و إذا خطئ إليك سبع مرات في اليوم، ورجع إليك سبع مرات فقال: أنا تائب فاغفر له (لو17 /4)
ملاحظات في الرهبنة - عائلة الثالوث القدوس
ملاحظات في الرهبنة
في مقدمة الرسالة الأولى من رسائل الأب بائيسيوس يتوجه إلى الرهبان المبتدئين بهذا القول:
الأب بائيسيوس
إنهم الموظفون في الجهاز اللاسلكي للكنيسة الأم. وتالياً، إذا انطلقوا بعيداً عن العالم ينطلقون حباً به مبتعدين عن التشويش الدنيوي لكي يحصلوا على اتّصال أفضل، وليساعدوا العالم بما هو أحسن وأوفر.
...فعندما يُطلَب من الرهبان النزول إلى العالم، فهذا يماثل ما يفعله بعض الجنود الحمقى، فهم إذ يشاهدون أن فرقتهم مهدّدة بالخطر، يلحّون على موظف اللاسلكي أن يترك جهازه ويحمل البارودة. (فتخيّل كم سينقذ الفرقة المؤلّفة من مائتي جندي إذا أُضيف إليها مسلح واحد). بينما يبحّ صوت العامل على اللاسلكي بالإتصال صارخاً:"إلى الأمام إلى الأمام يا نفس...الخ" والآخرون يعتقدون أنّه يطلق أصواتاً في الهواء فقط.
أما الحاذقون من العاملين في اللاسلكي، فإنّهم ولو شُتموا، فهم يواصلون جهادهم غير آبهين، لكي يتمكّنوا من الإتصال، فيطلبون المساعدة مباشرة من الرائد العام. وهكذا تأتيهم القوّات الكبرى الجويّة والبريّة والبحريّة بأساطيلها المدرّعة لتعضدهم. بهذا الأسلوب، وليس بالبرودة، تحصل النجدة. على هذا النحو يتحرّك الرهبان من خلال صلواتهم بقوّات إلهية وليس بقوّتهم الفردية الواهية.
...إذاً الرهبان لا يتركون البرية للذهاب إلى العالم لمساعدة فقير، ولا لافتقاد مريض في المستشفى، ليقدّموا له برتقالة أو أية تعزية أخرى. إنّ هذا هو ما يفعله، عادة، عامة الشعب (وسيطالبهم الله عن مثل هذه الأعمال). أما الرهبان فيصلّون من أجل جميع المرضى كي يُمنحوا صحة مضاعفة فيرأف الله الصالح بجبلّته ويساعد الناس كي تتحسن أحوالهم فيساعدوا بدورهم آخرين، عاملين كمسيحيين حسني العبادة.
...أود أن أشدد على رسالة الراهب الكبرى التي تفوق أهميتها فعل المحبة البشرية.
...باختصار القول، ليس الرهبان مجرّد مصابيح صغيرة تضيء شوارع المدن كي لا يعثر البشر، بل هم المنارات القائمة على الصخور، التي تضيء من بعيد فتهتدي بنورها سفن العالم من أقصى لجج البحار لكي تبلغ إلى مقاصدها.1
قال يسوع: إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنزٌ في السماء وتعال اتبعني. (مت 21:19)
وفي كتاب "السلّم إلى الله" كتب القدّيس يوحنا السلّمي أنّ الله هو لجميع الذين يختارونه. وكذلك الحياة والخلاص فهما لجميع الناس، مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين، عادلين أو ظالمين، أتقياء أو كافرين، خطأة أو صدّيقين، رهباناً أو علمانيين، حكماء أو بسطاء، أصحاء أو مرضى، أحداثاً أو شيوخاً، وذلك على غرار اندفاق النور وشروق الشمس وتوالي فصول السنة من أجل الناس كافة على السواء. نعم وليس الأمر على خلاف ذلك لأنه "ليس عند الله محاباة"
فالكافر كائن ذو نفس ناطقة وطبيعة فانية يقصي ذاته عن الحياة باختياره إذ يحسب أنّ خالقه الأزلي غير موجود. والمتعدي الشريعة هو من يُحرّف شريعة الله طبقاً لفساد بصيرته ويبتدع ما يضاده تعالى ظاناً أنه يؤمن به. والمسيحي هو من يتشبه بالمسيح في أقواله وأفعاله وأفكاره قدر استطاعة الإنسان ويؤمن بالثالوث الأقدس إيماناً قويماً خالياً من العيب.
