كل مناصري الإجهاض لا يأخذون بعين الإعتبار أي أهمية لحياة الجنين الذي في الرحم سواء كانت هذه الحياة بإمكانها الوجود بمفردها خارج الجسم أم أنها تحتاج لجسم الأم كي تستمر.
إيمان الكنيسة يختلف عن إيمان المجتمع، فبالنسبة للكنيسة يُعتبر الإجهاض جريمة، حيث ترى الكنيسة أن الحياة البشرية تبدأ منذ لحظة الحمل ( لحظة اتحاد النطفة بالبويضة ) وذلك تماشياً مع تعاليم كتابها المقدس.
وترى الكنيسة أن مراحل تخلّق وتكوّن الأنسجة عند الجنين داخل رحم الأم هي حياة مقدسة وليس لأحد سوى الله وحدة حق تقرير مصير هذا الكائن الحي. وكما ترى الكنيسة أنه ليس من حق أحد أ، ينهي حياته أو حياة شخص آخر، فإن هذا المنع يطال الحياة التي لم تزل تتشكل في رحم الأم الحامل.
ومن هذا، تعتبر الكنيسة الرأي السابق حول حق الأم بأنه أنانيّ وخاطيء، ففي المسيحية الجسد هو لله الخالق والطفل له أيضاً، كما أن الرحم والحياة هي له كذلك. الله هو خالق كل شيء وهو من نفخ الحياة في التراب فكان آدم نفساً حية. الله وحده هو معطي الحياة وله وحده الحق والسلطة في استردادها.
يحتج مناصروا الإجهاض أن الجنين في الأسابيع الأولى من الحمل معتمد كلياً على الأم وغير قابل للحياة بمفرده خارج رحمها، لذلك ينظرون له على أنه جزء من جسد الأم وليس كائناً مستقلاً.
الكنيسة لا تعير ذلك أهمية إذ أنها ترى أن حياة جديدة قد بدأت مع لحظة الحمل، وهو ذات الأمر بالنسبة للطفل حديث الولادة، والذي سوف يموت إذا لم يكن هناك من يهتم به ويطعمه ويغذّيه. ولا يمكن للكنيسة أن تقبل أن الجنين ليس كائناً حياً مستقلاً لمجرد كونه لا يستطيع العيش بمفرده.
تؤمن الكنيسة بمبدأ حماية الحياة البريئة وخصوصاً الأطفال الذين لم يولدوا بعد، وتلعب دوراً كبيراً في محاربة تشريع الإجهاض ببعديه الأخلاقي والقانوني، وهي تعتبر أن القوانين ينبغي أن تكون تعبيراً إيجابياً عن المعايير الأخلاقية للمجتمعات.
ومنذ بدايتها ما فتئت تدين الإجهاض على أنه جريمة بغض النظر عن عمر الحمل، ومرجعها في ذلك الكتاب المقدس وكتابات آبائها القديسين. وليس من علاقة بين الفكر المسيحي الأرثوذكسي والعقائد اليهودية، الرومانية أو الإغريقية،
بل إن الفكر المسيحي هو بحد ذاته خروج عن فلسلفة أرسطو اليونانية، وهو يرى في الإجهاض جريمة بغيضة وممقوتة من قبل الله تعالى، وعملية قتل صريحة في أي مرحلة من مراحل الحمل.
الموقف الكتابي
تأمر الوصية السادسة بعدم القتل " لا تقتل " ، ويُفهم من القتل هنا إما سلب الحياة الشخصية " الإنتحار " أو سلب حياة الفرد الآخر " القتل " أو سلب حياة من لم يولد بعد " إجهاض الأجنة ".
أصل الحياة يبقى في الكتاب المقدس غير واضح تماماً وهو " السر الذي لا يعلم به إلا الله تعالى " حسب تعبير القديس كيرلس الإسكندري، ولذلك لا تطرح الكنيسة تعليماً محدداً بهذا الخصوص،
لكنها رفضت بحزم تعليم أوريجانس الموروث من الفلسفة الأفلاطونية والقائل بفكرة " الوجود المسبق للنفوس قبل الحمل بالجنين "، وقد أُدين هذا التعليم الأوريجاني في المجمع المسكوني الخامس.
في مفهوم الكنيسة المسيحية فإن الحياة البشرية التي هي هبة الله لم تُمنح للإنسان دون قيد أو شرط، بل تحت شرط المسؤولية بالحفاظ عليها.
والدلالة الكتابية على أن الله يحترم حياة الإنسان قبل كل شيء نجدها في كلمات الكتاب المقدس " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية "( يو3: 16 ).
