مُسايِرُ الحُكَماءِ يَصيرُ حَكيمًا و مُؤانِسُ الجُهَّالِ يَصيرُ شِرَيرًا (ام 13/20)
مولد يوحنّا المعمدان 2005-2006 - المطران بشارة الراعي
مولد يوحنّا المعمدان
لوقا 1/57-66
وعد الله يتحقّق في كلّ إنسان يولد
تصميم الله الخلاصيّ يتحقّق في التاريخ بشكل منتظم، ووعوده تتمّ في أوانها من خلال الانسان. ذلك أنّ الله أمين في وعده وفي كلامه: «اعلمْ أنّ الربّ إلهك هو الله الأمين الحافظ العهد والرحمة لمحبّيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل» (خطاب موسى في تثنية 7/9). مع مولد يوحنّا، تجلّت رحمة الله، التي تكتنف البشريّة، كما يعبّر يعقوب الرسول: كلّ عطيّة صالحة وكاملة تهبط من فوق، من أبي الأنوار الذي لا تغيير عنده، ولا ظلّ لتبديل (يعقوب 1/17). أسرة عين كارم، عائلة زكريّا وإليصابات ويوحنّا، صورة لهويّة كلّ عائلة ولدورها في الكنيسة والمجتمع.
أوّلاً، مضمون النصّ الانجيليّ
1. مولد يوحنّا تتميم لوعد الله الخلاصيّ
«أمّا إليصابات، فلمّا حان وقت ولادتها وضعت ابنًا» (لو 1/57).
كان وعد الله لزكريّا يوم بشّره الملاك: «ستلد لك إمرأتك إليصابات ابنًا، فسمّه يوحنّا? إنّه يعدّ للربّ شعبًا كاملاً (لو 1/13-17). عن يوحنّا تنبّأ ملاخي (حوالى سنة 470 قبل المسيح): «هاءنذا مرسل رسولي ليعدّ الطريق أمامي» (ملا 3/1). هذه النبوءة طبّقها الربّ يسوع على يوحنّا (متّى 11/10). أمّا وعدها فيعود بعيدًا إلى وعد الله لابراهيم الذي بدأ معه تصميم الخلاص .
شوّه الانسان صورة الله فيه بالخطيئة والموت، لكنّه ظلً «على صورة الله»، المتجلّية في الابن، غير أنّه حرم من مجد الله ومثاله (روم 3/23). فكان الوعد لابراهيم أنّ من نسله يولد المسيح، ابن الله، الذي سيحمل «الصورة» ويرمّم «شبهها»، ويعيد للانسان مجده بالروح الذي يعطي الحياة. «قال الربّ لابراهيم: أنا أجعلك أمّة كبيرة، وأباركك وأعظّم اسمك، وتكون بركة. ويتبارك بك جميع عشائر الأرض» (تكوين 12/1-3). ثمّ كرّر له الوعد عندما أطاع أمره بتقديم ابنه الوحيد اسحق محرقة للربّ: «بنفسي حلفت، بما أنّك فعلت هذا الأمر ولم تمسك عنّي ابنك وحيدك، لأباركّنك وأكثّرن نسلك كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطىء البحر، ويتبارك بنسلك جميع أمم الأرض، لأنّك سمعت قولي» (تكوين 22/16-18). وشرح بولس الرسول أنّ نسل ابراهيم هو المسيح (غلا 3/16). البركة هي فيض الروح القدس المتفجّر من موت المسيح وقيامته الذي «يجمع كلّ أبناء الله المشتّتين إلى واحد» (يو 13/51-52). هذا الواحد هو الكنيسة، جسد المسيح السرّيّ (أنظر التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة 705-706).
نشيد زكريّا، الممتلىء من الروح القدس، عند مولد يوحنّا لمّا انحلت عقدة لسانه وعاد إليه النطق، هو إدراك لسّر الوعد لابراهيم الذي يتحقّق (لو 1/67-79). هذا النشيد هو خلاصة كلّ العهد القديم. فيه ثلاثة أقسام:
أ- بركة الشكر للربّ الذي يفتقد شعبه ويرسل إليه مخلّصًا وفاديًا من بيت داود كما نطق الأنبياء، وهو المسيح (68-71).