والمحب الله هو من يحسن استعمال الخيرات الطبيعية ولا يتوانى في عمل الصالحات قدر طاقته. والضابط هواه هو الذي يحاول بكل قوته، في وسط التجارب والمكايد والقلاقل، أن يماثل حال الذين لا يبالون ولا ينفعلون في القلاقل. والراهب هو من يحقق، في جسد مادي هيولي وسخ، رتبة العادمي الأجساد وسيرتهم.
الراهب هو الحافظ وصايا الله وحدها في كل زمان ومكان وعمل. الراهب هو الذي لا يكف عن كبح طبيعته وحفظ حواسه. الراهب جسد عفيف وفم طاهر وذهن مستنير. الراهب نفس حزينة لا تنفك تلهج بالموت في النوم واليقظة. واعتزال العالم هو مقت طوعي وجحود للطبيعة لأجل البلوغ إلى ما يفوق الطبيعة.2
الحقّ أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكّون فلا تفعلون أمرَ التينة فقط بل إن قلتم أيضاً لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون. وكلُّ ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه. (مت 21:21)
الأب أفرام
وفي إحدى رسائله يقول الأب أفرام وهو الإبن الروحي للشيخ يوسف الهدوئي: ليس هناك من خيار أفضل من خيار الرهبنة. الرهبنة تعني التأله، وتقدّيس الجسد والروح، والإتحاد مع الله. الرهبنة هي اليقظة والإدراك وإكتشاف ملكوت الله داخل الإنسان. من هو الحكيم الذي سيفقه هذه الأمور؟ من دون رهبنة لا يصل أحد إلى اللاهوى. لا يوجد قلب نقي دون سهر وإمساك وصلاة متواصلة...إذا لم يتنق القلب لا يستطيع يسوع النقي أن يجعله منزلاً. وكيف يمكن للمرء أن يقتني قلباً نقياً في وسط العالم؟ لقد أدرك الآباء صعوبة هذا الأمر، ولهذا السبب تركوا العالم ولجؤوا إلى البرّية.3
وفيما هم سائرون دخل قرية فقبلته امرأة اسمها مرتا في بيتها. وكانت لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه.أما مرتا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة. فوقفت وقالت يا رب أما تُبالي بأنَّ أختي قد تركتني أخدم وحدي. فقل لها أن تُعينني. فأجاب يسوع وقال لها مرتا مرتا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها.
الرب يسوع يظهر للقدّيس سلوان أثناء صلاته في قلايته
أما في حديث القدّيس سلوان الآثوسي عن الرهبان فيذكر أن البعض يقول إنّه على الرهبان خدمة العالم كي لا يأكلوا خبز الشعب باطلاً، ولكن علينا أن نفهم جيداً ما تشتمل عليه هذه الخدمة.
الراهب إنسان مصلّ يبكي لأجل العالم بأسره، وهذا هو انشغاله الرئيسي.
من هو الذي يحثّه إذاً على البكاء من أجل العالم كلّه؟
هو السيّد يسوع المسيح، ابن الله، إنه يمنح الراهب محبّة الروح القدس، وهذا الحب يملأ قلبه بالتوجّع لأجل البشر، لأنهم ليسوا كلّهم على طريق الخلاص. إنّ السيد نفسه تفجّع متألماً لأجل شعبه الذي أسلمه للموت على الصليب...منح السيّد الروح القدس هذا عينه للرسل ولآبائنا القدّيسين ولرعاة الكنيسة. وفي هذا تكمن خدمتنا للعالم.
