فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد (يو 3 /17-18)
تعليم الموعوظين و طالبي العماد / القديس كيرلس الأورشليمي
القديس كيرلس الأورشليمي
ترفع الكنيسة أنظارها إلى عريسها ربنا يسوع لتراه علي الدوام باسطًا يديه ليضم إليه أحباءه كل بني البشر، تراه لا يكف عن مناداة الجميع ليلتقوا معه مهما كلفه الأمر.
هذا الموضوع هو سرور عريسها أن يجمع الكل في حضنه، “الأثمة والمتمرّدين، الفجار والخطاة، الدنسين والمستبيحين، قاتلي الآباء وقاتلي الأمهات، قاتلي الناس، الزناة… بعدما يقدسهم ويطهرهم ويهيئهم للحياة السمائية الملائكية.
هكذا أيضًا تتقدم الكنيسة، كهنتها وشعبها، رجالها ونساؤها، شيوخها وأطفالها، المتزوجون والبتوليون والأرامل. الكل يتقدم بروح عريسهم القدوس ممارسين عملهم، مقدمين له ثمار دمه المسفوك على عود الصليب، نفوسًا عرفته وآمنت به. لم تكن الكنيسة الأولى تعرف السلبية في العبادة، بل تتقدم كنورٍ حقيقيٍ أمام اليهود غير المؤمنين والوثنيين الأشرار، فتشهد لعريسها أمامهم بالحياة المقدسة والسلوك الطيب والقلب المنفتح للخطاة والفم المبارك للمضطهدين والصلاة الدائمة من أجل الكل والحديث عن الحق. هكذا يقول المغبوط أغسطينوس [ما بين اضطهادات العالم وتعزيات الله تتقدم الكنيسة في سعيها إلى الأمام.] وإنني أترك الحديث عن عمل الكنيسة الكرازي للعودة إليه في مجال آخر مكتفيًا الآن بالقول أنها لا تألو جهدًا عن أن تشرق تلقائيًا بنور المسيح وسط الظلمة فتبددها؛ وتعلن الحق فيموت الباطل، وتشهد للرب لتكسبهم أبناء له، فمتى تقبل إنسان هذا التعليم أو اشتاق إليه يُدعى موعوظًا حتى لحظة عماده فيُسمى ابنًا. ولما كانت مقالات الأنبا كيرلس الموجهة إلى طالبي العماد تُعتبر من أهم أعماله, لهذا رأيت ضرورة التحدث عن تعليم الموعوظين وطالبي العماد وعن طقوس العماد في الكنيسة الأولى أولاً: الموعوظون Catechumensالموعوظ الحقيقي هو من يتقبل التعليم المسيحي لا لمجرد الدراسة العلمية أو الفلسفية أو بغرض آخر سوى التعرف علي الحق وتقبله. حقًا إن كثيرين دخلوا بين صفوف الموعوظين خلسة, منهم من دخل إلى المسيحية معجبًا بها كفلسفة أو من أجل البلاغة، كما أعجب أغسطينوس بعظات القديس أمبروسيوس أسقف ميلان، فكان يحضر لا ليعيش في شركة مع الرب بل لمجرد الدراسة الفلسفية. ومنهم من دخل بنيّة شريرة، أو حبًا للاستطلاع، أو بقصد إرضاء الغير، كأن يريد أحد الوثنيين الزواج بفتاة مسيحية أو تريد فتاة وثنية التزوج بمسيحي هؤلاء يلزم على الراعي أن يفرزهم، فلا يحرمهم من الحضور للوعظ لكن لا يقبلهم في المسيحية ما لم يكن من أجل المسيح المصلوب. ليس هناك طريق آخر لقبولنا دخول أحد إلى المسيحية سوى قبوله الإيمان بالمسيح، وشوقه لحمل الصليب، والدخول من الباب الضيق للعبور إلى الأبدية. فالكنيسة لا تُسر بالعدد لأنها ليست حزبًا منافسًا، ولا تنخدع بالمظهر بل تطلب نفوسًا حيَّة مُحبة تود الاتحاد بالله والتمتع بالميراث الأبدي. والموعوظون في الكنيسة كانوا ينقسمون إلى أربع درجات حسب درجة تجاوبهم مع التعاليم وغيرتهم وشوقهم للشركة مع الله. |
أما عناصر الموعوظين فثلاث:
1. موعوظون من أصل يهودي: تُقدم لهم دراسات في نبوات العهد القديم وتحقيقها في شخص ربنا يسوع، وتكميل المسيحية للناموس الموسوي.
