هو الَّذي يَغفِرُ جَميعَ آثامِكِ و يَشْفي جَميعَ أَمْراضِكِ (مز 103 /3)
الرهبنة عند القديس أنطونيوس الكبير -الأرشمندريت بندلايمون فرح
"الرهبنة عند القديس أنطونيوس الكبير"
الأرشمندريت بندلايمون فرح
حديثنا اليوم عن لمحة من نِعَم الرب هو القديس أنطونيوس الكبير الذي شعّ في برية مصر وعمَّ النور كل المسكونة.
نتحدث أولاً عن النسك الذي يظنه الناس أنه عمل الرهبان فقط لكنه مطلوب من كل إنسان مسيحي ذلك أن كل إنسان يسمع الإنجيل يدعوه الرب بقوله:
"أترك كلّ شيء واتبعني" (لوقا18: 22).
أنت أيها الإنسان، حتى المتزوج، المملوء من أنانيتك، والمشبع بصخبك الداخلي وقابع في نفسك، لا تستطيع أن تكون في أي مرفق من مرافق الحياة من دون أن تلبي الدعوة الاولى التي يطلبها الرب يسوع المسيح،
أن تترك كل شيء وتتبعه. لدى كل واحد منا شيء يتركه وأشياء كثيرة يذللها ويقدمها للمسيح.
كان النسك معيوشاً في البيوت. كل إنسان يصلي ويتعبّد ويتجرّد عن أهوائه. وكانت الكنيسة تتقدّس بفعل الروح القدس وبفضل المجاهدين الذين أتمّوا مسيرتهم في طريق الرب.
لكن في فترات ما بعد الإضطهاد لم يعد يستطيع المجاهدون أن يبقوا في البيوت وبين الناس لأن الاهتمامات الدنيوية والمشاكل اليومية تؤخرهم عن الصلاة.
ذهبوا بعيداً إلى المغاور والغابات والصحارى والجبال والأودية ليعيشوا في هدوء وليس في عزلة، بإتحاد مع الله. تفرّغوا عن كلّ الاهتمامات المادية وهذا تصرفٌ لا يستطيع أن يتصرفه الإنسان المجتمعي.
أرادوا مجاهدين ومجاهدات أن يزيلوا التشويش من حياتهم اليومية في اختلاطهم اليومي مع الناس، وأن يتنسّكوا في البراري ملبّين حاجة الحب الموجودة في قلوبهم نحو الله.
ويعلّمنا القديس أنطونيوس وأباء كثيرون أنّ حاجة الحب هذه هي نعمة من الله لا نكتسبها من أنفسنا. نحن نطلبها، نجاهد من أجلها لكن الله يعطينا إياها ويسكبها في قلوبنا.
ولهذه النعمة اتجاهان:
الاتجاه الأول نحونا وبه نستفيد من نعمة الله شخصياً.
والاتجاه الثاني ينعكس فينا إلى الآخرين. نحن نعكس محبة الله إلى الذين يريد الله أن يعبر إليهم ليس فقط مباشرة بل عبرنا.
بحسب ما نرى في حياة القديس أنطونيوس وغيره من المجاهدين أن هؤلاء الرهبان لا يعيشون في عزلة على رغم أنهم متوحدون في البراري والجبال.
هناك شخص مثلاً يعيش في مبنى ضخم ووسط ملايين الناس وفي الوقت نفسه يعيش في عزلة لأن لا إنفتاح لديه نحو الآخرين. ويمكن أن يكون الإنسان في أقصى البراري لكن قلبه مشبع بالمحبة الإلهية فيعكس هذه المحبة نحو الآخرين.
كان القديس أنطونيوس هذا القلب المشبع بمحبة الله إلى درجة انشغل فيه عن كل شيء في العالم.
