لا تَبكِ. ها قد غَلَبَ الأَسَدُ مِن سِبطِ يَهوذا (رؤ 5 /5)
سيرة القديس مار فرنسيس
القديس فرنسيس الاسيزي
تعتمد هذه السيرة على مخطوطة منسوبة إلى إخوة مقربين من القديس فرنسيس وهم حسب بعض الرواة الأخ ليون معرّف القديس والأخ روفينو والأخ انجلو وثلاثتهم من رفاق فرنسيس الأوّلين. إنّها مخطوطة قيّمة ذات أهمية تاريخية، تروي بأمانة ما جرى لفرنسيس من أحداث متفرقة وتعكس بصدق روحانيته الإنجيلية
حياته
وُلِدَ فرنسيس عام 1179، في مدينة أسيزي بإيطاليا. ولما شبَّ انقاد لأميال الجسد وشهواته، إلا انّه كان شفوقاً على الفقراء، فنظر الله إليه بعين الشفقة، وأنار عقله وأولاه نعمة التوبة الصادقة. سمع ذات يوم صوتاً يقول له: "يا فرنسيس أُسنُد بيعتي". فلم يفهم معنى هذا الصوت. وأخذ يزيد ويُفرط في الإحسان إلى المساكين، حتى ضجّ أبوه فحرمه الميراث وسرّحه. فاتشح ثياباً رثّة، ومشى حافي القدمين، ممارساً أعمال التوبة الشاقة والرسالة، يعظ الناس بالمثل اكثر منه بالكلام، فتبعه كثيرون. فبنى لهم الديورة ووضع لهم القوانين، متسامياً بالفضائل ولا سيما بفضيلة التواضع العميق. فمنحه الله صنع العجائب. اثبت لهُ البابا انوريوس القانون ببراءة رسميّة. فتعزّى القديس بأن رهبنته قد تعززت ونمت وانتشرت. وكان على صداقة متينة مع القديس عبد الأحد، يتعاونان على خلاص النفوس وخير الكنيسة. وبعد أن أتمّ هذا القديس جهاده، رقد بالربّ سنة 1224، وله من العمر 45 سنة. وقال فيه البابا غريغوريوس العاشر ان جراحات المسيح انطبعت في يديه ورجليه وجنبه.
الرهبنة
1- في بداية الرهبانية، لما بدأ توافد الإخوة إلى فرنسيس، كان يعيش معهم بالقرب من قرية اسمها ريفو تورتو Rivotorto. وحدث مرة، عند منتصف الليل، بينما الإخوة نائمون على أسرّتهم الخشبية، أن أحدهم أخذ يصيح فجأة: إني أموت! إني أموت. استفاقوا جميعاً مذهولين مرتعبين. نهض فرنسيس وقال: ?قوموا أيها الإخوة وأشعلوا النور. وبعد أن أُشعِل القنديل سأل: ?من الذي صرخ: إني أموت؟.
أجاب الأخ: أنا هو.
قال له فرنسيس:وما بك، يا أخي؟ لماذا أنت تموت؟.
أجاب:?إني أموت جوعاً.
ولما كان فرنسيس إنساناً مملوءاً لطفاً ورقّة، أمر للحال باعداد المائدة، ولئلا يخجل ذلك الأخ من أن يأكل وحده، جلسوا جميعهم يأكلون معه. ولكونهم ارتدوا إلى الرب من مدة قصيرة فقد كانوا هم أيضاً مثل ذلك الأخ يخضعون جسدهم لإماتات تجاوزت الحدود. بعد أن تناولوا الطعام، كلّمهم فرنسيس، قال: ?إخوتي الأحباء، أوصيكم بأن يراعي كلّ منكم ظروفه الجسدية. إذا تمكن أحدكم من الامتناع عن الأكل أكثر من غيره، فإنّي لا أريد من الذي يحتاج إلى طعام أوفر أن يحاول الاقتداء بغيره في هذا الشأن. بل فليأخذ بعين الاعتبار حالته الصحية وليعطِ جسده ما هو بحاجة إليه؛ فكما أنه علينا الامتناع عن أي إفراط في المأكل مما يضرّ بالجسد والنفس، كذلك وبنوع أخصّ علينا تجنب الإفراط في الصوم والإماتات لأنّ الرب يفضّل الرحمة على الذبيحة. وأضاف: إخوتي الأعزاء، إنّي، بإلهام من المحبة، قمت بهذه المبادرة وهي أن نأكل سويّة مع الأخ لئلا يخجل من أن يقتات وحده. تأكدوا أني ما فعلت ذلك إلاّ بدافع المحبة ونظراً لضيقة ذلك الأخ. رغم هذا، اعلموا أني لن أكرر بعد اليوم مثل تلك المبادرة، فإنّها لا تنسجم مع الحياة الرهبانية وكرامتها. إنّما أريد وآمر كل واحد منكم وضمن حدود فقرنا أن يعطي جسده ما هو ضروري له.
