إِلهي عَليكَ تَوَكَّلتُ فلا أَخز و لا يَشمَتْ بي أَعْدائي ( مز 25 /2)
نؤمن و نفكّر - الأب بسام آشجي
نؤمن ونفكّر
مقدّمة
يبدأ كتاب "التعليم المسيحي" CATECHISME DE L- EGLISE CATHOLIQUE، الذي أعلنته الكنيسة مؤخراً، صفحاته الأولى بطرح مسألة الإيمان كفعلٍ أساسي لحياة الإنسان،
ويتساءل: ما معنى: "أومن" أو "نؤمن"؟ لاشك أن الإيمان هو تجاوب الإنسان مع مبادرة الله في الكشف عن ذاته، ولكنه أيضاً يخصُّ حياة الإنسان في مختلف جوانبها (أنظر الباب الأول من الكتاب).
لقد حاولت الكنيسة عبر الزمن، أن تحدّد أسس الإيمان المسيحي، من خلال العديد من الصيغ. فشيّدت بناءً متكاملاً من العقائد والقوانين والطقوس وسائر أساليب التعبير، لتعلن من خلالها عن حقيقة إيمانها. وكلُّ ذلك لكي تمنح الثقة لمؤمنيها عيش ما يؤمنون، وبالتالي يصبحون شهود الإيمان لمن حولهم.
لنحاول فتح آفاق التفكير حول كيفيّة قراءة وفهم الإيمان المسيحي، بلغة أقرب ما يمكن للغة العصر.
والمبتغى من ذلك، دعوةٌ للانسجام بين ما نؤمن وواقع الحياة، في الفكر، والعيش، والشهادة. فالكنيسة منذ العنصرة إلى اليوم دأبت على هذا الفعل، أعني تقديم الإيمان قريباُ من واقع الإنسان لكي يحياه ويتنعّم به ويشهد له، وبذلك "يتمجّد الله"، حسب تعبير القديس إيرناوس.
سأُحاول في هذا المقال الأول البحث في مسألة الإيمان، من حيث انسجامه مع العقل والتفكير. وفي المقال الثاني سنتأَمّل الإيمان من حيث أنه دعوة حياة واختبار.
وفي المقال الثالث سنتابع تأملنا حول الإيمان، من حيث تفعيله في واقع الحياة المعاصرة.
ما هو الإيمان؟
إن لفظة "إيمان" ترتبط لغويّاً بلفظة أمن أو أمان، وفي لغة العهد القديم ومعاصري يسوع هناك ارتباط بين لفظتي إيمان و"آمين". و"آمين" كلمة توحي "بالصلابة والاستقرار"، ويمكن ترجمتها بكلمة: "حقاً". فالإيمان يرتبط بالحق.
إنه حقيقة من نوع خاص. إن لفظة "الحق" ALIQEIA اليونانية تدل في الكتاب المقدس في الكثير من الأحيان للتعبير عن الإيمان، رغم وجود كلمة خاصة للتعبير عن فعل الإيمان pisteuw.
وبكافة الأحوال استعملت معاني الإيمان في الكتاب المقدس للدلالة على "تجاوب الإنسان مع قصد الله الذي يحققه خلال الزمن"، فيما يسمى "تاريخ الخلاص"، الذي قدّم نماذج واضحة عن "الإنسان المؤمن"، دون أن يحلل فعل الإيمان بحدّ ذاته.
نترك التأمل في بعض هذه الشخصيات النموذجية في الإيمان لمقال آخر، لندرس اليوم الإيمان كفعل أساسي اختبره الإنسان على مرِّ العصور. فالإيمان هو "منح الثقة لآخر"، بناء علاقة أساسها تصديق الآخر لكونه شخص موثوق به من قبل الذات. سُئلتْ مرة زوجة أنشتاين العالم الشهير صاحب النظرية النسبية: هل تفهمين نظريات زوجك؟ فأجابت على الفور:
بالطبع لا، "ولكني أعرف زوجي، وأعلم أنه يمكن الوثوق به".