2. موعوظون من أصل وثني: تُقدم لهم دراسات تتناسب مع ثقافتهم ودراساتهم، فلا عجب إن رأينا معلمين تخصصوا في دراسة الفلسفات الوثنية ليجتذبوا الوثنيين إلى الحق.
3. موعوظون هم أطفال المسيحيين المؤمنين.
ويرى بنجهام أن أطفال المؤمنين إذ ينالون سرّ العماد في الطفولة ينضمون إلى صفوف الموعوظين حالما يستطيعون التعليم. غير أننا نجد في كتابات آباء الكنيسة الأولى، ومنهم القديس كيرلس الأورشليمي – كما سنرى – أن مهمة تعليم أطفال المؤمنين غالبًا ما توكل إلى الآب أو الأم أو شماس أو شماسة.
يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغي: [إن هذا الأمر افتكر فيه معلمونا الإلهيون ورأوه موافقًا أن يُقبل الأطفال على هذا الوجه الشريف، أعني أن يُسلم الوالدان الطبيعيّان ولدهما لمربٍ صالح، وأن يبقى الطفل فيما بعد تحت إدارته، كأنه تحت عناية أبٍ إلهيٍ وكفيلٍ لخلاصٍ مقدسٍ، فمتمم السرّ يرفعه وهو معترف إلى الحياة المقدسة، طالبًا جحد الشيطان والإقرار بالإيمان.]
ويقول المغبوط أغسطينوس: [إننا نؤمن ونصدق بتقوى وصواب أن إيمان الوالدين والأشابين يفيد الأطفال، وعلى هذا الإيمان يُعمدون.]
نعود مرة أخرى إلى الموعوظين لنقول إنهم غالبًا ما يبقون في رعاية الكنيسة لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، ينتقلون من فئةٍ إلى أخرى، حتى تطمئن الكنيسة على حسن نيتهم وتمسكهم بالإيمان وقبولهم للصليب، وعندئذ ينتقلون إلى آخر درجة من الموعوظين وهي: “طالبو العماد”. هذا الانتقال يختلف من شخص إلى آخر حسب غيرته ودراسته الفردية الخاصة قبلما ينضم إلى صفوف الموعوظين أو أثناءها.
ثانيًا: معلمو الموعوظين
إننا نعلم أن الكنيسة كلها منذ نشأتها كانت منطلقة للكرازة، مدركة قول الرب: “من لا يجمع فهو يفرق”. فالكل يشعر بمسئوليته نحو الشهادة للرب، إن لم يكن بالكلام فبالقدوة الحسنة… يعمل أعمال المسيح الحي. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن كل تلميذ للمسيح هو صخرة، وفية تكتمل الكنيسة الجاري بناؤها بيد الله.]
ويحمل القديس كيرلس الأورشليمي مسؤولية تعليم الموعوظين الأطفال أو الكبار على الآباء والأشابين، إذ يقول [إن كان لك ابن حسب الجسد أنصحه بهذا، وإن كنت قد ولدت أحدًا خلال التعليم، فتعهده برعايتك.]
إذن كل مؤمن حقيقي يلتزم أن يكون له نصيب في تعليم موعوظ أو موعوظين، بصورة أو أخرى، فماذا نقول عن الكاهن الذي يدعوه الذهبي الفم “أب كل البشرية”؟!
لقد سيم القديس غريغوريوس العجائبي أسقفًا على قيصرية الجديدة، وكان بها سبعة عشر مسيحيًا فقط، وحين تنيح بسلام لم يكن بها سوى سبعة عشرة وثنيًا.
على أي الأحوال لم يكن يُحرم كاهن ما من خدمة الموعوظين المنظمة في الكنيسة، بل يقوم كل منهم بنصيبه فيها. أما المرحلة الأخيرة للتعليم، فغالبًا ما كان يقوم بها الأسقف نفسه، أو كاهن يثق فيه من جهة قدرته التعليمية بالنسبة لهم.
غير أن التاريخ سجل لنا عن أناس تخصّصوا في تعليم الموعوظين، نذكر منهم على سبيل المثال أن البابا ديمتريوس سلّم العلامة أوريجينوس مدرسة الإسكندرية التعليمية وهو بعد في الثامنة عشر من عمره. وأيضًا كتب المغبوط أغسطينوس إلى الشماس ديوجرانيس بقرطاجنة الذي اتسم بمهارة عظيمة ونجاحٍ في تعليم الموعوظين.
