أَللَّهمَّ بِاْسمِكَ خَلِّصْني و بِجَبَروتكَ أَنصِفْني . (مز 54 /3)
في الدينونة الرهيبة والعذاب الدائم / للقديس أفرام السرياني
في الدينونة الرهيبة والعذاب الدائم
للقديس أفرام السرياني
أيها الإخوة الأحباء بالمسيح- إنّ سليمَان الحكيم قال: “باطلة هي الأباطيل كل شيء باطل” (جامعة 1: 2) والملك داود رنَّم: “إنما يسلك الإنسان في الظل باطلاً يعجون” (مز 38: 7) حقاً ان الذين يحبّون الأشياء الباطلة يعجون والذين يحرصون على المال وغيره سرعان ما يزولون ولا يقدرون أن يأخذوا معهم شيئاً من حطام الدنيا، ولذلك لا يرتاحون. سنترك كل شيء هنا ونذهب عراة كما خلقنا، سنذهب إلى الأبدية، إلى أمام الديّان الرهيب، سننتقل إلى الحياة الآتية، عُراة بكآبة قلب، وبانسحاق النفس، وبرعدة وخوف، وبالتنهّدات العميقة، نقف أمام المحكمة المخيفة حيث لا محاباة، ولا استرحام ولا شفاعة ولا دفاع، حيث يتحتّم على كل منا أن يؤدّي الحساب عن أعماله وأقواله وأفكاره.
حقاً! أيها الإخوة سيكون خوف ورهبة لم يسبق مثيلهما منذ بدء العالم. القوات والسارافيم والشاروبيم وكل ما في السماوات وما تحتها يظهر. وكل من على الأرض ومن فيها يهتزّ ويرتجف. القبور تنفتح والأموات تنهض، والأحياء تنتصب. وإذا كان في الله دانيال قد ارتعد خوفاً لما رأى الدينونة الآتية فماذا يحدث لنا نحن، عندما نقف جميعاً للدينونة الرهيبة من شروق الشمس إلى غروبها مثقلين بخطايانا؟ أين الأصدقاء والأقرباء حينئذٍ؟ أين الذخائر الغالية الثمن؟ أين أولئك الذين ازدروا الفقراء وطردوا الأيتام والبؤساء ونسبوا كل حسنة لنفوسهم مدّعين أنهم المتّقون المفضّلون؟ أين أولئك الذين لم يكن خوف الله في قلوبهم ولم يؤمنوا بالعذاب الآتي ووعدوا أنفسهم بالخلود على الأرض؟ أين أولئك القائلون: “لنأكل ونشرب فإناً غداً نموت” (أشعيا 22: 13) لنلتذّ بخيرات هذه الحياة ونشاهد ماذا يكون بعد؟ إن الله رحيم فهل يسامح الخطأة؟ إن الذين يُدانون يُطردون من المحكمة العادلة ويُساقون إلى محل العذاب حيث البكاء وصرير الأسنان فيلتفتون إلى الوراء ليروا الصديقين المفصولين عنهم فيبصرون نوراً سماوياً لا يوصف وجمال الفردوس والهبات العظيمة التي نالوها من ملك المجد مقابل جهادهم في أعمال البر. ثم يبتعد الخطأة، رويداً رويداً، عن الجميع، عن الأبرار، عن الأقارب، عن الأصحاب والمعارف، حتى يتواروا عن الله تعالى فاقدين كل إمكان وأمل بأن يروا السعادة والنور الحقيقي غير المسائي.
حينئذٍ يرون أنهم تركوا نهائياً، وأن كل أمل لهم قد هلك، فلا أحد يقدر أن ينفعهم، أو يشفع بهم فيبكون بمرارة ويقولون: آه! كم من الزمن أضعناه بالتهامل! وكم خدعنا قلبنا الأعمى! إن الله كلَّمنا بالكتاب المقدّس فلم نسمع له. لذلك نصرخ الآن وهو يحوِّل وجهه عنا. فنحن الذين قُدنا نفوسنا إلى هذه التعاسة لأننا عرفنا هذا ولم نسمع، وأُنذِرنا ولم نرتدع، ووُعِظنا ولم نهتدِ، وأُسمِعنا كلام الله ولم نصدّق. فما أعدل حكم السيّد. إننا نُدان الآن بحق وعدل. اننا نُكافأ حسب أعمالنا. اننا نقاسي العذاب عن الملذّات الوقتية، ونُدان عن الإهمال بالنار التي لا تُطفأ، حُرمنا من المجد الحقيقي لأجل اهتمامنا بالمجد الباطل، وحُرمنا من مسرات الفردوس إلى الأبد لاندفاعنا وراء الملاهي الوقتية. وحُرمنا من الفخر الدائم من أجل الغنى الزائل فلا سبيل لنا إلى المعونة. لقد تركَنا الجميع: الله والقديسون، وفات وقت التوبة، ولا منفعة بعد من الدموع.