كثيرون يسمعون الآية الإنجيلية "أترك كل شيء واتبعني" ولا يتفاعلون معها. لأن قلبه كان شفافاً جداً ونفسيته طاهرة، عندما سمع النداء اعتبره نداء شخصياً له كي يتوجه نحو الله فاستجاب له.
لم تكن الدعوة أن ينعزل عن الناس بل أن يبتعد عنهم للتدريب على كيف يصير عميقاً وكيف يقتني محبة الله.
في انسحاب القديس أنطونيوس إلى البرية ومناجاته الرب كان يتمّم ما جاء في نشيد الأناشيد "أجذبني فنجري وراءك" (نشيد 4:1). في هذا النشيد نسمع للمرة الأولى فعل في المفرد "اجذبني" يصير في الجمع "فنجري وراءك"،
ونفهمه من خلال حياة القديس أنطونيوس. ذلك أنه بانجذابه إلى الله جذب الآخرين معه أيضاً. وكما يقول بعض المؤرخين أن المدن انتقلت إلى الصحارى للاستماع إلى القديس أنطونيوس.
الأمر الذي اضطره أن يترك أكثر من مرة موقعه ومغارته ويبتعد مجدداً وينعزل عن الناس أكثر فأكثر ليخلو إلى الله أكثر فأكثر. وفي خلوته، لم يكن منعزلاً بل صار هناك مجتمع من نوع معين.
يتجانس فيه أفراده من النساك ويشكّلون جواً من الحياة المشتركة والأخوة.
هذا الجو هو جو الكنيسة الحقيقي. لا تستطيع أن تكون في الكنيسة بمفردك. في صلواتنا في الكنيسة نحاول قدر الإمكان أن نرتّل مع المرتلين ونقرأ مع القارئين ونتابع الكلمات التي تُقال كي نكون واحداً.
في الكنيسة نكون كلنا مع بعضنا بعضاً نتابع النص نفسه والتوجه نفسه والشوق نفسه الى الله.
لا يمكن أن يكون أحدهم يقرأ في المزامير، وآخر يؤدي شيئاً آخر. بل يكون الكل في إنسجام واحد كتعبير عن حياة واحدة مشتركة.
نحن اليوم في أمس الحاجة الى هذه الحياة المشتركة ولا نقدر ان نحققها إلا إذا رأينا أمثلة حية وكثيرة أمامنا. عندما نزور الدير، مهما تكن حياة الدير بسيطة وغير نشيطة، تؤثّر فينا لأننا نحن في حياتنا الاجتماعية دون مستواه في الشركة.
نهتمّ كثيراً بالعمل. نهتمّ كثيراً بتربية الأولاد. نهتمّ كثيراً بالأزياء. نهتمّ كثيراً بالصراعات الاجتماعية ولكن قلّما نصلّي.
نعتقد أننا إذا قلنا "أبانا الذي في السموات...." نربّح ربنا "جْمِيلة" وكأن هذه الصلاة من أجله وليست من أجلنا كي نتقدس.
نحن في حاجة إلى حياة رهبانية بمفهوم الشركة فنعرفها ونعيشها في بيوتنا. إذا كان كلّ فرد في العائلة يسير بمفرده: لكلّ واحد ماله، لكلّ واحد أفكاره، لكلّ واحد مشاريعه، فكيف نكون واحداً؟
إن الحياة الرهبانية تفتح أعيننا أكثر فأكثر على حقيقة أحوالنا، نحن الذين لا نعمل ما يجب علينا عمله من الحياة المشتركة في حياتنا.
في الحياة المشتركة بين الرهبان بساطة وبراءة. وإذا لم يكن في قلب الإنسان بساطة وبراءة لا يستطيع أن يتشارك مع الآخرين.