ثالثًا: مادة الوعظ لهم
1. تُقَّدم دراسات خاصة بالذين كانوا من أصل يهودي تختلف عمن هم من أصل وثني، فيقدم لكل فئة ما يتناسب مع ثقافاتهم ودراستهم السابقة وأفكارهم.
2. تُقدم لهم دراسات تأملية لاهوتية مبسطة لأهم العقائد المسيحية، وقد رتبت هذه الدراسات بعد مجمع نيقية المسكوني في القرن الرابع، بصدور قانون الإيمان، الذي يُعتبر ملخصًا شاملاً، يقدم للموعوظين مع شرحه لكي يحفظوه ويفهموه.
ويظهر اهتمام الكنيسة بتسليم قانون الإيمان أن الأسقف بنفسه هو الذي يقوم بذلك إذ نجد الأسقف أمبروسيوس يكتب رسالة إلى أخته مرسيلينا قائلاً: [في اليوم التالي إذ كان يوم الرب، بعد الدروس والعظة - لما خرج الموعوظون- سلمت لطالبي العماد قانون الإيمان في معمودية الباسليكي.]
ويقول الأنبا يوحنا خلف كيرلس الأورشليمي في رسالته إلى جيروم: [إن العادة عندنا أن نسلم تعليم الثالوث القدوس بصورة عامة خلال الأربعين يومًا للذين سيتعمدون.]
كذلك يفتتح المغبوط أغسطينوس مقاله عن “قانون الإيمان” لطالبي العماد قائلاً: [استلموا يا أولادي دستور الإيمان الذي يُدعى قانون الإيمان، وإذ تتقبلونه اكتبوه في قلوبكم وردِّدوه يوميًا قبل النوم وقبل الخروج، سلِّحوا أنفسكم بقانون إيمانكم. قانون لا يكتبه الإنسان لكي يقرأه، بل كي يردده، حتى لا ينسى ما تسلمه بعناية. سجلوه في ذاكرتم...]
3. بعد قانون الإيمان يقومون بشرح الصلاة الربانية، وكما يقول المغبوط أغسطينوس: [بعدما نعرف من نؤمن به نصلي إليه. إذ كيف نصلي لمن لا نعرفه ولا نؤمن به؟!]
4. في الفترة الأخيرة يقوم المعلمون بتحفيظهم بعض التلاوات، أي صلوات قصيرة.
5. وفي الأيام القليلة قبل العماد أو بعده مباشرة تقدم لهم مائدة دسمة عن شرح ترتيب العماد ومفاهيمه، وسرّ المسحة وفاعليتها، وسرَ التناول وبركاته… الأمور التي لا تجيز الكنيسة الحديث عنها مع المبتدئين.
وأخيرًا يمكننا تقسيم جميع التعاليم السابقة إلى قسمين رئيسيين هما:
1. دراسات بسيطة تقدم المبادئ الأولية للإيمان المسيحي.
2. دراسات أعمق تقدم شرحًا لأسرار الكنيسة.
يظهر هذا التقسيم بوضوح في مقالات القديس كيرلس، كما تظهر أيضًا في “تعاليم الاثنى عشر رسولاً”، التي ذكرها البابا أثناسيوس الرسولي أنها ليست من الكتب المقدسة لكن الآباء أشادوا بقراءتها للداخلين إلى الإيمان حديثًا.
هذه التعاليم موجهة على وجه الخصوص إلى الذين هم من أصل وثني حتى دعيت “تعاليم الرب للأمميين خلال الاثني عشر”، وهي تنقسم إلى قسمين:
1. الفصول الست الأولى: تحمل تعاليم أولية للأمميين.
2. بقية الفصول تشرح ترتيب العماد الصلاة والصوم وخدمة يوم الرب وتقديس سرّ الإفخارستيا…
هذا وإننا نختتم حديثنا عن تعليم الموعوظين بالقول: خصصت الكنيسة الجزء الأول من القداس الإلهي للموعوظين، يحمل قراءات ووعظ يحضرها المؤمنون والموعوظون ليتعرفوا عل الحق. ولكن قبل البدء في قداس المؤمنين يصرخ الشماسمناديًا بخروج الموعوظين، وتغلق الأبواب، ويقوم الشمامسة بحراستها حتى ينتهي القداس الإلهي!
[1] راجع 1 تي 1: 9.
[2] الكنيسة الكارزة لأيريس المصري، أخذًا عن
G. Foster; Why Thy Church P.46.
[3] راجع كتاب الحب الأخوي، 4 الحب الجامع أو دور الشعب كنسيًا.