لهذا فإنه لا رعاة الكنيسة ولا الرهبان، بإمكانهم الإهتمام بأشياء هذا العالم ومشاغله، لكن عليهم اتباع مثال والدة الإله، التي كانت مقيمة في الهيكل، في قدس الإقداس، تدرس ليل نهار أحكام السيّد وتسكن في الصلاة لأجل الشعب. ليس عمل الراهب خدمة العالم بعمل يديه، فهذا عمل ناس هذا العالم. إن الإنسان في العالم يصلّي قليلاً، لكن الراهب يصلّي باستمرار، وبفضل الرهبان لا تتوقف الصلاة على الأرض، وهذا ما ينفع الكون بأسره لأن العالم يبقى مستمراً بصلاة الراهب. لكن، إذ تضعف الصلاة،
فالكون يفنى...صلّى "النبي موسى" في قلبه فقال الرب السيّد له:"ما بك تصرخ إليَّ" وهكذا خلُص اليهود من المصائب. أما القدّيس أنطونيوس فقد عضد الكون بصلاته، وليس بعمل يديه. والقدّيس سرجيوس رادونيج ساعد الشعب في روسيّا للتحرر من هجمة التتار بالصلاة والصوم. والقدّيس سيرافيم كان يصلي في قلبه، فحلّ الروح القدس على "موتوفيلوف" أثناء حديثهما. هذا هو عمل الراهب....
ربما تقولون إنه لا يوجد بعد رهبان يصلّون للعالم أجمع، لكني أقول، إذا لم يعد في العالم رهبان مثل هؤلاء، فستكون نهاية العالم، بل ستنقضّ عليه المصائب، وهي حاصلة الآن.4
وقال لهم أيضاً في أنّه ينبغي أن يُصلَى كلَّ حين ولا يُملَّ (لو 1:18)
القدّيس مكاريوس الكبير قال: "من يرغب في الإقتراب من الرب واستحقاق نوال الحياة الأبدية وأن يصير هيكلاً للمسيح، وأن يمتلئ من الروح القدس، وأن يُنجز بطهارة ودون عيب وصايا المسيح، عليه قبل كل شيء الإيمان يقيناً بالرب، وإعطاء الذات كلياً لوصاياه، والإنقطاع عن العالم في كل شيء فلا ينشغل ذهنه بما هو منظور. حينئذ من الموافق أن يفكر على الدوام بأن الله وحده أمامه، ويسعى إلى رضاه وحده، والبقاء على الدوام في الصلاة...".5
الأب يوسف الهدوئي
والأب يوسف الهدوئي يذكر في إحدى رسائله أنّ حياة الراهب استشهاد دائم. وفي رسالة أخرى يقول يتبّرك الأهل بأولادهم إن خلصوا. والسيرة المضيئة للأبناء تُمسي للأهل مصباحاً إذ يُعطَون نعمة. فإن نعمة الرهبان تنفع عيالهم حتى إلى الجيل السابع. فالراهب الأصيل نتاج الروح القدس. متى تنقت حواسه بالطاعة والمعاينة الإلهية، متى هدأ ذهنه وتنقى قلبه، إذ ذاك يأخذ نعمة واستنارة المعرفة.
يصير كلّه نوراً، كلّه ذهناً، كلّه صفاء. يَفيض لاهوتاً لدرجة أنه لو كان ثلاثة أشخاص ليشرعوا في تدوين ما يسمعونه منه لما كان بإمكانهم أن يُجاروا تيار النعمة المتدفّق منه في أمواج والمشيع سلاماً وسكوناً فائقاً للأهواء من خلال الجسد. يشتعل القلب بالحب الإلهي فيهتف "أمسِك عني، يا يسوع، أمواج نعمتك فإني أذوب كالشمع"...يُخطف ذهنه في الثاوريا...يتغيّر ويصير والله واحداً...كالحديد في الآتون يصير واحداً والنار.6
قال يسوع لتلاميذه إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فأنَّ من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها. ومن أهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه. أو ماذا يُعطي الإنسان فداء عن نفسه. (مت 24:16-26)
عندما سئل الأب الياس مرقص عن غاية الرهبنة أجاب: إن غاية الحياة الرهبانية الأساسية هي الإختلاء في سبيل التوبة، والتطهّر من الأهواء، وتسبيح الله الدائم، والصلاة من أجل العالم. ولكن هذا لا يمنعها من تأدية خدمات عملية عند الضرورة وعند الإقتضاء.