قساوة فرنسيس مع نفسه ورقّته مع الإخوة
2- دأب الإخوة الأوائل وكذلك الذين أتوا بعدهم ولفترة طويلة على قهر جسدهم ليس فقط بحرمانه من الأكل والشرب أكثر من اللزوم، بل حرموا أنفسهم من النوم، ولم يتّقوا قساوة البرد والأشغال اليدوية الشاقة. لبسوا تحت ثيابهم مباشرة ما تيسّر لهم من الجلود وأطواق الحديد وأقسى ما وصل إلى أيديهم من مسوح. لكن الأب القديس، إذ اعتبر أنّه في مثل تلك الأوضاع القاسية ستلحق بالإخوة الأمراض لا محالة - وبالفعل فإنّ بعضهم مرضَ بعد فترة وجيزة - فإنّه خلال انعقاد أحد المجامع منعهم بألاّ يلبسوا على أجسادهم إلا الثوب الرهباني وحده. ونحن الذين عشنا معه، يمكننا أن نقدّم عنه هذه الشهادة وهي أنّه من يوم بدء الإخوة يأتون إليه وطيلة حياته كلها، تصرف معهم بفطنة مبيناً لهم أن عليهم فيما يختص بالمأكل وبغيره من الحاجيات، أن يلتزموا حدود الفقر والاتّزان وهما الطابع التقليدي بين الإخوة منذ الأيام الأولى. بعكس ذلك، كلّما كان الأمر متعلقاً بشخصه، فإنّه منذ بداية ارتداده وقبل أن يأتي الإخوة إليه، ومدى حياته كلها دون انقطاع، عامل جسده بقساوة زائدة، رغم أنه كان منذ صباه نحيلاً وضعيف البنية. ولما كان لا يزال في العالم، لم يكن بإمكانه العيش إلا محاطاً بشتّى أنواع الرفاهية. لاحظ مرة كيف أنّ الإخوة بدأوا يتخطَّون حدود الفقر والاتّزان في المأكل وفي غيره من الحاجيات، فقال لبعضهم وهو يقصد من وراء ذلك مخاطبة جميع الإخوة: ألا يعتقد الإخوة بأنّ جسدي بحاجة إلى طعام مميّز؟ رغم ذلك، بما أنّه عليّ أن أكون قدوة ومثالاً للإخوة جميعاً، فإني أريد الاكتفاء بطعام فقير وبثياب خشنة. وأنا فرِحٌ بذلك.
في مدحه للتسوّل
3- لما بدأ الإخوة يأتون إلى فرنسيس، كان مغتبطاً جداً من ارتدادهم ومن مرافقة أولئك الذين أهداهم إليه الرب. كان يحيطهم بمحبة فائقة وبتقدير رفيع حتى إنّه لم يكن يقترح عليهم أن يذهبوا ويستعطوا خشية أن يخجلوا من ذلك، حسب ظنّه، تجنباً لإحراجهم، كان يذهب وحده كل يوم لطلب الصدقة، مما سبَّب له إرهاقاً جسيماً كونه من أساسه نحيل البنية وقد تعوّد وهو في بيته أن يعامل جسده بنعومة، ومن جهة ثانية فإنّه بعد تركه العالم قد زاد على جسده ضعفاً لكثرة ما فرض عليه من تقشّفات وإماتات صارمة. وبما أنّه اعتبر أنّه لم يعد قادراً على حمل مثل تلك المشقة، وأنّ التسوّل هو من أساسات دعوة الإخوة، حتى ولو شعروا بالنفور من الاستعطاء ولم يعتادوا عليه مطلقاً، بل انّه لن يخطر ببالهم أن يبادروه بالقول: نريد نحن الذهاب لطلب الصدقة?، قال لهم فرنسيس:إخوتي الأعزاء وأبنائي، لا تخجلوا من الذهاب لطلب الصدقة، فإنّ الرب صار فقيراً لأجلنا في هذا العالم. ونحن اقتداءً به وبأمه القدّيسة قد اخترنا طريق الفقر الحقيقي. إنّه ميراثنا الذي اكتسبه الرب يسوع المسيح تركه لنا ولكلّ الذين يريدون أن يعيشوا مثله في الفقر المقدس. وأضاف: الحق أقول لكم، إنّ عدداً كبيراً من النبلاء العلماء في هذا العالم سيأتون إلى جماعتنا الأخويّة ويعتبرون شرفاً كبيراً بأن يذهبوا لطلب الصدقة مع بركة الرب. عليكم إذن أن تذهبوا دون حياء بشري وأن يملأ قلبكم فرح يفوق فرح من يستبدل قرشاً واحداً بمائة دينار. فمن يتصدق عليكم، تهدونه حب الله بدل صدقته لمّا تقولون: "حباً بالرب الإله، أعطونا حسنة"، فإنّ السماء والأرض دون قيمة مقابل حب الله. وبما أن عددهم آنذاك كان قليلاً، فلم يكن بإمكانه أن يرسلهم اثنين اثنين، لذلك أرسلهم إلى القرى والمزارع كلاً بمفرده. عند عودتهم، كان كل واحد منهم يعرض على فرنسيس ما جمعه من حسنات وكانوا يقولون لبعضهم: أنا جلبت أكثر منك ففرح فرنسيس عند رؤيتهم بمثل ذلك السرور وتلك الروح الطيبة. ومنذ ذلك الحين، صار كلّ منهم يطلب بطيبة خاطر الإذن للذهاب لطلب الصدقة.
لا تقلقوا بشأن الغد
4- في تلك الفقرة، لمّا كان فرنسيس يعيش مع الفوج الأوّل من الإخوة كانت روحه صافية بشكل يثير الاعجاب. فإنّه من يوم أوحى إليه الرب أن يعيش هو وإخوته حسب الإنجيل المقدس، قرر واجتهد أن يطبقه حرفياً طيلة أيام حياته. مثالاً على ذلك، لمّا كان الأخ المكلّف بالمطبخ يريد أن يسكب البقول للإخوة، كان يمنعه من نقعها في الماء الساخنة من العشية حتى الغد، كما هو مألوف وذلك امتثالاً لوصية الإنجيل: لا تهتموا بشأن الغد، وهكذا كان ذلك الأخ ينتظر نهاية تلاوة صلاة الليل لينقع خضاره في الطشط. وظلّ إخوة كثيرون يتقيّدون بتلك النفسيّة لمدة طويلة في أماكن تواجدهم وخاصة في المدن. ولم يكونوا يطلبون أو يقبلون من الحسنات إلاّ الكمية اللازمة ليومهم.