الإيمان هو جعل الحياة في كافة جوانبها ضمن حركة ثقة مع الله. فللإيمان، كما يقول معجم اللاهوت الكتابي، قطبين:
الثقة التي تتجه نحو شخصٍ "أمين"، وتلزم الإنسان بكليته، ومن جهة أخرى، مسعى العقل الذي تتيح له كلمة أو بعض العلامات ، بلوغ حقائق لا يعاينها (أنظر: عب11/1)". أي أن الثقة لا تلغي عمل العقل فهي ليست من نوع "الثقة العمياء"، يقول القديس أَنسلم: "الإيمان يتطلّب الفهم ".. لذلك يرتبط الإيمان بكلٍ من مفهومَي: "الدين"، الذي يمكن دراسته أيضاً ضمن مجال علم الاجتماع الديني، و"الوحي"، وهو عمل "لاهوتي" صرف.
1- "الدين":
الدين، بحسب موسوعة "المورد" العربية، "هو تعبير الإنسان عن إيمانه بقوة أعظم منه وإجلاله لها، بوصفها خالقة هذا الكون ومسيّرته. وكثيراً ما يتخذ الدين شكل المحاولة الجادة لتفسير أصل الكون وطبيعته والهدف الذي كانت من أجله الحياة.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، الدين هو مجموعة الشعائر والطقوس المبنية على أساس من هذا الإيمان."
إن لفظـة ديـن Religio اللاتينية بحسب المفكر شيشرون cicéron هي دمج لكلمتين Re-ligere أي:
"إعادة قراءة" أو"قراءة جديدة". فالدين هو أن يقرأ الانسان ويفسّر ويفهم واقع الحياة ومعنى الوجود في ضوء ايمانه بالله.
"فالإيمان يفتح للشخص آفاقاً شاسعة غير الآفاق التي يحياها كل يوم بنوع من العادة والرتابة". ويعود ذلك إلى كون "الله موضوع الإيمان". فالبحث عن الله، وعن مَنْ يكون، يُفعّل الحياة بمعانٍ جديدة متسامية. ويرى المفكر لاكتانس Lactance أن أصل لفظـة ديـن Religio هـو دمـج لكلمتـيـن Re-ligare أي:
"بناء علاقة". فالدين هو أن يبني الانسان علاقة مع الله تضمن له الأمان والمحبة.
أما القديس أغسطينوس فيرى في لفظة دين Religio معنى"الاختيار" Re-eligere أي: اختار مجدّداً.
فالدين "هو اختيار المؤمن لله اختياراً حراً مجدِّداً لحياته وسلوكه وتصرفاته". من هنا يمكن القول إن الإيمان هو قفزة نحو الله، للعيش معه وبه وإليه.
2- الوحي:
ربما من المناسب أيضاً، أن نعيد ترجمة كلمة "وحي"Revelation الفرنسية، بكلمة "كشف" أو "إعلان". فاللفظة الفرنسية مقتبسة من كلمة Revelare اللاتينية التي تعني "ازاحة الستار" أو "الكشف عن". ف
الوحي هو "كشف" الله عن ذاته و"إعلانه" سرّ حبه و"إزاحة الستار" عن حقيقته للتعرف إليه والحياة معه.
فإذا كان معنى الإيمان في مقاربتنا إياه مع مفهوم الدين، هو جهدٌ من الإنسان لمعرفة حقيقة الله، والعيش بحسب مشيئته، تأخذ الحقيقة هنا بُعداً يكون الله فيه هو المبادر لإشراك الإنسان في حياته من خلال "الكشف" عن "ذاته".
هناك، يعيش الإنسان حياته بحسب رؤيته لله، لكونه صورة الله، وهنا، الله شخصياً هو الذي يكشف للإنسان عن حقيقة كيانه "المحبة" ليُشرك الإنسان في حياته. لاشك أن النظرتين متكاملتين رغم اختلاف الاتجاه.
لا بدَّ لنا، في مناقشتنا مسألة الإيمان، من طرح بعض التساؤلات الهامة: هل يمكن أن يكون الإيمان موضوع دراسة؟ هل للعقل دور في فعل الإيمان؟..
هل الإيمان تصديق حقائق تتنزَّل لا مجال للتفكير فيها أو درسها؟ هل العلم والإيمان على طرفي نقيض، أم أنهما متوازيان لكلٍ منهما مجاله الخاص، كالخطين المتوازيين مهما امتدّا لا يلتقيا، كخطي القطار الذي لا يستطيع أن يمشي من دونهما ، ودون من توازيهما؟
1- إما العقل أو الإيمان!..
