الويل لكم أيها الكتبة و الفريسيون المراؤون، فإنكم تجوبون البحر و البر لتكسبوا دخيلا واحدا، فإذا أصبح دخيلا، جعلتموه يستوجب جهنم ضعف ما أنتم تستحقون ( مت 23 /15)
التكريس - الأب متى المسكين
الأب متى المسكين
لقد دعاني السيد القدوس أول ما دعاني لا برؤيا ولا بصوت ولا بعلامة ما، ولا أنا طلبت شيئاً من هذا.
ولكني كنت أحمل بين ضلوعي منذ فجر شبابي قلباً حساساً يستطيع أن يميز حركات الروح وينتبه بسرعة لمسارات النعمة وتيارات الأعماق!
ولم أكن معانداً قط، بل كنت أترك قلبي تجرفه تيارات النعمة كيفما شاءت في هوادة وخضوع لذيذ، ولم تكن أهم مشاغل الحياة قادرة أن تصدَّني عن ذلك. فتعرَّفت شيئاً فشيئاً على أغوار المشيئة المقدسة التي يشتاق إليها كثيرون ولا يأخذها إلا الذي يرتمي في تيارها بلا مانع.
وفي خضوعي كنتُ توَّاقاً دائماً أن أدخل إلى الأعماق، ولست أدري أهي أعماقي أم أعماق الروح! ولكن هناك تطلَّعتُ خلسةً إلى منابع الإرادة العليا ووعَيْتُها أحياناً، وأحياناً أخرى ما وعيت منها شيئاً؛ بل كنتُ أرتدُّ سريعاً حينما أنتبه إلى نفسي أو تنتبه إرادتي فيَّ، فأواصل مسيري في عالم الناس كواحد مـن هذه الملايين الذين تغمرهم اهتمامات هذا الدهر.
وصرتُ كما صار الناس جميعاً أشتري من بضاعات العالم الكثيرة، الخسيس منها والشريف، غير مميزٍ بينها كثيراً، وتقلَّبتُ أيضاً على درجات الوضاعة والكرامة وتلوثت منها جميعاً.
ولكن كانت تعاودني من حين لآخر موجة من أحاسيس الروح لا أعرف من أين كانت تأتي، ولا علمت أبداً كيف أو لماذا كانت تذهب؟ غير أني كنت أتلقاها بلهفة شديدة وضيق كثير، وأُلقي بنفسي في أعماقها فأستريح وأنسى هذا العالم ببضاعاته الشريفة والخسيسة، ودرجاته الكريمة والوضيعة.
ولكن كان جذب العالم لي شديداً، فهذا دأْبُه دائماً تجاه الذين يحاولون الارتداد عنه.
وكان جذبه لي يزداد في كل مرة عن سابقتها بقدر ما كانت تزداد تيارات النعمة تدافُعاً في قلبي، أو على الأصح كلما ازددتُ أنا قبولاً وخضوعاً.
وكنت أتعجب ولا زلت أتعجب من الذين يطلبون لتكريسهم رؤيا واضحة، أو صوتاً من السماء، حتى يتأكدوا من النعمة التي تتحرك في قلوبهم، مع أن الروح فينا لا يحتاج إلى شاهد، وعمل النعمة في القلب أشد ثباتاً من هيئة هذا العالم الزائل.
ويا ليت قارئي يعلم أن الخضوع للروح هو الطريق الذي يوصِّل إلى معرفة المشيئة الإلهية. وإن تسليم القلب لانفعال النعمة بلا مانع لابد أن يوصلنا إلى التأكيد، إنْ برؤيا أو بغيرها.
ويا ليت قارئي يعلم أيضاً أن الخضوع للروح وتسليم القلب للنعمة هما العلامة الحقيقية لقبول دعوة التكريس.
ويتهيَّأ للكثيرين أن قبول دعوة التكريس يحتاج إلى فحص وتعقُّل ورزانة، وكأنما أعمال الروح توزن كما توزن مشاريع المهندسين،
ولكنني ما وجدت للتكريس ميزاناً إلا الإيمان الذي يستند على الثقة بما يُرجى والإيقان بالأمور التي لا تُرى.
"وخرج إبراهيم وهو لا يعلم إلى أين يذهب" (عب 11: 8).
