القديس كيرلس الأورشليمي
” فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة” (1 بط 2: 1).
1. بمحبة الله وتحننه سمعتم ما فيه الكفاية بخصوص العماد والمسحة والشركة في جسد المسيح ودمه، والآن من الضروري أن ننتقل إلى ما يلي هذا في الترتيب، يعني أن تتوج البناء الروحي لثقافتك.
غسل اليدين وتطهيرنا من كل عمل خاطئ
2. إنك ترى الشماس (الدياكون) الذي يعطي الكاهن ليغتسل والكهنة الواقفين حول مذبح الله. أنه لا يعطيه الماء لأجل قذارة الجسد، لأننا لا ندخل الكنيسة بأجسام قذرة، لكن غسل اليدين يشير إلى ضرورة تطهيرنا من كل عملٍ خاطئٍ غير لائقٍ، لأن اليدين رمز الحركة، فبغسلهم يتضح أننا نقدم طهارة خلقنا غير الملوم.
ألم تسمع المطوّب يفتح هذا السرّ ويقول: “أغسل يدي بالنقاوة، وأطوف بمذبحك يا رب”، إذ يرمز غسل الأيدي إلى الحصانة من الخطية.
القبلة المقدسة
3. ثم يصرخ الشماس عاليًا قائلاً: “قبِّلوا بعضكم بعضًا“، ولنقبل بعضنا بعضًا. لا تظنوا أن هذه القبلة عامة، التي تقوم بين الأصدقاء، ليست هكذا. بل هذه القبلة تمزج النفوس ببعضها، وتحفظ لها غفرانًا عظيمًا. والقبلة علامة على أن نفوسنا قد اختلطت ببعضها، ومحت كل تذكر للأخطاء. لهذا قال السيد المسيح: “فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وتذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك” (مت 5: 23). فالقبلة صُلح ولهذا السبب هي مقدسة. وكما يقول المطوّب بولس: “سلِّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” (1 كو 16: 20). وأيضًا بطرس تحدث عن قبلة الإحسان (1 بط 3: 15).
ارفعوا قلوبكم
4. بعد هذا يصرخ الكاهن عاليًا: “ارفعوا قلوبكم“. لأنه حقًا يجب علينا في هذه الساعة المهيبة أن تُرفع قلوبنا في الأعالي مع الله، ولا نكون في الأسفل مفكرين في الأرض والأمور الأرضية. وبذلك يأمر الكاهن الكل في هذه الساعة أن يطردوا كل اهتمامات هذه الحياة، من جهة المنزل أو القلق في أي شيء، ويجعلوا قلوبهم في السماء مع الله الرحيم. حينئذ تجيبون “هي عند الرب“، موافقين عليها باعترافكم. لكن، ليمتنع أي واحد من الحضور هنا من يقول بفمه: “هي عند الرب”، بينما أفكارهم مشغولة باهتمامات هذه الحياة. فالأفضل أن يكون الله في فكرنا في كل وقت. لكن إن كان هذا مستحيلاً بسبب نقصنا البشري، ففي هذه الساعة فوق كل شيء يجب أن نراعي سلوكنا بهمة.
فلنشكر الرب
5. ثم يقول الكاهن “فلنشكر الرب“… فإننا حقًا ملزمون أن نقدم الشكر لأنه دعانا ونحن غير مستحقين لهذه النعمة العظيمة، إذ صالحنا عندما كنا أعداءه حتى تلطف لنا بروح التبني حينئذ نقول “مستحق وعادل“، لأننا عندما نقدم الشكر نصنع شيئًا باستحقاق وعدل. لأنه لم يعمل لنا الحق بل أكثر من الحق، إذ جعلنا مستحقين لهذه الفوائد العظيمة.
|
|
شركة تسبيح مع السمائيين
6. بعد هذا نذكر السماء والأرض والبحر، الشمس والقمر والنجوم وكل الخليقة، العاقل وغير العاقل، المنظور وغير المنظور، عن الملائكة ورؤساء الملائكة الفضائل، السيادات، الزعماء والقوات، العروش، الشاروبيم ذا الوجوه الكثيرة كأنه يعيد هذا النداء لداود: “عظموا الرب معي” (مز 37: 3). نذكر السيرافيم الذي رآه إشعياء بالروح القدس واقفًا حول عرش الله، وبجناحين يغطون وجوههم، وباثنين يغطون أرجلهم، ويطيرون باثنين، صارخين قائلين: “قدوس، قدوس، قدوس رب الصباؤوت” (إش 6: 2-3). إننا نردد هذا الاعتراف: الذي سُلم إلينا من السيرافيم حتى نكون مشاركين في الأعالي للقوات في ترنمهم بالتسبيح.
التحول بالروح القدس
7. وإذ قدسنا أنفسنا بهذه الترانيم الروحية، نطلب رحمة الرب، ليرسل روحه القدوس على الهبات الموضوعة أمامه، أن يجعل الخبز جسد المسيح والخمر دم المسيح. فكلما يلمسه الروح القدس يتقدس ويتغير بالتأكيد.