ب- تحقيق الوعد لابراهيم بالنجاة من الأعداء، والعبادة لله بدون خوف، بالتقوى والبّر والعيش في ظلّ عنايته طول الأيّام (72-75).
ج- رسالة يوحنّا ابنه التي من خلالها تتجلّى رحمة الله وثمارها (76-79).
تحقّقت قمّة الوعد في يسوع المسيح بفيض «النعمة والحقيقة» (يو 1/71). أمّا نحن فنتجاوب بالحبّ والأمانة مع هذه النعمة والحقيقة. هذا هو العهد الجديد الأبديّ بالمسيح: إنّ الله أبٌ لنا، ونحن شعبه. ولذا علمنا السيّد المسيح أن نصلّي: «أبانا الذي في السموات..."(متّى 6/9-14).
يرتكز الوعد على قاعدتين: أمانة الله وإيمان الانسان. بولس الرسول يشرح ذلك بلفظة آمين، أي «نعم» أو «حقًّا»: " جميع مواعيد الله هي في المسيح نعم، وقد تحقّقت والله أمين في وعده. وبالمسيح أيضًا نقول نحن لله: «أمين» اكرامًا لمجده، حقًّا نؤمن بما تقول (2 كور 1/20). وهكذا أصبحت لفظة آمين الآراميّة، المستعملة في الليتورجيّا، تعني في آن أمانة الله المتجلّية في يسوع المسيح الذي يسمّيه يوحنّا الرسول في الرؤيا «الآمين أو الشاهد الأمين الصادق، بدء خليقة الله» (رؤيا 3/14)، وإيمان الانسان بوعد الله وكلامه، وثباته في الرجاء والحبّ .
أفعال الايمان والرجاء والمحبّة تؤكّد كلّ هذه الحقائق، وعليها ترتكّز حياتنا اليوميّة ونشاطنا وحالتنا.
2. شخصيّة يوحنّا
«ما عساه يكون هذا الطفل؟ ويد الربّ كانت معه» (لو 1/66)
تتبيّن شخصيّة يوحنّا ورسالته من اسمه وألقابه: هو يوحنّا السابق، والمعمدان، وإيليّا الجديد، والأكثر من نبيّ.
«يوحنّا» اسمه، كما أعلنه الملاك لزكريّا وأراده أبوه وأمّه. بالعبريّة يهِو- حنان أي الله رحوم. تجلّت رحمة الله عبر الوعود وتحقيقها واستمراريّتها. وتعني أمرين متلازمين، حسب اللفظتين العبريّتين في الكتاب المقدّس: الأوّل، أمانة الله لذاته (حِسِد) أي إنّ محبّة الله لشعبه وللانسان شديدة خارقة تتغلّب على الخطيئة والخيانة؛ الثانية، محبّة الله الفريدة المجّانيّة (رحاميم). هذه اللفظة تعني في الأصل محبّة الأمّ (الرحم أو حشى الأمّ ) الناشئة عن الرباط الوثيق الأصيل الذي يشدّ الأمّ إلى طفلها. إنّها مشاعر الطيبة والحنان وطول الأناة والشفقة والمسارعة إلى الغفران (البابا يوحنّا بولس الثاني: في الرحمة الالهيّة، 4).
وهو «السابق»، للدلالة أنّ يوحنّا يسبق المسيح، مخلّص العالم، فيعدّ له الطريق في القلوب والعقول: بالكرازة عن اقتراب الملكوت، داعيًا إلى التوبة والارتداد إلى الله بتغيير الذهنيّات، حسب اللفظة اليونانيّة «متانويا» (ثورة على الذات، تغيير استعدادات النفس: مِتا ? نوس)، وداعيًا إلى انتظار شخص آخر أقوى منه. وهو السابق ليسوع بشهادة الدم وقطع الرأس دفاعًا عن الحقيقة. وقد فسّر يوحنّا الرسول في مقدّمة إنجيله هذا اللقب بالقول: «كان رجل، مرسل من الله، اسمه يوحنّا. هذا جاء شاهدًا، ليشهد للنور، ليؤمن الجميع على يده. لم يكن هو النور، بل ليشهد للنور» (يو 1 /6-8).