رقّة معاملته لأخ مريض
5- أثناء إقامة فرنسيس بالقرب من كنيسة سيدة الملائكة، حدث مرة أن مرضَ أحد الإخوة وهو من ذوي الروحانية العميقة وقد مضت عدة سنوات على دخوله الرهبانية. ولما رآه فرنسيس وقد ثقل عليه المرض، أخذته الشفقة عليه وكان الإخوة في تلك الأيام فرحين دائماً ومحتملين كل شيء يصير سواء كانوا مرضى أو أصحاء، وكان الفقر غناهم. لا يلجأون إلى الأدوية أثناء المرض، بل بالعكس يختارون ما يعاكس جسدهم. فقال فرنسيس في نفسه: لو أنّ هذا الأخ أكل في الصباح الباكر عنقود عنب ناضج، أظن أنّه سيعافى. وفي ذات يوم نهض عند الفجر ودعا ذلك الأخ سيراً واقتداه إلى أحد الكروم المجاورة لتلك الكنيسة واختار كرمة غنيّة بالعناقيد الشهيّة، وجلس مع الأخ تحت الكرمة وأخذ يأكل من عنبها كيلا يخجل المريض من قطفها وحده. وكان الأخ وهو يتذوقها يمجد الرب الإله. وظل طيلة حياته يخبر الإخوة، متأثراً باكياً عن تلك البادرة الرقيقة من أبينا القديس نحوه.
صيانة صلاته الفردية
6- أثناء إقامة فرنسيس في ذلك المكان، كان ينفرد للصلاة في غرفة صغيرة قائمة وراء البيت. وفيما هو هناك ذات يوم، إذ قدم أسقف مدينة أسيزي لزيارته. دخل البيت وقرع الباب ليدخل حيث كان القديس. فُتِحَ له باب الغرفة الصغيرة فدخل للحال وكان فرنسيس يصلّي في زاوية صغيرة ببعض الحصر. ولما كان الأسقف يعرف أنّ الأب القديس يكنّ له الثقة والمودة، فإنّه اتجه إلى هناك دون مراعاة وأزاح زاوية الحصيرة ليراه لكنه ما كاد يطلّ برأسه إلى الداخل، حتى دفع بعنف إلى الخارج بإرادة من الرب لأنّه لم يكن يستحقّ أن يشاهد فرنسيس. تراجع إلى الوراء وخرج بسرعة من الغرفة مرتجفاً مذهولاً. واعترف بخطيئته أمام الإخوة نادماً على ما بدا منه في ذلك اليوم من جسارة.
في تجربة أحد الإخوة
7- كان أحد الإخوة من أعزّ أصدقاء فرنسيس وهو رجل قديم في الرهبانية وصاحب روحانية حيّة. وحدث له، في فترة من حياته، أن عذّبته أياماً طويلة تخيّلات من الشيطان أثقلته وضايقته. حتى إنّه غرق في حالة يأس عميق. كانت تلك التخيلات تلاحقه وزادت وطأتها عليه لأنّه كان يخجل من الاعتراف بها كل مرة فانكبّ يقاصص نفسه بالأصوام والسهر والدموع والجلد.طال عذابه ذاك أياماً عديدة إلى أن وصل فرنسيس بتدبير من الله إلى ذلك المكان. وبينما كان القديس يتمشى في جوار الدير برفقة أحد الإخوة وذلك المسكين المعذّب، ابتعد قليلاً عن الأخ الأوّل واقترب من الأخ المجرب وقال له: يا أخي العزيز، أريد منك وآمرك ألاّ تقلق وتجهد نفسك للاعتراف بتلك التخيلات والتصورات الشيطانية. كن مطمئناً. إنّها لن تلحق بنفسك بأيّ أذى. وكلّما راودتك، أقترح عليك تلاوة الأبانا سبع مرات?.امتلأ الأخ فرحاً عند سماعه مثل تلك الكلمات، أي أنّه غير ملزم بالاعتراف بتلك التجارب، لا سيما أنّه كان يخجل من الالتزام بالاقرار بها يومياً مما كان يزيد عذابه. وقد ذهل من قداسة فرنسيس، إذ انّه بواسطة الروح القدس، علم بتجاربه مع أنّه لم يسلّم سره لأحد ما عدا للكهنة وكثيراً ما غيّر معرّفيه، لأنّه يخجل أن يسرد دائماً للمعرف ذاته ما كان يخالجه من مرض داخلي. وما كاد فرنسيس يوجه إليه تلك الكلمات حتى شعر بأنّه تحرّر باطنياً وخارجياً من تلك المحنة المروعة التي لازمته مدة طويلة. وبعون الله، وبفضل استحقاقات القديس، استعاد الطمأنينة والسلام في النفس والجسد.