ابتهالات وطلبات
8. ثم بعد إتمام الذبيحة الروحية، تتم الخدمة غير الدموية. وخلال ذبيحة الكفارة هذه نلتمس الله السلام العام لجميع الكنائس لخير العالم. نطلب عن الملك والجند، والمربوطين والمرضى والمتضايقين. وبالاختصار نصلي عن كل من يحتاج إلى الخلاص ونقدم هذه الذبيحة.
صلاة المجمع وعن الراقدين
9. ثم نحتفل بذكرى الذين رقدوا قبلنا. أولاً البطاركة (الآباء) والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين لكي بصلواتهم وشفاعتهم يقبل الله التماساتنا. ثم نطلب الآباء القديسين والأساقفة الذين رقدوا قبلنا، وعن كل من رقدوا من المؤمنين لتكون فائدة عظيمة للنفوس التي نتوسل من أجلها، خلال هذه الذبيحة المقدسة والمهيبة موضوعة.
الصلاة عن الراقدين
10. وأرغب في إقناعكم في هذا الصدد. فإني أعلم أن كثيرين يقولون ماذا تنتفع نفس فارقت هذه الدنيا بذنوب أو بدون ذنوب، إذا ذُكرت في الصلوات؟ فإذا رغب ملك في إبعاد أشخاص ضايقوه فصاغ أهلهم تاجًا وقدموه له مراعاة لهؤلاء الذين تحت العقاب، ألاّ يمنح عفوًا لقصاصهم؟ فبنفس الطريقة عندما نرفع له توسلاتنا لمن رقدوا ولو كانوا مذنبين. نحن لا نصنع تاجًا: بل نرفع المسيح مقدمًا لذنوبنا، متوسلين لربنا الرحيم من أجلنا ومن أجل نفوسهم.
أبانا الذي في السماوات
11. ثم بعد هذه الأمور نقول هذه الصلاة التي سلمها المخلص لتلاميذه بضمير نقي، مخاطبين الله أبينا قائلين: “أبانا الذي في السماوات“. يا لعظمة محبة الله المترفقة التي جاوزت كل حد على الذين عصوه وكانوا في تعاسة قصوى، أنعم عليهم بهذا الغفران الكامل لأعمالهم الشريرة، ومشاركة النعم العظيمة حتى يستطيعوا أن يدعوه “أبانا”. والذين يحملون صورة السماوات، هم أيضًا سماوات حيث يسكن الله، ويمشي فيهم.
12. “ليتقدس اسمك”. اسم الله في طبيعته مقدس إن قلنا أم لم نقل. لكن حيث يُكفر به في بعض الأوقات بين الخطاة كما قيل: “لأن اسمي يُجدف عليه بسببكم بين الأمم” (رو 2: 24). فنصلي أن يتقدس اسم الله فينا. ليس لأنه يتقدس من كان ليس مقدسًا، لكن لأنه يصير مقدسًا فينا عندما نصير مقدسين ونعمل أعمالاً تليق بالقداسة.
|
|
13. “ليأت ملكوتك” تستطيع النفس النقية أن تقول بدالة: “ليأتِ ملكوتك”. لأن من سمع بولس يقول: “إذا لا تملكنّ الخطية في جسدكم المائت”، وطهر نفسه في الفعل والفكر والقول، يقول ليأت ملكوتك.
14. “لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض“. ملائكة الله المقدسون المباركون يصنعون مشيئة الله، كما قال داود: “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره” (مز 103: 24)، وعلى هذا نعني بالصلاة: “كما في الملائكة تكون مشيئتك، هكذا لتكن على الأرض فيّ يا رب”.
15. “خبزنا كفافنا، أعطينا اليوم” هذا الخبز البسيط ليس خبزًا ضروريًا، لكن هذا الخبز المقدس أساسي، معين لأساس النفس، “لأن هذا الخبز لا يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج” (مت 15: 17)، لكن يوزع على جهازك كله لفائدة النفس والجسد. ويعني بـ”اليوم” كما قال بولس “مادام يدعى اليوم”.
16. “واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” إذ لنا ذنوب كثيرة لأننا نسيء بالقول والفكر وأشياء كثيرة جدًا نعملها نستحق عليها القصاص. “فإن قلنا ليس لنا خطية، نضل أنفسنا، وليس الحق فينا” كما قال المطوّب يوحنا (1 يو 1: 8). فنصنع مع الله عهدًا نستعطفه، ليغفر لنا خطايانا كما نغفر نحن لإخواننا ذنوبهم، مترجين ذلك فيما نتقبله، مستبدلين به غفراننا للآخرين، فلا نهمل أو نتأخر في تسامح بعضنا بعضًا. فالإساءات التي تُرتكب ضدنا خفيفة وزهيدة وتنتهي بسرعة. لكن التي تُرتكب ضد الله عظيمة وتحتاج إلى رحمة كرحمته فقط. لذلك انتبه لئلا من أجل الذنوب الزهيدة الطفيفة، تمنع عن نفسك غفرانًا من الله لخطاياك المحزنة.