وهو «المعمدان»، وقد اعلن يوحنّا عن نفسه أنّه «يعمّد بالماء للتوبة. أمّا الذي يأتي بعده، وهو أقوى، فيعمّد بالروح القدس والنار» (متّى 3/11). معموديّة يوحنّا بالماء هي علامة رمزيّة فقط. أمّا معموديّة يسوع «بالروح القدس» فهي علامة تفعل التقديس بالنعمة الالهيّة. بهذه الممارسة كان يوحنّا يهيّء القلوب بالتوبة لقبول نعمة الروح القدس التي تقدّس وتبدّل وتشفي، وقد أفاضها المسيح من موته وقيامته.
وهو «إيليّا الجديد»، الذي أنبأ عنه الملاك في بشارته لزكريّا أنّ ابنه الموعود «يسيرأمام الربّ بروح إيليّا وقوّته» (لو 1/71). وعنه قال يسوع: «هو إيليّا المنتظر رجوعه» (متّى 11/14). وعندما سأله التلاميذ، بعد نزولهم من الجبل حيث تجلّى أمامهم، «لماذا يقول الكتبة إنّه يجب أن يأتي إيليّا أوّلاً؟ أجابهم: إنّ إيليّا آتٍ وسيصلح كلّ شيء. ولكن أقول لكم إنّ إيليّا قد أتى، فلم يعرفوه، بل صنعوا به كلّ ما أرادوا. ففهم التلاميذ أنّه كلّمهم عن يوحنّا المعمدان» (متّى 17/10-13). تجلّت روح إيليّا في كلماته القاطعة كالنار وفي حياته القشفة كما يصفها متّى الانجيليّ (3/1-12). كان يوبّخ هيرودس الوالي علناً على اتّحاده القرابيّ والزنائيّ بهيروديّا ابنة أخته وامرأة أخيه. فرماه الوالي في السجن، ثمّ أمر بقطع رأسه بطلب من هيروديّا (مر 6/17-29).
وهو «أكبر من نبيّ»، كما قال عنه الربّ يسوع (لو 7/26). سمّاه هكذا لأنّ بعض أوساط الدين اليهوديّ في زمانه كانت تنتظرالنبيّ السابق الذي يأتي في يوم الربّ، في نهاية الأزمنة. لذلك كان بعض الكهنة واللاويين يسألون يوحنّا: «أأنت إيليّا ؟ أأنت النبيّ؟ من أنت فنحمل الجواب إلى الذين أرسلونا؟» (يو 1/21-22). ولمّا رأى الناس معجزة الخبز والسمكتين، قالوا عن يسوع: «حقًّا هذا هو النبيّ الآتي إلى العالم» (يو 6/14). وعندما سمعوا كلام يسوع في موضع آخر قالوا: «هذا هو النبيّ حقًّا». ??? وقال غيرهم: «بل هو المسيح» (يو 7/40). إنّ يوحنّا شخصيّة فريدة، فهو آخر نبيّ وأوّل رسول. عنه قال يسوع «لم يولد في مواليد النساء مثل يوحنّا» (لو 7/28).
***
ثانيًا، الخطّة الراعويّة
الأبناء عطيّة من الله لوالديهم. عطيّة البنين للأزواج هي من تجلّيات الرحمة الالهيّة، وبخاصّة للّذين حرموا ثمرة البنين لزمن بسبب العمر أو أي سبب آخر. الحياة البشريّة عطيّة نتلقّاها لكي نهبها بدورنا للمجتمع وللكنيسة، ثمّ نعطيها لله في نهاية العمر. الولد الذي هو ثمرة عطيّة الحبّ المتبادل بين الزوجين يصبح بدوره عطيّة لكليّهما: «إنّه عطيّة تنبع من العطيّة» (البابا يوحنّا بولس الثاني: إنجيل الحياة، 92). هذا ما عبّر عنه الانجيليّ لوقا «سمع جيرانها وأنسباؤها أنّ الله أكثر رحمته لها، ففرحوا معها» (لو 1/58). يوحنّا صورة عن قدسيّة الحياة وقيمتها ورسالتها. المجمع البطريركيّ المارونيّ كشف ذلك في النصّ 10 بعنوان العائلة.