في حصوله على كنيسة البورسيونكولا
8- رأى فرنسيس أنّ الله يريد أن يتكاثر عدد تلاميذه، فقال لهم: يا إخوتي وأبنائي الأعزاء، إنّي أرى أنّ الله يريد أن نتكاثر. لذلك أظن أنّه مناسب وحسن لنا كرهبان أن نحصل من الأسقف أو من رهبان دير القديس روفينو أو من رئيس دير القديس مبارك على كنيسة صغيرة فقيرة نتمكن من تلاوة ساعات الفرض الطقسية فيها وأن يكون بالقرب منها مسكن صغير وفقير أيضاً مبني من الطين والخشب يستريح فيه الإخوة ويقومون فيه بأعمالهم الضرورية وبالفعل، فإنّ مكان إقامتنا اليوم لا يناسب لأنه يضيق بالإخوة المقيمين فيه ولأنّ الله ارتضى بأن يتكاثر عددنا. الأهمّ من ذلك أنّه لا توجد بتصرفنا كنيسة نصلّي فيها ساعات الفرض الإلهي كما أنّه إذا حدث أن توفّيَ أحد فلا يليق أن ندفنه هنا أو في إحدى كنائس الإكليرس العلماني.حسن ذلك الاقتراح لباقي الإخوة. عندئذ نهض فرنسيس وذهب لعند أسقف أسيزي وكرّر لديه الكلمات ذاتها التي سبق وكلّم بها الإخوة. أجابه الأسقف: أيها الأخ، ليس عندي أية كنيسة أقدر أن أعطيك إيّاها. فذهب القديس إلى رهبان القديس روفينو وعرض عليهم طلبه وهم أجابوه كما فعل الأسقف.عند ذاك، اتّجه هذه المرة إلى دير القديس مبارك المبني على جبل سوبازيو Subasioوكرّر للأب الرئيس ما سبق وعرضه على الأسقف وعلى الرهبان مضيفاً ما تلقّاه منه ومنهم من جواب. أشفق الرئيس عليه وعقد مع رهبانه مجمعاً للتداول بالموضوع، وبإرادة من الله، تخلى لفرنسيس وإخوته عن كنيسة القديسة مريم المدعوة البورسيونكولا، وهي أفقر كنيسة عندهم وكانت كذلك أتعس كنيسة يمكن وجودها في تخوم أسيزي، لكنها متناسبة مع تمينيات فرنسيس. وقال له الرئيس: ?أيها الأخ، لقد استجبنا طلبك. لكننا نريد، إذا أنمى الرب جمهوركم، أن يكون هذا المكان رأساً لكلّ الأديرة التي تؤسسونها?. فحسن ذلك الشرط لفرنسيس ولباقي إخوته.وكم كانت سعادة فرنسيس ان يوهب للإخوة ذلك المكان خاصة لأنّ الكنيسة تحمل اسم والدة الله ولأنّها فقيرة جداً وسميت البورسيونكولا(أي الحصة الصغرى) وكأنّ ذلك تكهن بأنها ستكون المركز الأم والرئيسي للإخوة الأصاغر الفقراء. كان ذلك الاسم قد أعطي في الماضي للمنطقة التي قامت فيها تلك الكنيسة الصغيرة وعرفت باسم البورسيونكولا. وقد اعتاد فرنسيس أن يقول: لهذا السبب دبّر الرب ألاّ تعطى للإخوة غير هذه الكنيسة وإلا يبني الإخوة الأوّلون آنذاك أية كنيسة جديدة وألاّ يكون لهم غير تلك. لأنّها كانت بمثابة نبوءة تحققت عند تأسيس الإخوة الأصاغر فيها?. ومع كونها فقيرة جداً وشبه مهدومة فإنّ سكان مدينة أسيزي وأهل الجوار أحاطوا دائماً ومن زمن بعيد تلك الكنيسة بإكرام فائق ما زال يتزايد حتى يومنا.ما كاد الإخوة يتمركزون هناك حتى كثّر الله عددهم كل يوم تقريباً. فإنّ خبرهم وصيتهم انتشرا في كل وادي اسبوليتو Spoleto. في الماضي كان اسم الكنيسة القديسة مريم سيدة الملائكة لكن الشعب اعتاد تسميتها القديسة مريم البورسيونكولا. إنّما بعد أن رممها الإخوة أخذ الرجال والنساء في تلك المنطقة يقولون: لنذهب إلى القديسة مريم سيدة الملائكة. صحيح أن الأب الرئيس ورهبانه قدموا الكنيسة لفرنسيس ولإخوته بشكل هبة دون أي مقابل أو بدل سنوي، مع ذلك فإنّ القديس كونه الرجل الحاذق والبنّاء الواعي الذي ينوي بناء بيته على الصخرة الصلبة أي أن يؤسس رهبانيته على الفقر الحقيقي فقد اعتاد أن يرسل كل سنة إلى ذلك الدير قفّة مملوؤة من السمك الصغير المسمى سلطان ابراهيم. وهو يعتبر ذلك علامة تواضع صادق وفقر لئلا يكون الإخوة متملّكين لأي مكان حتى ذلك الذي يسكنونه ما لم يكن ملكاً لغيرهم وهكذا لن يكون لهم أي حق ببيعه أو بتحويله إلى غيرهم البتة. كان الإخوة يحملون كل سنة قفة السمك إلى ذلك الدير، والرهبان يقدمون له ولإخوته جرة مملوؤة زيناً تقديراً لتواضعه.