هناك تيارين على الأقل يرفضان تَوَازي فعلَي العقل والإيمان معاً. الأول هو الإلحاد بمعظم مظاهره. يقول جاك مونود في كتابه الشهير "الصدفة والحتميّة":
"إن المعرفة الموضوعية، أي تلك التي توَّفرها العلوم التجريبية بمعناها الحديث، هي وحدها مصدر الحقيقة الصادقة".
أي أن العقل هو الإله. والعلم وحده كافٍ لتفسير جميع معضلات الوجود والحياة والتاريخ، فلا ضرورة للإيمان أصلاً. ومن جهة أخرى، يرفض كارل ماركس فعل الإيمان بالله في أساس فلسفته، لأنه يعتبر أن الإيمان يقوّض الإنسان، يقول:
"إن الإيمان بالله يقضي بالاعتراف بعدم قيمة الإنسان. إذاً، كان لابّد من الاستغناء عن الله لإنقاذ الإنسان... إن ديانة العمال هي ملحدة لإنها تبغي إعادة ألوهية الإنسان. إن نقد الدين ُيخرج الإنسان من أوهامه، ويحمله على إن يفكر ويعمل ويُنظّم واقعه كرجل تخلّص من الوهم وبلغ الرشد".
نستنتج من ذلك أن الإلحاد يرفض، وبفعل العقل، الإيمان برمته. التيار الآخر هو المعاكس تماماً، أمثال ترتليانس من آباء الكنيسة واللاهوتي البروتستانتي يوحنا هامان (1730-1788): لا يستطيع العقل مطلقاً البحث في مسألة الإيمان.
يقول كيركغارد: "لا يُعرف الإيمان على نحو عقلي بل على نحو أخلاقي". فلا يقوم الإيمان على القناعة بل على التسليم. الحكمة البشرية والحكمة الإلهية هما دائماً في تضاد ويجب تفضيل حكمة الله على حذاقة البشر. هناك "طاعة الإيمان" فقط.
2- "علم اللاهوت" هو مساهمة العقل في فهم الإيمان:
إنَّ التفكير في الإيمان له منهجيته الخاصة به، ككل نوع من أنواع التفكير. فالتفكير في الرياضيـات مثـلاً، يتطلـّب أولاً معرفـة بعض النظريـات والمعـادلات والقوانيـن والرمـوز والارقـام.. كذلك التفكير في التاريخ، له منهجيته الخاصة به، التي تختلف عن غيرها، ليس في موضوعها وحسب، بل ايضاً في طريقة التفكير بحدِّ ذاتها. قد تستفيد المعارف من بعضها البعض، وقد تستعير.
وقد لاتستفيد ولاتستعير، ولايوجد بينها أدنى ارتباط. فربما توجد رابطة بين الرياضيات والفيزياء، أو بين التاريخ وعلم الاجتماع. ولكن أية صلة تربط بين الكيمياء المعدنية مثلاً، وتاريخ الأدب العربي؟ هناك تعددية في مجالات المعرفة.
ومع تطور الحضارة أخذت جوانب هذه التعددية أبعاداً تخصصية في مختلف مجالات المعرفة ، فنحن في عصر التخصص. والإيمان المسيحي أخذ جانبه الخاص ضمن مجالات المعرفة ليس فقط في العلوم الإنسانية وحسب، بل أيضاً في وجهٍ تخصصي، دعي في لغة المعرفة "علم اللاهوت".
إن لفظة "علم اللاهوت" هي ترجمة لكلمة Theology ، المركبة من لفظتيـن يونانيتين (ثيوس) وتعني الله، و (لوغيّا) وتعني كلام أو تفكير أو علم. ويقابل ذلك في العربية ما يسمى:
"علم الكلام". وهو علم "يدافع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية" (موسوعة "المورد" العربية). يمكننا القول إذاً أن علم اللاهوت هو التفكير بالإيمان على ضوء العقل، أو مساهمة العقل، وفق المعطيات الدينية، في التعرف على الله.