الخروج:
خرج إبراهيم من "أور"، وخرج بنو إسرائيل من مصر، ولكن يوجد فرق بين خروج وخروج. فإبراهيم أطاع دعوة كان لها في قلبه أصول مُتعمِّقة سابقة كانت تُزيدها الأيام وضوحاً واشتياقاً.
كان يشتاق إلى التحرر من أرض العبادات الشريرة، والانعزال عن عشيرته التي انغمست مع غيرها في هذه العبادات عينها، كان يئن وينتظر يوم الخلاص؛
فلما تأكد من إيمانه تأكد من دعوته، ولما خضع للروح ناداه الروح، ولما أخضع كل فكره لطاعة الله، سمع صوت الله!! لذلك خرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب، لأنه لم يكن يطلب عِشْرَة أخرى ولا وطناً آخر، بل كان يرجو المجازاة.
لم يكن صعباً على إبراهيم أن يسير في القفار أياماً كثيرة وهو لا يعلم أين يذهب، لأنه سبق وخرج بكل قلبه من أرضه ومن عشيرته. نعم أخرجهم جميعاً من قلبه فلم يكن ينظر إلى الوراء بل إلى فوق، طالباً وطناً أفضل!
يا للخروج الحق! لا يستطيع أحد أن يتعمق المعنى إلا إذا ذاقه أو أكمله. نعم سأذكر هذه الليلة ما حييتُ، حينما تسللت من المدينة بعد منتصف الليل، ووجهتي دير مجهول لم أَرَه قبلاً. في هذه الليلة أحسست حقاً بالخروج.
لم يكن أمري سهلاً، لقد كلَّفني أن أخسر كل شيء، وأحسب كل شيء خسارة، وأُبغض كل شيء، وأُبغض نفسي كذلك، وولَّيتُ ظهري للعالم، العالم الذي كنت أحبه, الذي هو فيَّ غرور الغِنَى ومجد الأباطيل، كرامة الشهرة والصيت الحسن، وحب المديح والراحة ومسرَّات هذا الدهر.
ولكني حزمت أمري، وجمعت أشتات قلبي، ونفضت مني أشياء هذا العالم جميعاً، وتقويت بالإيمان، وألقيت بنفسي في تيار النعمة، وسرت ولا أعلم أين أذهب، غير أني كنت عالماً بيقين أن محبة هذا العالم عداوة لله،
ووثقت بالذي وعد سابقاً أنه يعطي حياة أبدية للذين يتركون أشياء هذا الدهر.
ولكني متعجب أشد العجب من الذين يعتبرون أنفسهم أنهم خرجوا من العالم ولا زالوا يشتهون شهوته، هؤلاء هم في العالم حتى ولو سكنوا أعماق البراري، هم دنياويون ولو تزيُّوا بزيِّ أهل الحياة.
وأود لو أنأى بقارئي عن خروج مريض كخروج إسرائيل من مصر، لأنهم لم يقبلوا دعوة لها صدى في قلوبهم بل قبلوا أمراً لا يحتمل العصيان بعد أن طلبوا له علامة وبرهان،
واهتموا غاية الاهتمام بالتأكُّد من صِدْق الدعوة والداعي، وتطوَّر مطلبهم من التأكد بالبرهان إلى التأكد بالمعجزات، وقد أكمل الرب لهم كل ما طلبوا حتى لم يَعُد لديهم أي شك أو ريبة في الدعوة، غير أنهم لم يخرجوا خروجاً "صحيحاً"، بل تركوا قلوبهم في مصر، وشهواتهم في قدور اللحم.
فتثقلت عليهم الدعوة في الطريق، واشتدت وطأة عدم الاحتمال فتذمروا على الدعوة والداعي، وجدَّفوا على صاحب الصوت وصانع المعجزات.
أودُّ لو أُنبِّه القارىء لخطورة السير بالعيان، وعدم نفع الرؤيا والعلامة والبرهان، لأنه لن يسند المدعو في خروجه ومسيرته إلاَّ إيمانه، وها أمامنا عِبْرة في ستمائة ألف شخص خرجوا بمعجزة في القفر بسبب تذمُّرهم، ولم يدخلوا أرض الراحة بسبب عدم إيمانهم.