البورسيونكولا مثال الرهبانية
9- نحن الذين عشنا مع القديس فرنسيس نشهد لما كان يقول عن تلك الكنيسة مشدّداً على كلامه، بسبب النعمة الكبرى التي حصل عليها هناك وحسبما أوحي إليه: إنّ العذراء الطوباوية تفضّل هذه الكنيسة على سائر كنائس العالم المحبوبة لديها. لهذه الأسباب أحاط البورسيونكولا طيلة أيام حياته بالاحترام الفائق والتقوى السامية.ولكي يبقى حبها محفوراً دائماً في قلب الإخوة كتب، عند اقتراب موته، يوصيهم بأن يحيطوها بالعواطف المماثلة. وقبل موته وبحضور الرئيس العام وباقي الإخوة، صرح قائلاً: أريد أخذ التدابير بشأن مقر القديسة مريم البورسيونكولا، تاركاً لإخوتي هذه الوصية وهي أن يحيطوا دائماً هذا المكان بأسمى الاحترام والتقوى. هذا ما فعله إخوتنا في الأيام الأولى. إنّ هذا المكان مقدس، وهم حافظوا على قدسيته بصلاة لا تنقطع ليلاً نهاراً وبصمت متواصل. وإن صدف أن تكلّم الإخوة بعد الفترة المحددة للصمت، فإنّ حديثهم كان يدور بتقوى وسمو حول ما يؤول إلى مجد الله وخلاص النفوس. وإن صدف - وقلما جرى مثل ذلك - أن بدأ أحدهم بالتلفظ بكلام بطّال أو غير مناسب فإنّ الآخرين كانوا يسارعون إلى تنبيهه. كانوا يقمعون أجسادهم ليس فقط بالصوم بل بالسهر الطويل، محتملين البرد والعري وعاملين بأيديهم. وكم من مرة، لئلا يبقوا بطّالين، ذهبوا لمساعدة الناس الفقراء في الحقول، والناس أحياناً يعطونهم خبزاً محبة بالله. بمثل تلك الفضائل كانوا يتقدسون ويقدسون مقر البورسيونكولا. والإخوة الآخرون الذين أتوا فيما بعد تصرفوا مثلهم مدة طويلة وإن لم يبلغوا إلى تقشف مماثل.لكنه فيما بعد، ارتفع أكثر من اللازم عدد الإخوة والأشخاص الذين كانوا يقصدون ذلك المكان خاصة لأنّ كل إخوة الرهبانية كانوا ملتزمين بأن يجتمعوا هناك وكذلك اؤلئك العازمون على دخول الرهبانية.من جهة ثانية، فإنّ الإخوة اليوم صاروا أقل حرارة في الصلاة وفي سائر الأعمال الصالحة وأكثر ميلاً إلى الأحاديث الباطلة والتافهة وأشدّ اغرافاً نحو الثرثرة حول الشوؤن العالمية. لهذه الاسباب لم يعد ذلك المكان يعامل من قبل الإخوة المقيمين فيه ومن قبل باقي الرهبان بالكرامة والتقوى المناسبة والعزيزة على قلبي.
10- لذلك إني أريد أن تكون القديسة مريم البورسيونكولا دائماً تحت إدارة الرئيس العام مباشرة، ليتدبر الأمر بعناية أكبر وبسهر خاصة بأن يعين هناك جمهوراً ديرياً من الرهبان الصالحين القديسين. عليه أن يختار الإكليريكين من بين من هم أكثر فضيلة ومثالاً صالحاً ومن أفضل الذين يتقنون تلاوة الفرض، بشكل يجعل الناس بل الإخوة أيضاً يصغون إلى الفرض بفرح وبتقوى حارة. ليكن معهم معاونون من الإخوة غير الاكليريكين مختارين من بين من هم أكثر قداسة واتزاناً وفضيلة.كذلك أريد ألاّ يدخل أحد من الإخوة أياً كان، إلى ذلك المكان ما عدا الرئيس العام والإخوة الذين بخدمتهم. لا يتكلمنّ الإخوة المقيمون هناك مع أحد إلاّ مع الإخوة المكلفين بمساعدتهم ومع الرئيس العام لمّا يأتي لزيارتهم.وأريد أيضاً من الإخوة غير الاكليريكين ألاّ ينقلو إليهم الأحاديث والأخبار العالمية التي لا يُجنى منها أي خير للنفس. لهذا السبب أيضاً أريد أن لا يدخل أحد ذلك المكان كي يحافظ الإخوة بسهولة أكبر على نقاوتهم وقداستهم وألاّ تلفظ في ذلك المكان كلمات بطّالة ومضرّة بالنفس بل أن يحفظ ذلك المكان كله بالنقاوة والقداسة وتنتشر منه فرحة الأناشيد وتسابيح الرب. وعندما ينتقل أحد الإخوة من هذه الحياة، فليستقدم الرئيس العام أخاً آخر قديساً لينوب عن الأخ المتوفي، وليأخذه أينما وجده. سبب ذلك هو أنه إن انحرف الإخوة والأديار الذين يقيمون فيها عن النقاوة الضرورية والحياة المثالية، فأنا أريد أن تبقى القديسة مريم البورسيونكولا مرآة وخير الرهبنة بكاملها ومثل بشمعدان قدام عرش الله والعذراء الطوباوية. بفضل ذلك، سيرأف الرب بنقائص وخطايا الإخوة ويحفظ دائماً ويحمي رهبانيتنا فهي غرسته الصغيرة.