ما الذي يجمع بين إنسان يفهم وآخر بسيط غير المحبة وبساطة القلب التي تجعلهما أخوة؟ ما الذي يجمع بين إنسان نشأ في القصور وتعلّم في أرقى الجامعات وبين يديه أموال، ومعارفه من كبار السادة في البلد مع أصغر موظف في البلد؟
كيف يصبح أحدهم راهباً مع آخر يعيش في البرية لم يرَ انساناً متمدناً من قبل ولا يعرف شيئاً عن اللياقة الإجتماعية، إذا لم تكن لديه البساطة والتواضع والمحبة.
يجمع الدير كلّ هؤلاء الأشخاص بالمحبة. يرتفع الوضيع وينخفض الكبير ويتساوى الكلّ كما قال يوحنا المعمدان "كل وادٍ يردم وكل أكمة تنخفض" (لوقا 5:3). ليست البشارة وعظاً وكلمات، إنها العيش بالمثل الحي والخدمة التي نقدمها للآخرين.
إنطلقت شرارة الحياة الرهبانية من القديس أنطونيوس لأنه التمع بشكل واضح جداً. اليوم كنا نعيّد للقديس بولس الأكتيني الذي كان في صحراء مصر في الزمن نفسه الذي كان فيه القديس أنطونيوس.
هكذا نرى أن القديس أنطونيوس لم يكن وحده، لكن نجمه لمع أكثر من الآخرين. وهو منشىء الرهبنة لأنه قدّم فعلاً وأعطى نوعية جديدة.
ولم يكتفِ بالعزلة والانصراف إلى البراري لكن جعل الرهبان تلاميذه في سكن مشترك وحياة مشتركة في دير واحد. ولا يزال ديره عامراً إلى الآن.
هذا اللمعان البهي انسكب على القديس أنطونيوس فأعطى تفاعلاً في كل الأقطار المجاورة.
وهكذا انتقلت الشهادة الرهبانية من مصر إلى بلدان أخرى كثيرة كفلسطين وسوريا ولبنان والقسطنطينية. وفيما بعد إلى اليونان وسائر أوروبا.
وفي العصور المسيحية الأولى، وحسب ما يخبرنا الرحالة والمؤرخون، يبدو وكأن صار هناك رحلات حج إلى القديس أنطونيوس من ناس تواقين إلى الحياة الإلهية مثل القديس جيروم وغيره من القديسين الذين عاشوا في بلاد أوروبا.
هؤلاء كانوا دائمي التجوال ويتبادلون الخبرات من بعضهم البعض. ولم تكن سياحتهم من أجل الآثار ودراستها بل أن ينظروا معالم حية وأعمدة روحية كبيرة مثل القديس أنطونيوس وغيره من النساك الكبار. ونقل هؤلاء الآباء خبراتهم الروحية من الشرق.
لأنه يبدو أن تركيبة الناس في الشرق كانت في ذلك الحين أبسط مما كانت عليه في أوروبا. لكنهم اليوم سبقونا لأنهم اكتشفوا بالعلم أن على الإنسان أن يزداد تواضعاً مهما كانت معرفته.
فالعلم واسع جداً والعلم يساعد على التفتح العقلي ويجعل الإنسان أكثر يقظة. وهذا يجعل الراهب أن يجتهد أكثر. لا مجال للكسل لديه، بل يجتهد ويدرس أكان ذلك بشكل علمي دقيق في الجامعة أو المدرسة أو في مطالعته الخاصة وهو في الدير وتنقيبه في كل الكتب التي تصل إليها يده.
هذا التنقيب جعلته بعض الأديرة منهجاً في برنامج الراهب اليومي وهذا جيد لأن الإنسان عندما يؤدي أشياء جيدة يتمم فضيلة كبيرة لأنه يبتعد عن الأشياء الشريرة، عن الأنانية والكسل والضجر وتصبح حياته بناءة وفاعلة في الآخرين.
وزع القديس أنطونيوس أمواله وأعطاها للمساكين لأنه أراد أن يتخلّى عن كل صلة بذاته بأنانيته في العالم. هذه نقطة مهمة جداً.