إن دير "الذين لا ينامون" قد قام، مثلاً، (في القرن الخامس) بتنظيم جولات تبشرية فيما بين النهرين. فخرج من الدير حوالي سبعين راهباً (ومرة أخرى حوالي مائة وخمسين) ليبشروا السكان مكَملّين إياهم. غير أن مثل هذه الحالات العملية ليست الغاية الأساسية للحياة الرهبانية. علماً بأنه يمكن للمسيحيين الأتقياء غير الرهبان أن يقوموا بتأسيس مدارس أو مستشفيات أو مياتم أو غيرها بواسطة جمعيات مخصّصة لذلك.
أما الرهبان فيبقون منكبين على الصلاة والتوبة واستقبال المحتاجين إلى الإرشاد.7
كل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعفٍ ويرث الحياة الأبدية. (مت 29:19)
الأب بورفيريوس الرائي
تململ أحد الأساقفة لدى الأب بورفيريوس أنّ الرهبان يهربون إلى الجبال لينقذوا نفوسهم ويتركون لكهنة الرعايا مسؤولية خلاص نفوس البشر. فأجابه الأب بورفيريوس:" يا صاحب الغبطة، أنت تتكلم فيستقرّ كلامك في أذن الإنسان.
أما الرهبان فعندما يتكلّمون (أي يصلّون) يذهب كلامهم إلى أذن الله وبعدها تصل إلى أذن الإنسان." لأن قرب الراهب من الله هو الذي يقرّبه من أخيه الإنسان.8
قال الرب يسوع: أبناء هذا الدهر يُزوِّجون ويُزوَّجون. ولكنّ الذين حُسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الموات لا يُزوِّجون ولا يُزوَّجون...لأنّهم مثل الملائكة وهم أبناء الله"
القدّيس ثيوفان الحبيس
كتب القدّيس ثيوفان الحبيس في إحدى رسائله لراهباته: إنّ المتبتّلين والمتبتّلات ثابتون في كنيسة المسيح منذ عهد الرّسل. ولطالما كانوا في الكنيسة منذ تلك الأيام وسيكون ما دامت الكنيسة، يعني إلى انقضاء الدهر. وليس هذا النمط الحياتيّ بغريب عن طبيعتنا، بل إنّ روح الإيمان بالمسيح يعزّزه. كان في كورنثوس صبايا كثيراتٌ رغِبْنَ في عدم الزواج لشغفهنّ بعشق المسيح الرب، والعريس الأوحد للجميع. فاسترشدَ آباؤهنّ عند القدّيس بولس الرّسول ماذا يفعلون.
فأشار القدّيس عليهم بأن يتركوا البنات على اختيارهنّ كإماء للربّ، ولا يرغموهنّ على الزواج. فعمل الآباء بنصحه وبقيت الفتيات بتولات. وتبعت كنائس أخرى مثال أهل كورنثوس فازدهرت البتوليّة في كلّ الأصقاع.9
لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمّهاتهم. ويوجد خصيان خصاهم الناس. ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل. (مت 12:19)
الأب صفروني
الأب صفروني في تعريفه للرهبنة يقول:" لذلك نرى الكنيسة، بعد فترة الشهداء، تلتجئ إلى البرّية حيث وجدت كمالها وعاشت مصدر نورها، هناك نجد القوة الحقيقية للكنيسة المجاهدة. من هم القدّيسون يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وأبيفانيوس والمطارنة الكسيوس وفيلّبس وسائر الرعاة القدّيسين؟
هؤلاء المتوشّحون بالنور موجودون ليس فقط في مصفّ الأساقفة بل أيضاً في مصفّ الرهبان البسطاء ابتداء من أنطونيوس الكبير إلى يوحنا الدمشقي إلى سرجيوس رادونيج وجيورجي الناسك الذين وطدّوا الإيمان ونقضوا الهراطقة وقووا عليهم. ألم تكن المسيحية بدون الرهبان قد غابت عن العالم؟10
ويقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس: إذاً من زوَّج فحسناً يفعل ومن لا يُزوّج يفعل أحسن..."
المراجع:
1- الأب المتوحد إسحق الآثوسي (2000)، رسائل الشيخ المغبوط الذكر الراهب بائيسيوس الآثوسي، الكورة: دير الشفيعة الحارّة
2- رهبنة دير مار جرجس الحرف (2006)، السلّم إلى الله: القدّيس يوح