بلدية أسيزي تبني للإخوة بيتاً
11- الحادث التالي جرى زمن انعقاد أحد المجامع الرهبانية وقد تقرر عقده تلك السنة قرب القديسة مريم البورسيونكولا. لاحظ شعب أسيزي أنّ الإخوة بنعمة الله ازدادوا عدداً وأخذوا يتكاثرون يوماً بعد يوم وهم يعرفون أنّ الإخوة إذا ما اجتمعوا كلهم خاصة بمناسبة المجمع العام لن يجدوا هناك إلاّ بيتاً صغيراً حقيراً ضيقاً، سطحه مغطى بالقش وجدرانه من خشب وطين، وهو تلك الصومعة التي أعدها الإخوة لهم لما أتوا واستقروا في ذلك المكان.في تلك المناسبة، عقد أهل أسيزي جلسة للتشاور بينهم وبنوا هناك بعد أيام قليلة، بسرعة كبرى وبتقوى حماسية، بيتاً كبيراً من حجر وكلس إنّما دون موافقة فرنسيس الغائب آنذاك. وعند عودته من أحد الاقاليم ليشارك في المجمع، وقف مصعوقاً عند رؤيته ذلك البيت، وفكر أنه بحجة مثل ذلك البناء، سيبني الإخوة بيوتاً مشابهة في أماكن تواجدهم الحالية أو في الأمكنة حيث سيقيمون في المستقبل.ولما كانت إرادته أن تظل البورسيونكولا دائماً نموذجاً ومثالاً للرهبانية كلها فإنّه في أحد الأيام وقبل انتهاء المجمع، صعد إلى سطح ذلك البيت وأمر الإخوة بأن يلحقوا به، ثم بدأ معهم بنزع ألواح القرميد وفي نيته هدم ذلك البيت.وكان هناك بعض الفرسان وغيرهم من سكان أسيزي وقد أوفدتهم سلطات المدينة للقيام بحفظ الأمن وحماية ذلك المكان من العلمانيين والغرباء الذين توافدوا من كل صوب ووقفوا خارجاً ليتفرجوا على اجتماع الإخوة ولما علموا أنّ فرنسيس والإخوة الآخرين عازمون على هدم ذلك البناء، تقدموا للحال وقالوا لفرنسيس: أيها الأخ، إنّ هذا البيت ملك لبلدية أسيزي ونحن هنا نمثل سلطات المدينة. لذلك نأمرك بألاّ تهدم بيتنا.أجابهم فرنسيس: حسناً، إذا كان البيت ملككم، فلا أريد هدمه. ونزل للحال عن السطح وتبعه الإخوة الذين صعدوا معه.لهذا السبب، قرر شعب أسيزي وظلوا متمسكين مدة طويلة بقرارهم وهو أن يلزم حاكمها كل سنة بأعمال صيانة ذلك البيت وبالاصلاحات الطارئة.
الرئيس العام يبني بيتاً للإخوة
12- في مناسبة أخرى، أراد الرئيس العام أن يبني في البورسيونكولا بيتاً صغيراً لإخوة ذلك المكان ليتمكنوا من الاستراحة فيه وتلاوة ساعات الفرض. فإنّه في تلك الآونة كان الإخوة كلهم وكل الجدد الراغبين الالتحاق بالرهبانية يتوجهون إلى هناك مما جعل الإخوة المقيمين في ذلك الدير يعانون من انزعاج كبير شبه يومي.وبسبب الأعداد المتوافدة إلى هناك، لم يكن لهم مكان يستريحون فيه ويتلون ساعات الفرض إذ كان عليهم ترك المكان للضيوف. نتج عن ذلك الكثير من الازعاج المتواصل حيث أنّهم بعد يوم عمل مُضنٍ، كان من ضروب المستحيل أن يؤمِّن لهم ما هو ضروري للجسد وللحياة الروحية.كان بناء البيت يقارب الانتهاء لما رجع فرنسيس إلى البورسيونكولا. سمع عند الصباح من غرفته حيث أمضى ليلته ضجة الإخوة المكبين على العمل فأخذه العجب وسأل رفيقه: ما هذه الضجة؟ ماذا يعمل أولئك الإخوة؟? أطلعه رفيقه على تفاصيل الموضوع كله.للحال، استدعى فرنسيس الرئيس العام وقال له: يا أخي، هذا المكان نموذج ومثال الرهبانية كلها. لهذا السبب، أريد من إخوة البورسيونكولا أن يتحملوا حباً بالرب الإله الازعاج والحرمان ولا ينعموا بالطمأنينة والتعزيات كي يحمل الإخوة الذين يأتون إلى هنا من كل صوب المثل الصالح بخصوص الفقر عند عودتهم إلى أماكنهم. وإلاّ، فإنّ الآخرين سيندفعون للبناء في أماكنهم متذرعين بأنّه ?في القديسة مريم البورسيونكولا التي هي ديرنا الأوّل شيدت مثل تلك المساكن. فيمكننا نحن أيضاً أن نبني مثلها إذ أنه ليس لدينا نحن أيضاً المسكن المناسب.
لا وجود لصومعة باسمي
13- كان يقيم في إحدى المحابس أخ صاحب روحانية عميقة ربطته بفرنسيس صداقة حميمة. فكّر ذلك الأخ أنه إذا قدم القديس إلى محبسته لن يجد المكان المناسب للاختلاء للصلاة، فأعدّ في زاوية منعزلة لا تبعد كثيراً عن مكان إقامة الإخوة غرفة صغيرة يقدر القديس أن يصلي فيها على ذوقه إذا ما قدم إلى هناك.وحدث أنه بعد أيام قليلة وصل فرنسيس فاقتاده الأخ ليريه الغرفة فقال له القديس: في نظري، إنها جميلة جداً. فإذا أردت أن أمكث فيها بضعة أيام، غطِّها من الداخل والخارج بحجارة غليظة وبأغصان الشجر. بالواقع، فإنّ الغرفة لم تكن مبنية بالحجارة المنحوتة بل بالخشب. لكن الألواح كانت صقلت بالمنشار والقدوم لذلك بدت لفرنسيس جميلة رائعة.فبادر ذلك الأخ إلى إعدادها حسب رغبة القديس. فبقدر ما كانت غرف الإخوة ومساكنهم حقيرة ومطابقة للتقشف الرهباني، بقدر ذلك كان فرنسيس يتلذذ برؤيتها ويقبل بطيبة خاطر الاستضافة فيها.أقام في تلك الغرفة بضعة أيام يصلي. وحدث أنه خرج منها مرة ووقف بالقرب من مسكن الإخوة. فأقبل أحد إخوة ذلك الدير نحو فرنسيس، فسأله القديس: من أين أتيت أيها الأخ؟ أجاب: أتيت من غرفتك. انتفض فرنسيس: بما أنّك قلت أنّها غرفتي، فمن الآن وصاعداً سيسكنها غيري، لا أنا.ونحن الذين عشنا معه، كثيراً ما سمعناه يردد كلمة الإنجيل هذه: ?للثعالب أوكار ولطيور السماء عش، أمّا ابن الإنسان فليس له موضع يلقي عليه رأسه.وكان يضيف: إن الرب، لما انعزل في البرية ليصلي ويصوم أربعين يوماً وأربعين ليلة، لم يعد له غرفة أو بيتاً، بل استراح على صخور الجبل.وهكذا، اقتداءً بالرب، لم يرضَ أن يكون له في هذا العالم لا بيت ولا غرفة بل حرّم أن تبنى له واحدة. أكثر من ذلك، إذ صدرت منه سهواً مثل هذه التوصية: رتّبوا لي هكذا هذه الغرفة?. لم يعد يقبل فيما بعد الإقامة فيها عملاً بكلمة الإنجيل: لا تهتموا.عند دنو أجله، أراد أن يكتب في وصيته أن تكون كل غرف الإخوة وبيوتهم مبنية بالطين والخشب، من أجل ممارسة أفضل للفقر والتواضع.