إنّ الخطّة الراعويّة التي ترسم طريقنا إلى الاحتفال بميلاد الربّ يسوع تقتضي:
أ- مساعدة الأزواج على أن يستحقّوا عطيّة الله في البنين، بحياتهم المستقيمة والبارّة أمام الله، مثل زكريّا وإليصابات. لقد التمسا من الله ولدًاً ليرفع عارهما من بين الناس (لو 1/25). لكن الربّ أعطاهما أكثر من ابن في شخص يوحنّا، «لأنّهما كانا بارّين أمام الله، تابعين جميع وصايا الربّ وأحكامه ، وسائرين من دون لوم» (لو 1/6). يعزّز الكهنة ومرشدو المنظّمات المعنيّة بالعائلة ومركز التحضير للزواج ومراكز الاصغاء راعويّة الزواج والعائلة بتحقيق توصيات المجمع البطريركيّ: تأسيس «جماعات عائليّة في الرعيّة» تؤمّن للأزواج والأبناء ظروفًا روحيّة وراعويّة لتنشيط حياتهم المسيحيّة والقيام برسالتهم؛ يعتمدون لهذه الغاية «الدليل» الذي وضعته اللجنة الأسقفيّة لشؤون العائلة في لبنان.
ب- تربية العائلة لتكون «منبت» و «مشتل» الدعوات الثلاث في الحياة: الزواج، والكهنوت، والبتوليّة المكرسّة. دور الأهل أن يساعدوا أولادهم، بمثل حياتهم وتوجيهاتهم وتربيتهم، لكي يجعلوا من وجودهم عطيّة ذات من أجل خدمة الحبّ في إحدى هذه الدعوات، وأن يحترموا خيارهم الناضج ويدعموه بفرح. تدعو الخطّة الراعويّة الأزواج وكلّ المعنيين بشؤون الأسرة لتحقيق توصية المجمع البطريركيّ بتعزيز الصلاة في العائلة: اعتماد كتاب «صلاة العائلة» حسب السنة الطقسيّة، وقد رتّبته اللجنة الأسقفيّة لشؤون العائلة؛ ومبادرات أخرى للصلاة في العائلة. في جوّ الصلاة نسمع نداء الله، وبالصلاة نستمدّ القوّة والنعمة للثبات في الدعوة والأمانة لها وسط المحن ورتابة الحياة.
في مولد يوحنّا المعمدان، نعتبر مع الكنيسة أنّ «الأولاد ربيع العائلة والمجتمع» (البابا يوحنّا بولس الثاني في لقائه العالميّ مع العائلات سنة 2000). فكما من دون أزهار الربيع لا ثمار لمواسم الصيف، كذلك من دون الأولاد لا مستقبل للأسرة والمجتمع.
صلاة
نُشيد بك أيّها الرسول السابق المعمّد قائلين: يا ولدًا بشّر بمولده ملاك من لدن الله، يا صوتًا صارخًا في البريّة، ونبيًّا علم بسرّ سيّده وهو في الحشا. يا عهدًا توسّط العهدين، فختم عهد الناموس وبدأ البشارة الجديدة. أيّها العظيم في مواليد النساء الذي جاء يخبر بالعظيم العليّ. أيّها البشير الذي ولد من عاقر ليشهد للابن الذي ولد من بتول. أيّها الطفل المقدّس، ابن كاهن الربّ. يا عنوان رحمة الله ورسول ملك السلام. يا كوكبًا يدلّ على النور الحقيقيّ الآتي إلى العالم. يا قمرًا يدور حول الشمس الأزليّة. يا ملاك الربّ ومصباح الكنائس والأديرة.
نسألك أن تستمدّ لنا من الله نعمته الفعّالة، لتزدان نفوسنا بالأعمال الصالحة ونشهد للايمان الحقّ. آمين.
****