الاتجاه الأول نحونا وبه نستفيد من نعمة الله شخصياً.
والاتجاه الثاني ينعكس فينا إلى الآخرين. نحن نعكس محبة الله إلى الذين يريد الله أن يعبر إليهم ليس فقط مباشرة بل عبرنا.
بحسب ما نرى في حياة القديس أنطونيوس وغيره من المجاهدين أن هؤلاء الرهبان لا يعيشون في عزلة على رغم أنهم متوحدون في البراري والجبال.
هناك شخص مثلاً يعيش في مبنى ضخم ووسط ملايين الناس وفي الوقت نفسه يعيش في عزلة لأن لا إنفتاح لديه نحو الآخرين. ويمكن أن يكون الإنسان في أقصى البراري لكن قلبه مشبع بالمحبة الإلهية فيعكس هذه المحبة نحو الآخرين.
كان القديس أنطونيوس هذا القلب المشبع بمحبة الله إلى درجة انشغل فيه عن كل شيء في العالم.
كثيرون يسمعون الآية الإنجيلية "أترك كل شيء واتبعني" ولا يتفاعلون معها. لأن قلبه كان شفافاً جداً ونفسيته طاهرة، عندما سمع النداء اعتبره نداء شخصياً له كي يتوجه نحو الله فاستجاب له.
لم تكن الدعوة أن ينعزل عن الناس بل أن يبتعد عنهم للتدريب على كيف يصير عميقاً وكيف يقتني محبة الله.
في انسحاب القديس أنطونيوس إلى البرية ومناجاته الرب كان يتمّم ما جاء في نشيد الأناشيد "أجذبني فنجري وراءك" (نشيد 4:1). في هذا النشيد نسمع للمرة الأولى فعل في المفرد "اجذبني" يصير في الجمع "فنجري وراءك"،
ونفهمه من خلال حياة القديس أنطونيوس. ذلك أنه بانجذابه إلى الله جذب الآخرين معه أيضاً. وكما يقول بعض المؤرخين أن المدن انتقلت إلى الصحارى للاستماع إلى القديس أنطونيوس.
الأمر الذي اضطره أن يترك أكثر من مرة موقعه ومغارته ويبتعد مجدداً وينعزل عن الناس أكثر فأكثر ليخلو إلى الله أكثر فأكثر. وفي خلوته، لم يكن منعزلاً بل صار هناك مجتمع من نوع معين.
يتجانس فيه أفراده من النساك ويشكّلون جواً من الحياة المشتركة والأخوة.
هذا الجو هو جو الكنيسة الحقيقي. لا تستطيع أن تكون في الكنيسة بمفردك. في صلواتنا في الكنيسة نحاول قدر الإمكان أن نرتّل مع المرتلين ونقرأ مع القارئين ونتابع الكلمات التي تُقال كي نكون واحداً.
في الكنيسة نكون كلنا مع بعضنا بعضاً نتابع النص نفسه والتوجه نفسه والشوق نفسه الى الله.
لا يمكن أن يكون أحدهم يقرأ في المزامير، وآخر يؤدي شيئاً آخر. بل يكون الكل في إنسجام واحد كتعبير عن حياة واحدة مشتركة.
نحن اليوم في أمس الحاجة الى هذه الحياة المشتركة ولا نقدر ان نحققها إلا إذا رأينا أمثلة حية وكثيرة أمامنا. عندما نزور الدير، مهما تكن حياة الدير بسيطة وغير نشيطة، تؤثّر فينا لأننا نحن في حياتنا الاجتماعية دون مستواه في الشركة.
نهتمّ كثيراً بالعمل. نهتمّ كثيراً بتربية الأولاد. نهتمّ كثيراً بالأزياء. نهتمّ كثيراً بالصراعات الاجتماعية ولكن قلّما نصلّي.