من بين النصوص الكتابية في العهد القديم والتي تشير إلى أن الجنين وحياته مقدسين في عيني الله ما يرد في سفر إرميا " قبلما صورتك في البطن عرفتك ، وقبلما خرجت من الرحم قدستك . جعلتك نبيا للشعوب " ( إرميا1: 5 ). وهذا النص واضح وجلي في بيان وجهة نظر الكنيسة التي تعتبر الحياة الجنينية حياة مقدسة والجنين كائن حيّ لم يكن إلا لأن الله أراد له أن يكون.
وفي العهد الجديد يستعمل القديس لوقا الإنجيلي الكلمة اليونانية بريفوسΒΡΕΦΟΣ ومعناها طفل baby ليدل بها نفسها على الجنين ( النبي يوحنا المعمدان )، وعلى الطفل الإلهي المولود أيضاً :
"فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني"( لو1: 44 )،
و " وهذه لكم العلامة : تجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود " ( لو2: 12). وفي كلا العبارتين يستعمل الإنجيلي كلمة بريفوس السابقة للدلالة على الجنين الذي لم يولد بعد وعلى الطفل الإلهي المولود، حسبما ورد في النص اليوناني الأصلي.
وهناك المزيد من النصوص التي تتحدث عن اختيار الله لأشخاص من قبل ولادتهم لتعيينهم ودعوتهم وتقديس هؤلاء الأطفال غير المولودين بالنعمة الإلهية،
مما يؤكد رأي الكنيسة الكتابيّ بأن الجنين ليس كائناً حياً فحسب بل هو شخص قائم بذاته. ولذلك تعيّد الكنيسة للحبل ليس فقط بالرب يسوع بالجسد ( عيد البشارة ) بل كذلك للحبل بوالدته العذراء مريم في 9 كانون الأول ديسمبر والحبل بالنبي يوحنا المعمدان في 23 أيلول سبتمبر.
وإلى أبعد من ذلك، فالكنيسة الأرثوذكسية التي تعتبر الجسد هو هيكل الروح القدس حسب تعليم القديس بولس ( كورنثوس الأولى6: 19 ) ، تعتبر أ، الإجهاض ليس جريمة قتل بحق كائن حي فقط، بل جريمة تطال روح الله القدوس أيضاً.
الموقف الآبائي
كما الكتاب المقدس كذلك آباء الكنيسة. فبعضهم ومنهم ( كليمنتس الإسكندري، يوحنا الذهبي الفم، أفرام السرياني وغيرهم ) قال أن الله يخلق كل نفس على حدى. وفيما ذهب بعضهم إلى أن زمن اتحادها بالجسد الجنيني الآخذ بالتشكل هو في اليوم الأربعين للحمل.
فقد رأى آخرين أن الروح والجسد يتحدان معاً في آن واحد، ومن القائلين بذلك ( غريغوريوس اللاهوتي، غريغوريوس النيصي، مكاريوس المصري ، العلامة ترتيليان ) الذين قالوا بأن الروح تخلق من روح الوالدين تماماً كما يُخلق الجسد الجديد من جسديهما، وبهذه العملية يشارك الوالدان في عملية الخلق مع الله.
والكنيسة تميل للرأي الثاني وهي تعلّم بأن الرب يسوع صار إنساناً منذ لحظة الحبل به. وقد أجمع الآباء على أن الحمل هو عطية الله، وكل شخص يعتدي على هذه العطية ويحاول تدميرها إنما هو يعتدي على قانون الله.
جاء في الذيذاخي الذي يعتبر واحدة من أقدم الكتابات المسيحية ويسمى - تعليم الرسل الإثني عشر - مايلي " لا تقتل طفلاً من خلال إجهاضه ولا تقتل طفلاً حديث الولادة " ،
كما جاء في رسالة القديس برنابا الرسول من أوائل القرن الثاني الميلادي أيضاً " لا تتخلص من طفل في رحم أمه ولا تقتله بعد ولادته ".
وقد كتب الفيلسوف والمدافع أثيناغوراس الأثينائي للإمبراطور ماركس أوريليوس عام 177 مدافعاً عن المسيحيين في وجه اتهامات لهم بالإجرام " أي سبب سوف يدفعنا للجريمة إذا كنا نعتبر أن النساء اللواتي يُجهضن هنّ مجرمات وسيقدمن حساباً عن فعلتهنّ أمام الله " .
القديس باسيليوس الكبير ( 320 ? 379 ) اعتبر أن " المرأة التي تقتل جنينها هي مجرمة "، وقد أدان وسائل الإجهاض بغض النظر عن عمر الحمل بقوله " أولئك الذين يعطون السموم لقتل الأجنّة في الأرحام هم قتلة، كما هم أيضاً اولئك اللواتي يتناولن تلك السموم بهدف قتل الأجنّة ".