أيها الجالسون بقلوبهم بجوار قدور اللحم في أرض الخطية، المفضِّلون خبز الشبع على جوع البر، المتلذِّذون ببصل مصر وكُرَّاته على أتعاب برية الخلاص، ليس لكم في كنعان نصيب ولا قرعة في أورشليم.
أيها السائرون في برية الخلاص، يكفيكم الآلام طعاماً والدموع شراباً لأن حزنكم سوف يتحول إلى فرح، ورئيس إيماننا أكمل الآلام أولاً ثم دخل إلى راحته.
ناموس الدعوة وناموس الاختيار:
لقد خسر الكثيرون الجعالة إذ حسبوا أنفسهم غير مدعوين، مع أن الروح يقول: «لأن الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين على بُعد» (أع 2: 39).
وظن البعض ظنّاً خاطئاً أن الدعوة هي حالة احتياج الله لنا، فقالوا في أنفسهم وقالوا لله إن كنتَ محتاجاً إلينا فادعُنا. تمنيتُ لو عَلِمَ الجميع أن الدعوة عكس هذا،
فهي حالة احتياج منا لله، وكلما اشتدت وطأة الحاجة الإلهية في قلوبنا كلما ازدادت الدعوة وضوحاً، وكلما أفصحنا عن حبنا لله كلما سمعنا كلماته كالرعد في آذاننا.
إنها لمسات روحية متدفقة في القلب تحمل صاحبها حملاً لتُلقيه على عتبة بيت الله، هناك على قمة جبل التجلِّي، لتُحدره مرة أخرى نحو السفح في وسط الأسواق. إنها نخسات واضحة يصعب رفسها، ولُجُم عنيفة تمنعنا من الجموح وتصدُّنا عن التقهقر لو أطعناها.
ولكن هذه اللمسات وهذه التيارات القلبية ليست شيئاً في ذاتها، ولكنها تعمل وتُفْصِح عن إمكانيات المسيح التي وُهبت لنا. إذن،
فهي ليست علامة على الدعوة فحسب؛ بل هي إمكانية تهيِّئ للدعوة وتعمل لحسابها.
وغاية النعمة التي تتحرك في قلوبنا هي أن تجعل الرب يسوع حقيقة حية فاعلة فينا تدفعنا بقوة غير محصورة لخدمة المسيح لو أطعناها في القلب.
إذن، فالروح الذي يعمل فينا لا يعمل لحسابه الخاص ولا لحساب أنفسنا، ولكن ليشهد للمسيح لنكون نحن شهوداً بين الناس له, كما يشهد الروح فينا له.
يا للحقيقة التي صارت غير ملموسة بسبب عدم طاعتنا لروح الله! إنَّ مَنْ يأخذ الروح لابد أن يشهد للمسيح!
ومَنْ آمن يتكلم، ومَنْ أكل جسد الرب ودمه يُبشِّر بموته ويعترف بقيامته، ومَنْ يسمع فلْيَقُل تعالَ!! ومَن يحبس كلمة الرب في نفسه تُحرَق عظامه.
نخطىء كثيراً في معنى الهبة والاختيار حينما نقرنها بناموس الدعوة، إذ نظن أن الهبة متوقفة على ناموس الدعوة، كأن الله لا يعطي إلا لمن يختاره.
ولكن أود لو نصحح الفكرة، فإن الهبة تعتمد على مَن يتقدم ويطلب. فكل مَن يطلب يأخذ، وكل مَن يسأل يجد، وكل مَن يقرع يُفتح له (مت 7: 7)؛ أي أن مَن يطلب ويسأل ويقرع يصير مختاراً ويوهب نعمة وعطية.
فالهبة لا تُحدِّد استحقاق السائل، بل السائل هو الذي يحدد استحقاقه الهبة: «طول النهار بسطتُ يديَّ إلى شعب معاند ومقاوم» (رو 10: 21)، «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أُريحكم» (مت 11: 28).
كذلك فالاختيار لا يحدد الموهوب بل الموهوب هو الذي يحدد الاختيار، لأن «ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه» (مت 11: 12).
فنحن نؤمن فنسأل, فنأخذ, فيتحدد اختيارنا.