نعتقد أننا إذا قلنا "أبانا الذي في السموات...." نربّح ربنا "جْمِيلة" وكأن هذه الصلاة من أجله وليست من أجلنا كي نتقدس.
نحن في حاجة إلى حياة رهبانية بمفهوم الشركة فنعرفها ونعيشها في بيوتنا. إذا كان كلّ فرد في العائلة يسير بمفرده: لكلّ واحد ماله، لكلّ واحد أفكاره، لكلّ واحد مشاريعه، فكيف نكون واحداً؟
إن الحياة الرهبانية تفتح أعيننا أكثر فأكثر على حقيقة أحوالنا، نحن الذين لا نعمل ما يجب علينا عمله من الحياة المشتركة في حياتنا.
في الحياة المشتركة بين الرهبان بساطة وبراءة. وإذا لم يكن في قلب الإنسان بساطة وبراءة لا يستطيع أن يتشارك مع الآخرين.
ما الذي يجمع بين إنسان يفهم وآخر بسيط غير المحبة وبساطة القلب التي تجعلهما أخوة؟ ما الذي يجمع بين إنسان نشأ في القصور وتعلّم في أرقى الجامعات وبين يديه أموال، ومعارفه من كبار السادة في البلد مع أصغر موظف في البلد؟
كيف يصبح أحدهم راهباً مع آخر يعيش في البرية لم يرَ انساناً متمدناً من قبل ولا يعرف شيئاً عن اللياقة الإجتماعية، إذا لم تكن لديه البساطة والتواضع والمحبة.
يجمع الدير كلّ هؤلاء الأشخاص بالمحبة. يرتفع الوضيع وينخفض الكبير ويتساوى الكلّ كما قال يوحنا المعمدان "كل وادٍ يردم وكل أكمة تنخفض" (لوقا 5:3). ليست البشارة وعظاً وكلمات، إنها العيش بالمثل الحي والخدمة التي نقدمها للآخرين.
إنطلقت شرارة الحياة الرهبانية من القديس أنطونيوس لأنه التمع بشكل واضح جداً. اليوم كنا نعيّد للقديس بولس الأكتيني الذي كان في صحراء مصر في الزمن نفسه الذي كان فيه القديس أنطونيوس.
هكذا نرى أن القديس أنطونيوس لم يكن وحده، لكن نجمه لمع أكثر من الآخرين. وهو منشىء الرهبنة لأنه قدّم فعلاً وأعطى نوعية جديدة.
ولم يكتفِ بالعزلة والانصراف إلى البراري لكن جعل الرهبان تلاميذه في سكن مشترك وحياة مشتركة في دير واحد. ولا يزال ديره عامراً إلى الآن.
هذا اللمعان البهي انسكب على القديس أنطونيوس فأعطى تفاعلاً في كل الأقطار المجاورة.
وهكذا انتقلت الشهادة الرهبانية من مصر إلى بلدان أخرى كثيرة كفلسطين وسوريا ولبنان والقسطنطينية. وفيما بعد إلى اليونان وسائر أوروبا.
وفي العصور المسيحية الأولى، وحسب ما يخبرنا الرحالة والمؤرخون، يبدو وكأن صار هناك رحلات حج إلى القديس أنطونيوس من ناس تواقين إلى الحياة الإلهية مثل القديس جيروم وغيره من القديسين الذين عاشوا في بلاد أوروبا.
هؤلاء كانوا دائمي التجوال ويتبادلون الخبرات من بعضهم البعض. ولم تكن سياحتهم من أجل الآثار ودراستها بل أن ينظروا معالم حية وأعمدة روحية كبيرة مثل القديس أنطونيوس وغيره من النساك الكبار. ونقل هؤلاء الآباء خبراتهم الروحية من الشرق.
لأنه يبدو أن تركيبة الناس في الشرق كانت في ذلك الحين أبسط مما كانت عليه في أوروبا. لكنهم اليوم سبقونا لأنهم اكتشفوا بالعلم أن على الإنسان أن يزداد تواضعاً مهما كانت معرفته.
فالعلم واسع جداً والعلم يساعد على التفتح العقلي ويجعل الإنسان أكثر يقظة. وهذا يجعل الراهب أن يجتهد أكثر. لا مجال للكسل لديه، بل يجتهد ويدرس أكان ذلك بشكل علمي دقيق في الجامعة أو المدرسة أو في مطالعته الخاصة وهو في الدير وتنقيبه في كل الكتب التي تصل إليها يده.
هذا التنقيب جعلته بعض الأديرة منهجاً في برنامج الراهب اليومي وهذا جيد لأن الإنسان عندما يؤدي أشياء جيدة يتمم فضيلة كبيرة لأنه يبتعد عن الأشياء الشريرة، عن الأنانية والكسل والضجر وتصبح حياته بناءة وفاعلة في الآخرين.
وزع القديس أنطونيوس أمواله وأعطاها للمساكين لأنه أراد أن يتخلّى عن كل صلة بذاته بأنانيته في العالم. هذه نقطة مهمة جداً.
إن الإنسان الذي يعطي هو الإنسان الروحي لا الذي يرفع يديه ويصلي فقط. أعرف أناساً كثيرين يأتون إلى الدير ويصلون كثيراً ويستهلكون بخوراً وشمعاً بقدر كبير ولكن لا تخرج من جيبتهم ربع ليرة.
الله الذي يفتش في القلوب ويفحصها وليس أنا. والإنسان الذي يأخذ ولا يعطي يقول له بولس الرسول: "مغبوط العطاء أكثر من الأخذ" (أعمال: 35:20).
لذلك عندما تعطي يحصل أخذ أيضاً. هكذا يتمّ التجاذب في حياتك. أنت تعطي والرب يفيض ويعطيك ويزيدك من عطاياه وبركاته.
لم يتعلم الناس من القديس أنطونيوس إلا الشكل الخارجي. يفرحون بما يخبرون عنه. يعرفون تاريخه. ينظرون الى أيقوناته ويتبرّكون بها لكنهم يخافون أن يفعلوا مثله.
يخافون أن يعطوا. وأنا هنا أتكلم أيضاً عن العطاء المادي لأن الإنسان إذا لم يعطِ من جيبه لن يتوصل في وقت من الأوقات إلى أن يعطي نفسه.
إذا كانت العطاءات التي يقدر أن يتصرف بها، يكثرها ويقللها، ولا يفعل شيئاً، يعني أنه مملوء من ذاته، لا يستطيع أن يعطي ذاته وهذا هو الهدف لا إكثار المال في صندوق الكنيسة.
عندما تعطون ذاتكم هذا يعني أنكم تلبّون نداء الرب عندما يقول: "أترك كل شيء واتبعني" (لوقا 22:18).
إذا جاء ابنك وقال لك أريد أن أصبح راهباً، أو ابنتك وقالت لك أريد أن أصبح راهبة، كأنها مصيبة وقعت في البيوت.
يقولون أن الشخص الذي سيتوجّه إلى الرهبنة ينقطع عن العالم وعن ملذاته وحالته يرثى لها. لكننا نحن الرهبان ننقطع عن الملذات الأرضية ونكتفي بنعمة الرب، وبصلواتكم نعم كثيرة لا تزول
وهي ليست وقتية بل مضاعفة وأبدية نستغني عن واحدة لنربح الأخرى. نستثمر الذخيرة التي أعطانا إياها الرب فتزداد وتقوى، وهذه تجارة رابحة، والقديس أنطونيوس لم يكتفِ بالصلاة والابتعاد عن صخب الناس،
بل احتاجته الكنيسة في أيام الشدة والاضطهادات والاضطرابات الفكرية واللاهوتية. نزل إلى الناس وكان أول المجاهدين في الكنيسة.