[4] استعنت بما جاء في مجموعة آباء نيقية مجموعة 2مجلد 7.
[5] راجع المقال الافتتاحي.
[6] عرفت الكنيسة الأولى عماد أطفال المؤمنين على مسئولية وتحت رعاية أولادها ويظهر ذلك من أقوال الآباء الأولين نذكر منهم: يقول القديس إيريناؤس تلميذ بوليكاربوس تلميذ يوحنا الحبيب، من رجال القرن الثاني [أن يسوع المسيح قد أتى ليخلص الجميع بذاته، أعنى جميع الذين ولدوا به ثانية سواء كانوا أطفالاً أو شبابًا أو شيوخًا.] ضد الهرطقات 2: 9: 22.
يقول الشهيد كبريانوس من رجال القرن الثالث [الأطفال الذين ضميرهم غير متفتح ولم يخطئوا في شيءٍ، والذين نظرًا للخطيئة الجدية الكامنة فيهم تدنسوا بها وصاروا مشاركي الموت الآدمي، يحتاجون هم أيضًا إلى المعمودية لأنها شرط لنوال الخلاص والصفح... فالمعمودية للجميع وخصوصًا للأطفال الصغار.] رسالة 59.
[7] “إشبين” كلمة سريانية الأصل، معناها “حارس أو وصى”.
[8] من رجال القرنين الثاني والثالث (158- 254 ) تفسير رو 5: 9، مقال 14، مقال 8.
[9] انعقد في قرطاجنة، وهي الآن خربة، من أطلالها وعلى بعد 12 ميلاً بنيت مدينة تونس الحالية. انعقد المجمع في زمن الإمبراطورين هونوريوس وثيؤدوسيوس الصغير، عام 418/419 من أكثر من مائتي أسقف، برئاسة أوريليوس وقد حضره المغبوط أغسطينوس أسقف هيبو، واستمر انعقاده ست سنوات كاملة، حيث اختتم أعماله سنة 424م. وأصدر 140 قانونًا هامًا من بينها القانون 121. “يسر المجمع أن يأمر بأن كل من ينكر أن الأطفال المولودين حديثًا من أرحام أمهاتهم يحتاجون إلى المعمودية، أو يزعم أنهم يعتمدون لمغفرة الخطايا لكنهم لم يرثوا من آدم الخطيئة الأصلية التي تضطرهم لأن يتطهروا منها في جرن الولادة الثانية، مما يترتب عليه أن تصير عبارة “لمغفرة الخطايا” المستخدمة في المعمودية، تستعمل بالنسبة لهؤلاء الأطفال لا بمعنى حقيقي بل بمعنى وهمي، فليكن محرومًا”. فإن عبارة الرسول: “بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو 5: 12) يجب ألا تفهم بفهم آخر إلا كما فهمتها دائمًا الكنيسة الجامعة المنتشرة والممتدة في كل مكان. وبناء على قاعدة الإيمان هذه، فحتى الأطفال الذين لم يستطيعوا بذواتهم أن يرتكبوا أية خطيئة من الخطايا تجعلهم مذنبين بها، يعتمدون حقًا لمغفرة الخطايا، حتى تتطهر فيهم بواسطة الولادة الثانية كل خطيئة ورثوها عن طريق الولادة الأولى. راجع سرّ المعمودية لنيافة أنبا غريغوريوس، كتاب The Rudder, D Cummings (1957 ) P. 688، كتاب الأنوار في الأسرار لجراسيموس مسرة بيروت 1888 ص 48، 49.
[10] Greg. Nez : On The Holy Baptism 16 &17.
[11] سرّ المعمودية لنيافة أنبا غريغوريوس، ص 53.
[12] Bingham: The Antiquities of Christian Church 10: 154.
[13] تلميذ الرسول بولس: الكهنوت 7: 11.
[14] G. Foster ; Why The Church? p 22.
[15] مقال 15: 18.
[16] من رجال القرن الثالث عرف المسيحية على يدي أوريجينوس (موجز تاريخ المسيحية ليسطس الدويرى –الأنبا ديسقورس – ص 142، 143، الكنيسة الكارزة لإيريس المصري، ص 11).
[17] يوسابيوس: التاريخ الكنسي 6: 3.
[18] أمبروسيوس: رسالة 20.
[19] Hieron Ep. 61.
[20] أغسطينوس: قانون الإيمان (تحت الطبع).
[21] أغسطينوس: الصلاة الربانية.
[22] تسمى الديداكية Didache أو تعليم الرسل