أنصرخ خلِّصونا أيها الأبرار! خلِّصونا أيها الرسل، أيها الأنبياء، أيها الشهداء! خلصنا أيها الصليب الطاهر المحيي “خلصينا أيتها السيّدة والدة الإله! يا أُم الله المحب البشر! نصرخ، ولكن لا أحد يسمعنا. وإذا سمع فلا منفعة لنا، لأن كل شفاعة قد انتهت. ولذلك يوجّه الخطأة إلى جهنم حيث “النار الدائمة وحيث الدود الذي لا يموت” (مرقس 9: 43).
تمرُّ الأجيال وكل ساعة هناك كأنها جيل. وصوت الله الحق يدوي فوق سكان جهنم- انني لم أزل ساخطاً. تمرُّ الأجيال، والكلمات نفسها: -انني لم أزل ساخطاً- تطرق مسامع أولئك التعساء. ان أذهان الملائكة تعجز عن إحصاء الأجيال والمعذّبون ينسون متى كان بدء عذابهم. وسيبقى الصوت من لدن الحق مسموعاً: إني لا أزال ساخطاً!
ان الأنبياء والرسل القديسين تنبّأُوا عن يوم الدينونة الرهيب. والكتاب المقدّس، ما زال ينذر بيوم الدينونة وساعته في جميع أنحاء المسكونة، وفي جميع الهياكل، حتى تلين قلوب الجميع. “فتأملوا واسهروا وانتبهوا واعتدلوا وصلُّوا وتوبوا وكونوا على استعداد تام لأنكم لا تعلمون اليوم والساعة التي يأتي فيها ابن البشر” (متى 25: 13) واحترسوا لأنفسكم حتى لا تثقل قلوبكم في الخلاعة والسكر والهموم المعاشية فيقبل عليكم بغتة ذلك اليوم (توما 21: 34). ان القديس النبي والملك داود كان يذكر دائماً يوم الدينونة الرهيب فيبلّل مضجعه بالدموع كل ليلة مبتهلاً إلى الله وقائلاً: “ولا تأخذ عبدك إلى القضاء إن شئت أن تفعل هذا فانه لا يبرّر أمامك أحد من الأحياء” (مز 142: 2).
لنقبل نحن على هذا الجهاد قبل أن يأتي ذلك اليوم، لنهتم لنفوسنا حتى نقف في المحكمة الرهيبة في تلك الساعة الهائلة بدون دينونة. لنبادر إلى وجه ربنا بالاعتراف والصوم والصلاة والدموع! لنبادر قبل أن يأتي. ستفاجئنا بغتة ساعة الموت المحتومة التي يخافها الجميع والكل في انتظارها، وقلّمَا يفكّرون فيها. ان تلك الدقيقة التي تفارق فيها النفس الجسد لهائلة. وذلك اليوم رهيب جداً عندما يقف الكلام على الشفاه ويخرس اللسان. انه لمنظر يدعو إلى البكاء، عندما يحتضر الإنسان: نقلب الطرف وقتئذٍ فلا نعرف أصدقاءنا ولا اخوتنا، وإن عرفناهم فلا نستطيع أن نكلِّمهم. نرى حولنا الأولاد يشتكون، ونفارقهم بقلب ملؤه الحزن. لا يهمّنا في تلك الساعة لا أصحاب ولا أقارب. إن الخطايا تعذِّب ضميرنا والذي يقلقنا بنوع خاص كيفية ظهورنا أمام وجه الديّان العظيم كيف نتبرّر؟ وكيف نحصل على المسامحة، وإلى أين يكون مصيرنا؟