من يكون، كيف يكشف عن ذاته، ما دوره في الكون والتاريخ، ما علاقته بالانسان... الخ. لهذا التفكير منهجيات عديدة ومتنّوعة. تستعير في معظمها ما توصلت إليه العلوم الانسانية وعلوم الآداب عموماً.
3- الإيمان حقيقةٌ من نوع "السر" MYSTERE :
إن القاعدة الأساسية للدخول في فهم "الإيمان" أو في "علم اللاهوت" هي القبول بمبدأ "السر"..! ومثالنا على ذلك الهتاف الليتورجي عن الافخارستيا: "هذا هو سر الإيمان". الإيمان هو دائماً "سر". والسر هو عموماً "الأمر المخفي أو المحجوب". الأمر الذي لا يستطيع العقل إدراك حقيقته كاملاً، فالحقيقة ليست فقط فيما يظهر ويُعقل.
وهذا لا يعني أنه ضد العقل، بل يفوق العقل. الحقيقة العميقة صعبة التعبير، كاختبارات الحب والإيمان والجمال والصبر والإبداع...
فغالباً ما يكون الأعمق فيها هو ما قد حُجب. الأمر الذي يدعو إلى الرمز والعلامة، إلى التساؤل والتأمل، إلى الحيرة والدهش.. وكثيراً ما يدعو إلى الصمت والترقب.
فمهما حقق الإنسان من إنجازات هامة، وقد حقق الكثير، على كافة الأصعدة العلمية، التجريبية كالطب والكهرباء والميكانيك والعمارة..، والتجريدية كالرياضيات والفلسفة والمنطق واللغة..،
لا يستطيع إلا أن يقف متواضعاً، متأملاً، أمام كيانه "السر". لا بل عليه أن يفتخر:
عقل وقلب وجسد.. هذا هو الإنسان ذلك المجهول! ينتسب إلى المطلق، ويصطدم بالمحدود. ينكسر أمام الألم والموت، وينشد الخلود. يفكّر، ويحب. يبحث ويتذوَّق. يمكنن المادة الجامدة، ولا يتخلى عن ابتسامة طفل.
يغزو الفضاء، ويستلهم وردة الحبيب! والروح فيه تجعله يعيش الزمن الحاضر، ويطلُّ على الزمن الأبد، مما يزيد فيه السر.
والكائنات! أليست هي الأخرى "سر"؟ في وجودها.. في حركتها ونموها.. في هدفها..
يقول باسكال: "إن وراء كل شيء سر". والله!.. من هو الله؟ وإن كانت بصماته واضحة في الخليقة بأسرها، وبأشكال متعددة ومعقدة أحياناً، يبقى الله "سراً" لا يدرك ولا يُعقل، "كائنٌ هُوَ هُوَ".
قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضٌ في كلامنا، فمرة نقول أن العقل يدرك ماهية الإيمان، وأخرى أن الإيمان يتجاوز حدود العقل!!.. ولكن سرعان ما نستنتج من ذلك،
أننا نستطيع عقلياً، ككل العلوم، أن نبحث وندرس مسألة الإيمان، ولكن في حدود منهجيتها الخاصة، منهجية "السر".
أي أنه علينا القبول سلفاً أن هناك ما يتجاوز العقل وإن لم يكن ضده، إذ لا يمكن أن يكون في مسألة الإيمان ما يناقض العقل وإلا ما أصبح إيماناً بل فرضاً. ما خلق الإنسان ليؤسر،
بل ليكون الإيمان له بمثابة فعل تحرير. وككل العلوم، علينا في دراسة الإيمان، بتواضع وفخر، أن نغوص مستغرقين في أفعال البحث والتأمل والاختبار، دون أن نلغي حدود العقل.
يقال أن القديس أُغسطينوس بينما يفكّر بحقيقة سر الثالوث الأقدس، وقد أراد القبض عليها كاملةً، رأى طفلاً ينقل في كفّه الصغير مياه البحر إلى حفرة صغيرة، فاستهجن ذلك.