وهذا التدرُّج هو بالنسبة لنا، أما بالنسبة لله فإيماننا وسؤالنا وأَخْذنا واختيارنا كلها عملية واحدة معروفة لدى الله قبل تأسيس العالم, نُحقِّقها الآن بإرادتنا, ونكملها بإمكانيات المسيح الموهوبة لنا بالروح القدس جميعاً بلا محاباة.
فناموس الاختيار يحدده قبول ناموس الدعوة، وناموس الدعوة يحدده مقدار أخذنا للمسيح فينا، والمسيح هو للجميع بلا محاباة،
كل مَن يؤمن وكل مَن يأتي إليَّ لا أُخرجه خارجاً، ولكن لكل واحد قياس خاص حتى تتنوع الخدمة لتكميل احتياج الإيمان.
وليتنا نعلم أن الكفاءات البشرية غير معتبرة لدى الروح القدس،
فالرب يدعو أولاً، وكل مَن يقبل يملأه مهما كان فارغاً, ويقويه مهما كان ضعيفاً, ويُطهِّره مهما كان دنساً, ثم يرسله!!
كان موقفاً حرجاً للغاية لا أستطيع أن أنساه يوم دعاني بعض أئمة الخدام قبل ذهابي للدير مباشرة ليسألوني: لماذا أنت ذاهب للدير؟
ارتبكتُ وتحيَّرتُ ولم أجد جواباً أردُّ به، لأني إلى تلك اللحظة لم أكن أعلم لماذا أنا ذاهب للدير؟ ولكني كنتُ واثقاً فقط أني ذاهب إليه.
ثم سألوني بأكثر وضوح: ماذا ستعمل بعد الرهبنة؟ فارتبكت أكثر من الأول ولم أجد جواباً أيضاً، لأني لم أكن فكرت فيما سأعمله بعد الرهبنة، ولكني كنت واثقاً فقط أني سأصير راهباً.
لقد تعجبت جداً من هؤلاء الخدام ولا زلت أتعجب من الذين يريدون أن يتجندوا على نفقة أنفسهم، ويرسمون خطة نزولهم قبل خروجهم، ويُحدِّدون خدمتهم قبل امتلائهم! هؤلاء خلطوا بين الدعوة والإرسالية.
الدعوة والإرسالية:
«فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلْبَسُوا قوةً من الأعالي»
(لو 24: 49).
معلوم أن التلاميذ كانوا مدعوِّين إذ قبلوا الدعوة وعاشوا فيها مع المسيح ثلاث سنوات كأخصاء،
بل وعاشوا فيها بعد قيامته مدة أربعين يوماً، ولكنه منعهم من الخدمة وقت صعوده إلى أن يُلْبَسوا قوةً خاصة للخدمة.
وهكذا يتضح وجه الاختلاف الشديد بين الدعوة والإرسالية. فالدعوة لا تلتزم بكفاءة ذاتية، ولا تنبني على مقدرة شخصية، لأن الرب يختار الجهلاء والضعفاء عند الناس، والخطاة والعشارون يركضون في طريق الملكوت ويسبقون.
أما الإرسالية فيتحتم فيها القوة الروحية والامتلاء، لأن الكتاب يقول إن الذين دعاهم فهؤلاء بررهم لكي يُرسلهم (رو 8: 30). لذلك محبوبة هي جرأة القدوم إلى الله للتكريس،
أما اقتحام طريق الخدمة والكرازة فخطر، لأنه كيف يكرزون إن لم يُرسَلوا (رو 10: 15)؟ وللرسالة علامة يُطالَب بها الراسل، ويُطالِب بها المُرسَل إليهم.
وقد رأيت أن كل إرسالية لم يسبقها تكريس تؤول غالباً إلى الفشل مهما بدت قوية جريئة ناجحة، ورأيت أيضاً أن كل تكريس حقيقي يؤول حتماً إلى رسالة مهما بدا ضعيفاً منعكفاً.
يا صاحب الحقل، حصيدك قد نضج وحان وقت القطاف.
عبيدك في السوق واقفون ينتظرون، أَرسِل بيد مَنْ ترسل وادْعُ المستعدِّين.
يا راعي الرعاة، لقد تبددت غنماتك ولا من راعٍ إلاَّ الأجير.
يا صيادنا الماهر أين نُلقي شبكتنا، لقد أنهكتنا العواصف وكادت تُغْرِقنا اللُّجة.