17. “ولا تدخلنا في تجربة”. هل هذا ما يعلمنا الرب أن نصلي لكي لا نُجرّب أبدًا؟ فكيف إذن يُقال في موضع آخر: “الرجل غير المُجرب، يعلم قليلاً” (سي 34: 10، رو 5: 3-4)، وأيضًا يقول يعقوب: “احسبوا كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2).
لكن هل يعني الوقوع في التجربة ألا يدع التجربة تغمرنا وتجرفنا؟ لأن التجربة كسيل الشتاء يصعب عبوره. لذا فهؤلاء الذين لا يغرقون فيها يمرّون مظهرين أنفسهم سبّاحين ممتازين، ولم يُجرفوا في تيارها أبدًا. بينما الآخرون يدخلون فيها ويغرقون. مثلاً دخل يهوذا الإسخريوطي في تجربة حب المال، فلم يَسبح فيها بل غَرق، وشُنق نفسه بالجسد والروح (مت 27: 5). وبطرس دخل في تجربة الإنكار، لكنه دخل ولم يُسحق بها. لكن كرجل سبح فيها ونجا منها. أنصت ثانية في موضع آخر إلى جماعة من القديسين لم يُصابوا بضررٍ يقدمون الشكر لنجاتهم من التجربة. جربتنا يا الله – جربتنا بالنار كتجربة الفضة – وضعتنا في الشبكة، وضعت عذابات على ظهورنا. جعلت الناس يركبون على رؤوسنا. “جزنا في النار والماء لكن أخرجتنا إلى موضع راحة” (مز 65: 10-12). فخروجهم إلى موضع راحة يعني نجاتهم من التجربة.
18. “لكن نجنا من الشرير“. إذا كان القول “لا تدخلنا في تجربة” يتضمن عدم الدخول في التجربة بالمرة، فالقول: “لكن نجنا من الشرير” فيعني أن نصلي لكي ننجو من الشرير عدونا إبليس. ثم بعد إتمام الصلاة تقول: “آمين” التي تعني “هكذا يكون”. تضع ختمك على ابتهالاتك في الصلاة ذات التعليم الإلهي.
القدسات للقديسين
19. بعد هذا يقول الكاهن: “القدسات للقديسين“. القرابين المقدمة على الهيكل هي مقدسة، بعد قبولها حلول الروح القدس عليها. كذلك أنتم قديسون لأنكم استحققتم الروح القدس.
لذلك فالأشياء المقدسة تتصل بالأشخاص المقدسين. حينئذ تقول: “واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس”. واحد هو القدوس، واحد هو الرب يسوع المسيح، لأنه حقًا بالطبيعة قدوس. ونحن أيضًا قديسون، ليس بالطبيعة، لكن بالشركة والتكريس والصلاة.
الدعوة للتناول
20. بعد هذا تسمع المرتل يدعوكم بلحنٍ مقدسٍ للتناول من الأسرار المقدسة قائلاً: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز 34: 8). لا تسلموا الحكم للفم الجسدي، بل للإيمان الذي لا يشك. لكن من يؤمروا أن يذوقوا لا يذوقون خبزًا وخمرًا بل جسد المسيح ودمه اللذين يمثلانه.
الحرص في التناول
21. لذلك في التقدم لا تأت برسغيك ممدودتين أو أصابعك منفردة، لكن اجعل يدك اليسرى عرشًا ليدك اليمنى، كأنك تستقبل ملكًا، وقد جوّفت راحة يدك لتقبل جسد المسيح قائلاً: آمين. وهكذا بعد أن قدست عينيك بعناية بلمس الجسد المقدس اشترك فيه منتبهًا لئلا يُفقد جزء منه…
اخبرني، إن أعطاك أحد حبوبًا من ذهب ألاّ تمسكها بكل عناية حارسًا لها من الضياع والخسارة؟ أليس بالأولى إذن أن ننتبه حتى لا يسقط فُتات مما هو أغلى من الذهب والحجارة الكريمة؟
الشركة في دم المسيح
22. ثم بعد أن تشترك في جسد المسيح، تقرب أيضًا إلى كأس دمه، ليس بمد يديك لكن بالانحناء بروح العبادة والإجلال قائلاً: “آمين”، مقدسًا نفسك بالمشاركة أيضًا في دم المسيح. وبينما تكون شفتاك مازالتا رطبتين ألمسهما بيديك، وقدس عينيك وجفنيك وأعضاء الحواس الأخرى. ثم انتظر نهاية الصلاة، وقدم الشكر للذي حسبك مستحقًا لهذه الأسرار العظيمة.
لا تحرموا نفوسكم عن هذه الأسرار المقدسة الروحية
23. تمسكوا بهذه التقاليد بلا دنس، واحفظوا نفوسكم من المعصية، لا تحرموا تنفصلوا عن الشركة، ولا تحرموا نفوسك بدنس خطاياكم عن هذه الأسرار المقدسة الروحية. “وإله السلام يقدسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1 تس 5: 23)، الذي له المجد والكرامة والقدرة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى الأبد[2]. آمين”.
|