والطفل بدوره، استهجن رغبة اُغسطينوس القبض على حقيقة الله كاملة. وما يفيد في هذه المقاربة هو أنَّ الحفرة تستوعب مياه البحر بقدر اتساعها، لن تستوعب البحر كاملاً. ولكن كلَّما اتسعت استوعبت مياهه أكثر. كذلك محاولة الفهم في الإيمان تتسع يوماً بعد يوم، دون أن تصل إلى نهاية
كحقيقة العلوم والمعارف، فالحقيقة لا تحدّ، وكما تقول القديسة تيريزيا الأفيليّة، "إنَّ الله لا يحدّ".
فالعلم الحقيقي لا يلغي من العقل التأمل والتساؤل، بل يمنح الإنسان، كما يقول اللاهوتي المعاصر بلتسار، أن "ينتقل من نطاق حياته الضيق المستكين إلى رحاب إمكانية دخول حياة الله، أشبه بمن تنفتح أمامه مساحات شاسعة لا يحدها النظر بل تقطع على المرء أنفاسه.
وإنها لمساحات على أكمل ما تكون الحرية، وهذه المسافات نفسها هي حريات تجذب حبنا وتستقبله وتستجيب له. أما في هذه الدنيا فمن يستطيع أن يدخل أعماق حرية أخرى؟
إنه لأمر مستحيل! وهكذا تتكدس، بشركة القديسين في الله، وإلى أبعد ما يمكن إحصاؤه، مغامرات الحب الخلاّق المبدع، فتصبح الحياة أعجوبة مطلقة، ولن يُعطى أيُّ شيء يقضي على إمكانية القبول، وعملية العطاء تنتشر لا تحدّها حدود".
4- الإيمان عمل مشترك بين النعمة الإلهية والحرية الإنسانية
إنَّ الإيمان هو عطية الله المجانية للإنسان لكي يمنحه بواسطة ذلك حبه وسعادته وخيره. إنّه حركةٌ تآزريّة Synergy بين الله والإنسان تهدف إلى إشراك الإنسان في حياة الله. يُفسر افاغريوس البنطي أحد آباء الكنيسة (القرن الرابع)، معنى الإيمان بحسب مفهومه لعلم اللاهوت،
فيقول: "أنت تُصلّي فأنت لاهوتي". فالإيمان بحسب لاهوت الآباء الشرقيين هو معرفةٌ وفن، علمٌ وإبداع، مبادرة واستقبال. فلم ينسج آباؤنا اللاهوت في مقـالات وحسـب.
بـل، وفـي الأناشيد والأشعار، في الأيقونات والرموز، في الحركات والتعابير.. إذ أن حقيقة الله، وحقيقة لقاء الله والإنسان هما، رغم بساطتهما، صعبتا التعبير.
مَنْ يستطيع التكلّم عن الله؟ أو حتى عن الإنسان؟ فكم بالأحرى عن العلاقة بينهما؟ فالحقيقة العميقة تحتاج مع الفكر إلى الرمز، ومع المعرفة إلى الفن.
5- الإيمان المسيحي حقيقة واحدة وقراءات متعدّدة
يُعبَّر الإيمان المسيحي بطرق عديدة، أو بالأصح يُقرأ بقراءات عديدة، والكنيسة هي المسؤولة الوحيدة عن إعلان هذه التعابير.
فالكتاب المقدس، وهو كتاب الكنيسة الأساسي، مليءٌ بهذه القراءات، وهي في غاية التنوع. وربما الاختلاف ليس في جوهر المعنى، بل بأشكال المبنى. الأناجيل الأربعة مثـلاً، هـي قـراءات أربعـة متنوّعـة المبنى لحقيقة واحدة، تحمل ذات المعنى. فيميل يوحنا إلى التحليق في سماء لاهوت يسوع الكلمة.
بينما يُظهر لوقا حنان الله في يسوع الرحمة. ويُبرز متى أن يسوع هو "المنتظر" ليحقق الله بواسطته الخلاص. ويشاهد مرقس قوّة الله في شخص يسوع. حتى في الإنجيل الواحد هناك حقيقة واحدة، تُعزَف في كل نصٍ مـن نصوصـه.