ذهب إلى الإسكندرية وشدد كثيرين وأبعدهم عن البدع المتطرفة التي تشرذم الكنيسة. الراهب إنسان يرمي نفسه بين ايدي الله.
يفرغ أولاً ذاته ويتدرب في الدير كيف يترك كل شيء ويلتحق بالمسيح، ويلمّعه المسيح بنوره ويعطيه أفضل العطايا المفيدة لحياة الكنيسة.
نلاحظ آباء كثيرين وراهبات أمهات قديسات يتميزون بالوعظ أو بالمتابعة أو بالخدمة. ومنهم من تميز بالإحسان أو بضيافة الغرباء، أعطي كل إنسان موهبة حسب زمانه وحسب عقله.
كثيرون أعطوا نعمة كي يصنعوا معجزات وتجري على أيديهم أشفية. هذه نعمة كبيرة بقدر ما ابتعدوا عن الدنيويات بقدر ما أعطاهم الله مواهب وزادهم بركات.
اليوم، بعد مئات السنين، لا نزال نتذكر القديس أنطونيوس ونتبارك بذكره وندرك منهجه وأعماله التي مجدت الرب. وضع لنا منهجاً لحياة الشركة لأن في التوحّد مخاطر كثيرة.
فالإنسان يمكن أن ينعزل عن الآخرين بسهولة بسبب وضعه الجغرافي. ولكن قد يتكاسل وهذا خطر. ومن أخطر ما يواجهه الراهب المنفرد أيضاً أن يعمل كلّ شيء حسب رأيه. لأن الراهب لا رأي له.
إلتقيت قبل فترة براهبة رئيسة دير يبلغ عمرها 110 أعوام. كانت تشتكي من أن الراهبات بمحبتهنّ لا يسمحنّ لها أن تشتغل.
طبعاً هي لم تعد قادرة أن تعمل شيئاً وبعد إلحاحها طلبوا ان تكتب تاريخ الدير. رأوا أن لديها ميزة حلوة في معرفتها أقوال راهبات مررنَ قبلها.
وهي الآن بصدد كتابة هذا الكتاب وتضع فيه أقوال الأمهات القديسات اللواتي نسكنَ وعلّمنَ الناس بتواضعهن ومحبتهن، مثل كتب الآباء الموجودة عندنا. سألتها عن خبرتها بالحياة الروحية وهي شيخة ذات قامة عريقة في النسك.
قالت أنها لا تعرف كثيراً من الأمور الروحية، وهذا من تواضعها طبعاً، لكنها تعرف أنها كانت مرتاحة جداً عندما كانت مبتدئة لأنها في ذلك الوقت لم تكن تفعل إلا الأمور التي تأمرها بها الرئيسة.
فكانت إبنة الطاعة وكانت تعيش في الجنة أما اليوم فتقول انها تعيش في جهنم.
فسألتها: لماذا؟ أجابت: لأنه لا يكفي أن يكون عليّ أن آمر الكل، بل أنا لا أحد يأمرني لأنني الرئيسة. يعاملني الجميع على هذا الأساس.
قالت هذا الكلام لتواضعها وحكمتها. فالنور الإلهي في عقلها، لذلك هي منتبهة إلى عدم انعزالها.
هذه أمور ينتبه لها الرهبان لأنهم يعيشونها ويواجهونها في الدير كل يوم.
إذا كان لدى الرئيس محبة يعمل كل شيء يريده الرهبان وهم يطيعونه، وعليه أن يعرف حدوده لأنه إنسان وهم بشر أيضاً ولا يتسلّط عليهم إذا كانوا يطيعونه.
وكي تكون هذه الأمور مرعية وضع القديس أنطونيوس شيئاً من القوانين والضوابط التي بلورها فيما بعد أكثر فأكثر القديس باسيليوس الكبير برهبنته وجعل لها شروطاً.