أما القديس يوحنا الذهبي الفم ( 345 ? 407 ) فقد أدان قيام الرجال بالتخلص من أجنتهم غير الشرعيين معتبرأ فعلتهم هذه بأنها " أسوأ من الجريمة نفسها "، وقال عن الرجال الذين دفعوا نساءاً إلى الإجهاض " أنت لا تدع عاهرة تبقى عاهرة بل وتجعل منها قاتلة أيضاً " .
والقديس غريغوريوس النيصي ( 335 ? 394 ) رأى أن الجنين هو كائن حي بشري تام منذ لحظة الحبل به، ورفض نظريات التكون المرحلية " يجب علينا الإعتقاد بأن لحظة البدء هي واحدة ونفسها للنفس والجد على السواء ".
وقد أكّد العلامة ترتليان القرطاجي ( 160 ? 230 ) أن " الإجهاض هو قتل ولا يهم إذا سُلبت الحياة أثناء التشكّل أو بعد تمام التصوّر لأنه كائن حي ".
وقد أدانت المجامع الكنسية المحلية والمسكونية الإجهاض معتبرة إياه جريمة قتل وخصوصاً مجمع Elvira في إسبانيا عام 303 ، ومجمع Ancyra عام 314 ? 315 في القانون 21 من قوانينه. كما أدان أخيراً المجمع المسكوني الخامس ? السادس عام 691 في القسطنطينية في القانون 91 من قوانينه الإجهاض بنص صريح " كل الذين يتناولون أدوية بهدف الإجهاض أو الذين يتناولون مواداً سامة للأجنة يخضعون للعقاب كقتلة " وهذا القانون بالإضافة لكتابات الآباء القديسين قد جُمعت في كتاب يسمى " القانون الرسمي للكنيسة الأرثوذكسية " عام 883م.
ظروف خاصة
تتعامل الكنيسة الأرثوذكسية مع كل حالة من حالات الإجهاض بمفردها مع الأخذ بعين الإعتبار الدوافع والأسباب. فمن الحالات الشائعة التساؤل القائل " ماذا لو أن الأم قد تعرّضت للإغتصاب ،
والطفل الذي سيولد هو من شخص اعتدى عليها بطريقة بشعة؟ وبأن هذا الطفل سيكون بمثابة الذكرى لها لتلك المعاناة الرهيبة ؟ وأكثر من ذلك لو كان الحمل نتيجة اغتصاب من الأقارب أنفسهم وفق ما يُعرف بسفاح القربى؟"
كما تدين الكنيسة الإغتصاب أياً يكن فاعله، فهي أيضاً بالمقابل لا تبرّر الإجهاض كوسيلة لحل تلك المشكلة. فالكنيسة لا تقول بأن على المرأة أن تحتفظ بالطفل، لأنها بعد أن تكمل حملها وتلد يمكنها ? في حال عدم قدرتها الإحتفاظ بالطفل ? أن تقوم بتليمه لدور العناية الخاصة التي تهتم به وتقوم بتربيته ( هذا قد ينطبق على أكثر الدول تقدماً ).
لا يعلم أحدٌ بالغيب ولكن ما يعلمه الجميع ويسمعونه من أمهاتهم أن كل الآلام والمعاناة وأوجاع المخاض ستزول بمجرد ان يضع الطبيب المولود بين يدي أمه للمرة الأولى. فإن لم تكن المرأة على استعداد للتعامل مع الطفل يمكنها في بعض البلدان تسليمه لجمعيات ومياتم تعتني به،
وهنا لا يمكن للكنيسة أن تقبل بالإجهاض لحل المشكلة نظراً لتوفر البدائل الممكنة.
عندما يعرّض الحمل والولادة حياة الأم لخطر كبير بسبب أمراض معينة، كما في حال إصابة الأم بسرطان عنق الرحم مثلاً، ويكون علاج الأم بحد ذاته يشكل خطراً على الجنين؛
فإن الكنيسة الأرثوذكسية مع علمها وإدراكها بحساسية المسألة وتعقيدها تأخذ هذه الحالات بمفردها ، وترى أنه لو سبّب العلاج الذي تخضع له الأم وفاة الجنين وإجهاضه فهذا لا يعتبر إجهاضاً مقصوداً لأن الهدف كان بالأساس إنقاذ حياة الأم ولي قتل الطفل أو التخلص منه،
وأن وفاة الطفل كانت نتيجة حتمية لإنقاذ حياة الأم. في حالات كهذه على الأم والأب أن يلجأا للصلاة واستشارة كاهنهم، والتعاون معاً على اتخاذ القرار الأكثر صواباً.
هناك حالات نادرة تتفهّم فيها الكنيسة الظروف التي أودت بحياة الأجنة وأدت إلى إجهاضهم، كما في الحالة المذكورة أعلاه. لكن الكنيسة لا يمكن لها أن تقبل بالإجهاض وسيلة لتحديد النسل عند الحبل بطفل غير متوقع، أو تفادياً لولادة طفل م
|