تعليمات حول مسكن الإخوة
14- في مناسبة أخرى، كان فرنسيس في مدينة سيانّا لمعالجة عينيه، فأقام في غرفة تحولت بعد موته إلى مزار، إكراماً له.تقدم السيد بونافنتورا الذي أهدى الإخوة الأرض التي بني عليها الدير، وقال للقديس:ما رأيك بهذا المكان؟ أجابه فرنسيس: أتريد أن أقول لك كيف يجب أن تكون أماكن الإخوة؟? قال بونافنتورا: بطيبة خاطر يا أبتِ.أردف القديس قائلاً: عند وصول الإخوة إلى مدينة لا مسكن لهم فيها، فإذا وجدوا محسناً مستعداً لأنّ يدبّر لهم قطعة أرض كافية لبنى عليها دير مع الحديقة وباقي الأمور الضرورية، عليهم قبل كل شيء أن يحددوا المساحة التي تكفيهم دون أن ينسوا أبداً الفقر المقدس الذي وعدنا حفظه والمثل الصالح المفروض فينا إعطاؤه للقريب في كل الأحوال.تكلم الأب القديس هكذا، لأنّ إرادته كانت أن يتجنب الإخوة التذرع بأية حجة لجرح الفقر سواء في البيوت والكنائس والحدائق أو في أي شيء يستعملونه. لم يكن يرضى أن يقتنوا أي مكان مع سند تمليك بل أن يقيموا فيه دائماً بصفة غرباء مسافرين.لهذه الغاية، كان يريد ألاّ يكون عدد الإخوة كبيراً في أي من أماكنهم لأنّه تأكد له أنّه من الصعب ممارسة الفقر مع مثل ذلك العدد. إرادته من ساعة ارتداده حتى يوم وفاته كانت: ضرورة المحافظة التامة على الفقر المقدس.
15- وتابع القديس: بعد ذلك، فليذهبوا إلى أسقف المدينة ويقولوا له: يا صاحب السيادة، إنّ أحد المحسنين ينوي حباً بالله ولأجل خلاص نفسه أن يهبنا أرضاً كافية لنبني فيها مسكناً. إنّنا نلجأ إليك أولاً لأنك الأب والسيد لنفوس كل القطيع المسلم إليك، وأنت أب وسيد لنا ولباقي الإخوة الذين سيقيمون في ذلك المكان. إنّنا نرغب بناء بيت مع بركة الرب الإله وبركتك?.كان فرنسيس يقول هذا لأنّ ما يريد الإخوة تحقيقه من خير لنفوس الشعب سيكون أكبر إذا عاشوا بوحدة القلب مع الأحبار والإكليروس، فإنّهم سيكسبون لله الشعب والإكليروس معاً، وذلك أفضل مما لو هدوا الشعب وحده وكانوا عثرة للأحبار والإكليروس.وكان يقول: إنّ الله دعانا لننعش الإيمان وأرسلنا لنكون عوناً لأحبار وإكليروس أمّنا الكنيسة المقدسة. فبالتالي نحن ملزمون بأن نحبهم ونكرمهم ونوقّرهم دائماً وبقدر ما هو مستطاع. لهذا السبب، أخذنا اسم الإخوة الأصاغر، لأنّ علينا أن نكون أصغر أهل العالم كافة، بالاسم وبالمثل وبالسلوك.في بدء حياتي الجديدة، لمّا تركت العالم وأبي الأرضي، وضع الرب كلمته على شفاه أسقف أسيزي ليكون لي المرشد الحكيم في خدمة المسيح وليشجّعني. لهذا السبب ونظراً للصفات السامية التي أشاهدها في الأحبار، فإني أريد أن أحبهم وأكرمهم وأعتبرهم أسيادي، ليس الأساقفة وحدهم بل أيضاً أصغر الكهنة.