إذن! ألا نخدع نفوسنا لنؤمن بأنه توجد دينونة ويوجد قصاص دائم. توجد نار لا تُطفأ، ودود لا يموت، وظلام وجحيم، وصرير أسنان، وبكاء أبدي. فإن الله تعالى قال في إنجيله: “السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول” (متى 24: 35) لنُبعِد عنا الهلاك الأبدي، لنفطن لعدوّ نفوسنا، لنهتم بإصلاح ذواتنا قبل فوات الوقت، لنذرف دموع التوبة، لننهض من خمول الكسل، لنرفع أيدينا. ان من يقدر أن ينقذنا هو الرب فلنصرخ إليه من أعماق القلب، يا رب نجِّنا فقد هلكنا (متى 8: 25) لنسرع إليه قبل أن تغرب الشمس وقبل أن توصد أبواب رحمة السيّد، لِنَسِرْ بنشاط نحو جهادنا حتى لا نسمع ذلك الصوت الهائل “إني لا أعرفكن” (متى 25: 12) سوف يأتي الوقت، سوف يقترب اليوم الذي فيه نؤدّي الحساب عن كل حياتنا، وسرعان ما نفتش عن الوقت ولا نجده. لنمقت حياة الخطيئة. ولنذكر غالباً يوم الدينونة الحقّة، حتى نستحق أن نكون في مصفّ الملائكة بواسطة التوبة ولنمسك نفوسنا عن الأشياء غير المشروعة حتى لا نبكي بحرارة. لنتعب طوال الحياة حتى لا نعرِّض ذواتنا للعذاب الدائم، لنجاهد قليلاً حتى نتخلَّص من القصاص الأبدي!
احذروا أن يقول أحدكم خطيئتي عظيمة فلا عفوَ لي إنني قاتل والله لا يقبلني. إنني زانٍ والله لا يسمع لي: ألا يعلم من يقول هذا أن السيد قد “أتى على الأرض ليدعو الخطأة إلى التوبة وليس الصدّيقين” (لوقا 5: 32) احذروا أن يتجاسر أحد فيقول: أنا لم أُخطئ إن من يقول هذا أعمى لأنه ليس أحد سالماً من الرجس أو منزَّهاً عن الخطيئة إلا الله الصالح وحده. لذلك لا يجوز أن نبرّر أنفسنا أو نيأس من الخلاص إذا كنا نعترف بخطايانا. إذا خطئنا فلنتب، وإن تعدّدت الخطيئة فلتتعدَّد التوبة. إن الله يفرح بكل عمل مبرور وخاصة بالنفوس التائبة لأن من يأتيه بحمله الثقيل يتقبَّله بيديه ويدعوه قائلاً: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين والمُثقلين وأنا أُريحكم” (متى 11: 28) في الأخدار السماوية حيث يرتاح جميع أبراري. تعالوا إليَّ أيها المُثقلون، أسقطوا عنكم الخطايا وانبذوها لأنكم إذا التجأتم إليَّ فلا يبقى مثقل فيكم. اطرحوا كل عادة شريرة واتركوا الشرّ الذي سبّبه الشيطان وتعلّموا الصلاح مني.
إن المجوس لما أتوا أليَّ تركوا السحر وتعلَّموا معرفة الخالق. إن العشّارين تركوا عملهم وجعلوا منهم كنيسة. المضطهدون تركوا الاضطهاد وأرادوا أن يكونوا مضطهَدين. الزناة أبغضوا الزنى وأحبّوا العفاف. اللص ترك القتل وقبل الإيمان الحق وصار من سكان الفردوس. “تعالوا إليَّ لأن من يُقبل عليَّ لا أخرجه خارجاً” (يوحنا 6: 37) فمن رأى أباً محباً بهذا المقدار؟ من رأى طبيباً صالحاً مثلي؟ إذاً لا نتهاون أيها الأحباء بل لنتب ونصرخ إلى السيّد، خلِّصنا أيها السيّد، نحن الخطأة غير المستحقين لأجل اسمك المقدس، وافتح لنا أبواب رحمتك وأهِّلنا لمجدك وملكوتك السماوي فإنك أنت إله التائبين ورجاء الذين لا رجاء لهم. ولك نرسل المجد أيها الآب والإبن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين