إِسْمُ الرَبَ بُرجُ عِزَة إِلَيه يُسرعُ البار و فيه يَتَحَصًّن (ام 18 /10)
حياة الطوباوي الأخ اسطفان نعمه - دير كفيفان
حياة المكرّم الأخ إسطفان نعمه
نشأته
هو يوسف بن إسطفان نعمه وكريستينا البدوي حنّا خالد من قرية لحفد - جبيل.
صغير عائلة مؤلّفة من أربعة صبيان: سركيس، نعمة الله، هيكل ويوسف، وفتاتين: توفيقة وفروسينا. ولد في شهر آذار من سنة 1889. نشأ في بيئةٍ جبليّةٍ زراعيّة، ولكنّه حصّل بعض مبادئ القراءة والكتابة في مدرسة القرية، وفي مدرسة سيّدة النِّعم في سقي رشميَّا التابعة للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة.
نبع الغْرَيْر
في أحد الأيّام, كان يوسف (الأخ إسطفان) يرعى البقرات في الحقول المتاخمة لبيته الوالديّ، فرأى حيوانًا برّيًا صغيرًا، اسمه "غْرَيْر"، لحق به إلى أن دخل مغارةً محفورةً في الأرض. لاحظ يوسف أنّ هناك آثارَ مياهٍ في هذه المغارة، فباشر حفر المكان إلى أن نبعت المياه من جوف الأرض، وهذا النبع يُعرَف اليوم ب"نبع الغْرَيْر".
دخوله الرّهبانية اللّبنانيّة المارونيّة
سنة 1905 وبعد سنتين من وفاة والده، دخل الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة في دير مار قبريانوس ويوستينا في كفيفان. واتّخذ في الابتداء اسم إسطفان، تيمّنًا بشفيع بلدته واسم أبيه.
كان معلّم المبتدئين في كفيفان آنذاك رجل الله الأب اغناطيوس داغر التنّوري. وبعد سنتَي الابتداء، أبرز نذوره الرّهبانيّة في 23 آب سنة 1907. واختير ليكون من الإخوة المساعدين، فأتقن مهنة النّجارة ومهنة البناء بالإضافة إلى أشغال الحقل. وكان معروفًا ببنيته الجسديّة القويّة.
خدمته في الرّهبانيّة
أمضى حياته في الرّهبانيّة يعمل في جنائن الأديار التي تنقّل فيها: دير سيّدة ميفوق، دير مار أنطونيوس - حوب، دير مار شلّيطا - القطّارة، دير مار مارون عنّايا، دير سيّدة المعونات جبيل ودير مار قبريانوس ويوستينا كفيفان. في كلّ هذه الأديار كان يتسلّم مهمّة رئيس الحقلة، وكان يعمل مع إخوته الرّهبان ومع العمّال بصمتٍ ومحبّةٍ واحترام، ويشهد الجميع على عدله واستقامته. فكان التّلميذ الأمين لسيّده يسوع المسيح، عاكسًا صورته أينما حلّ، وناقلاً بشارته إلى مَنْ عايشهم.
لم يعرف البطالة أبدًا، بل عاش قانون الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة وروحانيّتها بدقّةٍ وأمانة، مقتفيًا خطى الرّهبان القدّيسين، موزّعًا أوقاته بين شُغلٍ وصلاة، إلى أن رقد بالبرارة في 30 آب 1938 عن 49 سنة. ودفن في دير كفيفان حيث بقي جثمانه سالمًا. بوشر التحقيق في قداسته في 27 تشرين الثاني
2001، وصدّق البابا بندكتوس السادس عشر على فضائله البطوليّة في 17 كانون الأوّل 2007، وهو الرابع بعد إخوته، أبناء الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة: شربل ورفقا ونعمة الله.