فالمثـل يحمل ذات المعنى الذي تحملـه المعجزة. والحدث يُعبّر عما تريد العظة قوله. ورغم أن الكتاب المقدّس بعهديـه، وبتنوع فنونه، هو قاعـدة أساسية للإيمان المسيحي، هناك قراءات غيره تقدّم سر الخلاص، قد أعلنتها الكنيسة. كقوانين الإيمان، ومقالات الدفاع عنه في عصور الآباء، وتحديدات المجامع المسكونية.
والليتورجيا والصلوات، والفنون الكنسية. والخدمة الاجتماعيّة في السهر على "سر الأخ" خصوصاً المتألَّم. وسير وكتابات الروحانيين والقديسين. وهكذا يظهر الإيمان دائماً: حقيقة واحدة هي سر الخلاص، متناغمة بين المبنى والمعنى.
6- ضرورة "انثقاف" الإيمان:
انثقاف الفكر هو نقله من ثقافة إلى أخرى. أو هو تجسيد المعاني في ثقافة معيّنة. فالتفكير في الإيمان المسيحي، وإن كان يحمل حقيقة واحدة، قد انثقف في حضارات متعدّدة حسب الزمان والمكان.
فكلمة "الكلمة" Logos مثلاً المستعملة في افتتاحية إنجيل يوحنا لها مدلولات في الفلسفة اليونانية، غير ما قصده كاتب الإنجيل المثقَّف بالحضارة السامية، رغم أن اللغة هي واحدة فكم بالأحرى لو تغيرت. لا تكفي الترجمة، يجب نقل المعنى المختبئ في حدود الكلام، ومن جهة أخرى يجب أن يعني هذا المعنى لمن يتلقاه.
وهنا تُطرح مشكلة انثقاف الإيمان: هل معنى الإيمان الذي اُختُبر في الثقافة السامية كحدثٍ مؤسِس له قد تغيّر في الحضارة الهلينيّة، وبالتالي في مختلف الحضارات؟
أم أن المعنى قد بقيَ أميناً للحقيقة رغم تغيُّر المبنى؟ وهل لكي نُحافظ على المعنى، هل يجب أن نترك المبنى كما وُجِدَ في أُصوله، وبالتالي علينا العودة، في كلِّ زمان ومكان، إلى عصر الأصول، لكي نختبره؟ أعتقد أنَّ الإجابة على هذه الأسئلة تَسهلُ في حالة فهم حقيقة التجسّد في المسيحية، وتعميمها بحدث انهمار الروح القدس يوم العنصرة.
فالروح القدس لم يفارقِ الكنيسة منذ حلوله "في اليوم الخمسين" (رسل2/..) وكما ألّهَمَ الجماعة المؤَسِسَة إعلان الإيمان في ثقافات ذلك الزمان، وهذا ما يرمز إليه تعدد الألسنة، لا يزال يُلهم الكنيسة، في كل زمان ومكان. والمشكلة هي العكس، حين تتجمّد تعابير الإيمان في قوالب الثقافات الغابرة.
لم يتأخر "الآباء" في نحت كلامٍ مقتبسٍ من واقعهم للتعبير عن معاني الإيمان، وبفعل الروح القدس تعلن الكنيسة استقامة تعاليمهم. الآباء خضَّعوا الفلسفة لإعلان إيمان الكنيسة فاستعملوا تعابير اقتبست من الفلسفة اليونانية لم تكن موجودة في الكتاب المقدّس،
أمثال: "الثالوث"، "الأقنوم"، "الطبيعة"، "الجوهر"، "المساوي في الجوهر"، "الخطيئة الأصلية"...
ولا تزال الكنيسة إلى اليوم وحتى الأبد، وبهبوب الروح القدس، تسعى أن يكون إعلان إيمانها منثقفاً مع واقع كل عصر لأن الإيمان الغير المفهوم لا يمس القلب، وبالتالي يصبح اتباعه عبودية.
خاتمة
إنَّ الإيمان ، كما يقول راتسنغر، وبكلامه أختم،
"هو موقفٌ من المواقف التي يتخذها الإنسان حيال الوجود بمجمله، إنه الشيء الذي يعطي حياة الإنسان معناها،
إذ يوفِّر لها قاعدة ترتكز عليها.
ومن دونه لا يستطيع الإنسان لا أن يُخطِط ولا أن يعمل،
نظراً لافتقاره إلى الأساس الذي لابدَّ منه ".