرهبان والراهبات، العلمانيين، الأزواج والوالدين، الشبيبة (النصوص 6-11).
وتتناول الخطّة الراعويّة بعدين: الأوّل، تجديد الحياة الشخصيّة على قاعدة الأمانة المزدوجة انطلاقًا من الحالة الخاصّة في ضوء مضمون البيان ليوسف؛ الثاني، شهادة الحياة الفرديّة والجماعيّة بمواقف ومبادرات حياتيّة، يلتزم بها الأفراد والجماعة.
لا بدّ، لبلوغ هذا الهدف، من وقفة وجدانيّة على مستوى الرعيّة والعائلة والجماعة الرهبانيّة والمؤسّسة والمنظّمة الرسوليّة وحركة الشبيبة وسواها، يصغون بالتأمّل والصلاة إلى نصّ البيان ليوسف، ويسلّطون أنواره على حياتهم الشخصيّة، ويتبادلون الأفكار والخبرات، ويتّخذون المقاصد الحياتيّة، ويجدّدون الالتزام بالأمانة.
صلاة
إلى الله تسكن نفسي ومنه خلاصي.
صخرتي هو وخلاصي ملجأي فلا أتزعزع
الى الله أسكني يا نفسي فإنّ منه رجائي
صخرتي هو وخلاصي ملجأ فلا أتزعزع
عند الله خلاصي ومجدي وفي الله صخرة عزّي ومعتصمي
توكّلوا عليه في كلّ حين أيّها الشعب أسكبوا أمامه قلوبكم، إنّ الله معتصم لنا
المجد للآب والابن والروح القدس من الآن وإلى أبد الآبدين آمين. (مز 61).
****