وهذه الشروط ليست قوانيناً لتقييدنا بل لقيادتنا ورعايتنا أكثر فأكثر بحسب حكمة الآباء.
وجعل للراهب عملاً إلى جانب التأمل الروحي. وهكذا: ساعة يدرس وساعة يصلي وساعة يشتغل وساعة يستقبل ضيوفاً يعطيهم من محبته التي سكبها الرب يسوع في قلبه. فالدير ليس مضافة ومنطقة سياحية.
يمكن أن يكون الإنسان مضيافاً جداً في بيته ويحب الناس لكن لن يكون لديه وقت لتربية أولاده أو ترتيب بيته فيكون ضياع.
مشاكل كثيرة تحصل داخل العائلات ويختلف الرجل وزوجته مع بعضهما البعض بسبب عدم اتفاقهما على منهج واحد في البيت.
هذه نقطة مهمة لأنه إذا لم يكن للإنسان عمل أساسي، يتجه إلى أشغال عدّة تزيد في ضياعه.
لذلك لا يتحول الدير والحياة الرهبانية الى مضافة مجردة ومنطقة سياحية إذا كان لكل شخص فيه عمل منظم. هكذا يقسم الوقت ولا يكون ضجر ولا مصيدة للشرير ولا تكبر لأن الراهب يعرف آنذاك أن هناك أشياء كثيرة يعملها وأشياء يتعلمها ويحتاج إليها.
نبّهنا القديس أنطونيوس إلى أمورٍ كثيرة في رسائله وبعض كتاباته وتوجيهاته الموجودة في سيرة حياته للقديس أثناسيوس وفي بستان الرهبان وفي كتب آبائية عدة تشير إلى أقوال القديس أنطونيوس.
لا يستطيع الإنسان أن يقول أنه يقدر أن يفعل كل شيء لوحده. وفي الدير يتعلم أشياء كثيرة.
قال القديس يوحنا الذهبي الفم في أحد أحاديثه إلى النساء: "أتركن أزواجكن يذهبون إلى الدير بين وقتٍ وآخر".
إن الرجل عندما يذهب الى الدير مدة أسبوع يعود إلى بيته شخصاً آخر. هناك يرى نظاماً مختلفاً عن حياته. يرجع إلى نفسه ويصلي أكثر لأن لا يوجد لديه وقت في بيته. تهدأ نفسه ويمتلىء من بركات كثيرة.
يعود إلى بيته منوراً وتتشرذم أنانيته وتتهدم. فالمرأة عندما تقاوم رجلها وتتنافر معه في مسألة تكون أحياناً بسيطة، تعود كل يوم إلى المشكلة ذاتها لضعف في النفس.
لكن إذا ذهب الرجل إلى الدير يرى هناك أشخاصاً لديهم طبيعته البشرية إلا أن في عيشهم قناعة وخضوع ودماثة في الأخلاق وبساطة في التصرف.
يتعلم منهم المثل أكثر فأكثر ويفكر "كان مع زوجتي الحق عندما لفتت نظري الى هذا الموضوع" في حين تجعله المشاجرة أكثر عناداً.
قبل فترة اتصلت بي إحدى النساء وكانت صديقتي في المدرسة. قالت لي أنها تشاجرت مع زوجها وضربها لمسألة بسيطة. قالت أنهما في المساء اتفقا أن يساعدها في تنظيف البيت وغيّر رأيه في الصباح.
وقام شجار بينهما أدى إلى عراك وترك البيت. نصحتها ألا يبقى الواحد في عناد تجاه الآخر. وهو يعند لأن أنانيته لا تسمح له أن يتنازل عن مواقفه.
هو دائماً يريد الشيء لنفسه ولا يتراجع عنه ولا يتنازل. على الإنسان أن يسامح قليلاً و "يطرّيها" ويغير أسلوبه مع الآخرين فيستطيع بالوداعة والبساطة أن يكسب الآخر ولا يزعل أحداً.