16- وبعد أن يأخذوا بركة الأسقف، فليذهبوا ويحفروا خندقاً كبيراً يطوّق قطعة الأرض الموهوبة، وليزرعوا سياجاً كثيفاً يصوّنه دلالة للفقر المقدس والتواضع. بعد ذلك فليبنوا لهم بيوتاً فقيرة من طين وخشب مع بعض الغرف المنفردة حيث يقدر الإخوة الاجتماع ليصلّوا ويشتغلوا في جوّ من التقوى بعيداً عن الأحاديث البطالة، وليبنوا أيضاً الكنيسة. إنّما لا يجوز لإخوتنا بناء الكنائس الكبيرة بحجة الوعظ للشعب أو بايّة حجة اخرى. فإنّهم يعطون مثالاً أسمى وتواضعاً أرفع إذا ما ذهبوا للوعظ في كنائس الغير، والتزموا بالفقر المقدس وظلوا متواضعين خاضعين. وإذا حدث أن زارهم أحبار أو كهنة رهبان أو علمانيون، فإنّ البيوت الفقيرة والغرف الصغيرة والكنائس حيث يسكن الإخوة ستكون موعظة للضيوف ومثالاً صالحاً يتّخذونه?.وأضاف: ?كثيراً ما يحدث أنّ الإخوة يشيدون الأبنية الضخمة مخالفين فقرنا المقدس ومسبّبين للقريب المثل السيء والانتقاد.بعد ذلك، بحجة أنهم وجدوا مكاناً أنسب أو أقدس، يتركون المكان الأوّل وما بني عليه. فالذين تبرعوا بالصدقات ومثلهم باقي الناس، عندما يرون ويسمعون ذلك يصدمون ويتشككون.فمن المناسب والأفضل أن يكون للإخوة أمكنة وأبنية فقيرة فإنّهم بذلك يحافظون بأمانة على ميزتهم السامية ويعطون المثل الصالح للقريب بدل أن يعلموا الخير وهم يخالفون نذورهم الرهبانية ويعطون المثل السيء للشعب.أمّا إذا حدث أن اضطر الإخوة مغادرة الأماكن الوضيعة والمساكن الفقيرة للانتقال إلى غيرها تناسبهم أكثر، فإنّ المثل السيء والشك سيكونان أصغر بكثير.
إرادة فرنسيس الأخيرة
17- في تلك الأيام وفي تلك الغرفة ذاتها حيث جرى حديثه مع السيد بونافنتورا، تعرض فرنسيس ذات مساء لتقيىء متواصل بسبب إصابته بمرض في المعدة. ولشدة ما سببه له ذلك التقيىء، حصل له نزيف دموي دام طيلة تلك الليلة حتى الصباح.لما رآه رفاقه قد شارف الموت بسبب ضعفه وأوجاع مرضه، ملأهم القلق وقالوا له وهم يبكون: يا أبانا، ماذا نعمل؟ أعطنا بركتك لنا ولباقي إخوتك جميعاً. واترك لإخوتك تذكاراً لإرادتك، حتى إذا شاء الله أن يستدعيك من هذا العالم نقدر أن نتذكرها دائماً. ونردد: إنّ أبانا وهو على فراش الموت ترك تلك الكلمات لإخوته وأبنائه.قال لهم فرنسيس: نادوا لي الأخ مبارك (Benedetto da Piratro). كان ذلك كاهناً، ورجلاً متزناً وقديساً انخرط في الرهبانية منذ الأيام الأولى وكثيراً ما أقام الذبيحة الإلهية لفرنسيس في تلك الغرفة. فإنّ القديس، ورغم إصابته بالمرض، كان يريد أن يسمع دائماً القداس بخشوع، وبطيبة خاطر كلما تسنى له ذلك.لما وصل مبارك قال له فرنسيس: اكتب إني أبارك كل إخوتي الموجودين حالياً في الرهبانية وكل الذين سيدخلونها حتى منتهى العالم.اعتاد فرنسيس عند نهاية كل المجامع، عندما يكون الإخوة مجتمعين أن يعطي البركة لجميع الحاضرين ولكل الباقين الأعضاء في الرهبانية ويبارك أيضاً كل الذين سينتبون إليها في المستقبل.لم تكن المجامع المناسبة الوحيدة التي اعتاد فرنسيس أن يبارك فيها الإخوة، بل في مناسبات عدّة كان يبارك الذين دخلوا الرهبانية ومثلهم من سيأتون إليها لاحقاً.تابع فرنسيس: بما أني لا أقوى على الكلام بسبب الضعف وألم المرض، فاني أبيّن إرادتي لإخوتي بايجاز في هذه التوصيات الثلاث أتركها لهم ذكرى لبركتي ولإرادتي الأخيرة:ليحب الإخوة بعضهم بعضاً دائماً وليحترم كل منهم الآخر.ليحبوا ويحترموا دائماً الفقر المقدس، سيدنا.ليكونوا دائماً خاضعين بإخلاص للأحبار ولكل اكليريكيّي الأم الكنيسة المقدسة.واعتاد أن يوصي الإخوة بالتخوف من المثل العاطل واجتنابه وكان يلعن كل الذين، بسبب مثلهم السيء الفاسد، يحملون الناس على انتقاد الرهبانية والإخوة حتى الصالحين منهم المملوئين جودة، ويجلبون لهم الخجل والأسى.
تنظيفه للكنائس
18- لما كان فرنسيس ساكناً بالقرب من القديسة مريم البورسيونكولا، وعدد إخوته وقتئذ ضئيل، كان يذهب أحياناً إلى القرى والكنائس المجاورة لأسيزي، يبشّر ويحرض الشعب على التوبة. أثناء تلك الجولات، كان يحمل معه مكنسة لتنظيف الكنائس. كان يتعذب جداً عندما يدخل كنيسة ويراها غير نظيفة. لذا، كان بعد وعظه للشعب، يختلي بكل الكهنة الحاضرين كيلا يسمعه أحد، ويكلمهم عن خلاص النفوس ويوصيهم خاصة ببذل العناية القصوى للمحافظة على نظافة الكنائس والمذابح وكل الأغطية المستخدمة لإقامة الذبيحة الإلهيّة.
قصة الأخ يوحنا البسيط