روحانيّة الأخ إسطفان
(الله يراني)
لقد تميّز الأخ إسطفان بحضورٍ صامتٍ يعكس حياته المستترة مع المسيح، صابرًا على أوجاعه، لا يشكو من ألمٍ أو مرض، متقشّفًا ومتجرِّدًا وخصوصًا في طعامه، قنوعًا لا يطلب إلاّ العيش في حضرة مَن كان يراه، فرحًا في حياته - وهذا ما انعكس نشاطًا في عمله - فطنًا في تصرّفاته، عادلاً محبًّا للمساواة فكان يعطي كلّ صاحب حقّ حقّه فنال احترام ومحبة مَن كانوا يعملون معه. كان رجل صلاة، تلميذًا للأرض التي كانت له مدرسة قداسة ومصدر روحانيّة.
عرف أهميّة الأرض وقيمتها الحقيقيّة. كدَّ وجاهد وعجن التراب بعرقه، وسعى سعيًّا دؤوبًا من أجل بلوغ سُلَّم الكمال الرّهبانيّ واللّقاء بنور الله وكلمته الأزليَّة. كان "فلاحًا مكفيًّا وسلطانًا مخفيًّا". يقوم قبل بزوغ الفجر وشروق الشَّمس للصلاة والعمل، على مثال معلّمه الأوّل يسوع المسيح. البسمة الصافية النيّرة لا تفارقه، صامت، متأمّل في سنابل القمح وخيرات الأرض،
وديع القلب، هادئ، رصين صَلب صلابة الصخور. بنى حياته مدماكاً تلو مدماك على أساس متين وثابت، كما كان يرصف حجارة الجلول والحقول.
وجهه وجه البراءة والحكمة، وجه السلام والحبّ، أضاء عينَيه بنور الإنجيل، ونور الإيمان؛ إيمان الأرز وابن القرية اللّبنانيّة، إيمان الأجداد والآباء والأمّهات، إيمان البساطة والفرح. ليّنٌ في المحبّة والرحمة والحنان والعطاء كليون السنابل أمام نسيم الصباح، وصلب في الإيمان والجهاد والعدل والقداسة كتَجذُّر السنديان في عمق التراب. فكلّما نظر الى الشّمس، تطلّع الى السعادة في نور وجه المسيح وبهائه وجماله.
أدوات صقل حياته
أدوات عمله اليوميّ، كانت المنجل والمعول والشوكة والمخل والمنشار والمطرقة والإزميل... يستعملها في إصلاح الأرض وحراثة التربة وتشذيب الصخور وهندستها وفبركة الأبواب والشبابيك. أمّا أدوات صقل حياته فكانت كلمة الإنجيل والصلاة والتأمّل، وسبحة البتول مريم، وخدمة المحبّة والشراكة مع إخوته الرّهبان والقدّاس الإلهي، متشوّقًا دومًا إلى اللّقاء بالحبّ الإلهيّ. كانت حياته فعل شكر وتقدمة مقدّسة لله ومشوارًا من الأرض إلى السماء، زارعًا دروبه سنابل قمح.
لم يتراجع يومًا ولم تهزّه الرياح العاتية التي عصفت بلبنان إبّان الحرب العالميّة الأولى، بل حمل الصليب منكرًا ذاته وتابعًا معلّمه، واضعًا ثقته فيه من دون تردّد أو خوف. تجرّد عن كلّ ما يُعرقل وصوله إلى النّور الحقيقيّ؛ شمس الرحمة والعدل. لذلك رفعه الله جدًّا وسيرفعه على مذابح الكنيسة قدّيسًا وشفيعًا للكنيسة والرّهبانيّة ولبنان والعمّال أجمعين.
بعض ما ورد في روزنامة الدير عن الأخ إسطفان نعمه
كتب الأب أنطونيوس نعمه رئيس الدير، بعد وفاته، ما يلي : "غادر هذه الفانية نهار الثلاثاء الساعة السابعة مساءً في الثلاثين من آب، الأخ اسطفان نعمه اللّحفدي. وكان أخًا عاملاً نشيطًا غيورًا على مصلحة الدير، قويّ البنية، صحيح الجسم، مسالمًا، بعيدًا عن الخصومات، قنوعًا، فطنًا بالأعمال اليدويّة، محافظًا على واجباته ونذوراته، قائمًا بما عُهد إليه حقَّ القيام".