لا يزدرى نبي إلا في وطنه و أقاربه و بيته (مر 6 /4)
صعود الرّبّ وهبوط الألسنة - المونسنيور ميشال فريفر
صعود الرّبّ وهبوط الألسنة
مرقس 16: 15 ? 20 ؛ يوحنا 14: 15 ? 21
رسل 1: 1 ? 14 ؛ رسل 2: 1 ? 13
افتتح لنا المسيح بصعوده إلى السماء الخلق الأبدي الجديد الذي لم تره عين بعد. دخل هذا الخلق في أذهان وضمير وإيمان الرسل يوم العنصرة. أما نحن فقد اختبرناه جميعاً في معموديتنا بالماء والروح وباسم القائم من الموت يسوع المسيح (روم 6؛ أف 1: 13، 4: 17 ? 30) ، معطي هذا الروح الذي ناله من الآب السماوي (يوحنا 15: 7).
أحدث هذا الخلق بفعل المسيح القائم والصاعد بالمجد إلى السماء تغييراً في الطبيعة الخاضعة للزمان والمكان، المحكومة بالموت. من هنا ، فإنه من حق كنيسة الأرض الملتزمة، المجاهدة، المصليّة أن ترى ذاتها مخلَّصة، صاعدة إلى السماء في رحلة مع الابن نحو الآب. والرّبّ يسوع حفاظاً منه على مسيرة هذه الكنيسة معه نحو الآب ، طالبها بالصلاة والتوبة مؤكداً لها أن كل ما تطلبه باسمه وبالصلاة يعطى لها. ألم يقل: "... كل ما تسألون أبي باسمي يعطيكم" (يوحنا 16: 23). فبالصلاة وقبول البشرى السارة، والإيمان، والعماد المقدس، والنعمة، يُخَلَّص العالم ويصعد إلى السماء فيكون فرحه كاملاً (يوحنا 16: 24).
يُدْخلنا الإيمان في سرِّ موت المسيح وقيامته، ويمنحنا نعمة استحقاق الصعود والجلوس عن يمين الله. وهكذا، فالكنيسة مُلزَمَةٌ أن تضع البشريِّة جمعاء على طريق ابن الله، طريق السماء الذي يعرفه وحده دون سواه، لأنه من السماء أتى متجسداً وإليها صعد ممجداً. ألم يقل: " . . . إني ذاهب لأعد لكم مكاناً" (يوحنا 14: 2)، "... لا يمضي أحد إلى الآب إلاّ بي" (يوحنا 14: 6)، "أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء ..." (يوحنا 6: 51)، "أنتم من أسفل وأنا من عَلُ . أنت من هذا العالم وأنا لست من العالم هذا" (يوحنا 8: 23)، "... إنه خير لكم أن أذهب ..." (يوحنا 16: 7) .
عاد الابن الإلهي إلى الآب السماوي فاكتمل مجده الذي بدأ لحظة تنفيذه المخطط الخلاصي بالطاعة الكاملة عبر التبشير والألم والموت على الصليب والقيامة وصولاً إلى الصعود والجلوس عن يمين الآب الذي أرسله. وقد عاش واقع هذا المجد قبل أن يتحقق بقوله: " الآن تمجَّد ابن الإنسان ..." (يوحنا 13: 31) متوجهاً إلى أبيه السماوي بالقول: "... مجِّدني أنتَ لديك، بذاك المجد الذي كان لي لديك قبل أن يكون العالم" (يوحنا 17: 5). لقد مجَّده الآب كما تمجد الآب به. مجّده أولاً بتحويله الماء خمراً (يوحنا 2: 11)، وثانياً بما تمّم من آيات نخص بالذكر منها إقامة لعازر من الموت (يوحنا 11). ولنا قول مأثور للقديس بولس في رسالته إلى أهل فيلبي وفيها يقول: "... أفرغ ذاته، واتخذ صورة عبد ... لكي يعترف كل إنسان أن يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله أبيه " (فيلبي 2: 6 ? 11).
إن المجد الذي مُجِّد به يسوع وتَمَجَّد به الآب، دفع بالعزة الإلهية إلى سكب كامل نعمتها على من سيحملون البُشرى السارة للبشرية جمعاء عملاً بقوله: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم ..." (متى 28: 19). وقد تصفّى هذا الحب الإلهي لحظة صلاة الرسل وهم مجتمعين، معزولين عن العالم، والعالم معزول عنهم، والصوت السماوي يُدَوِّي كريح شديدة ، وألسنة النار تهبط من السماء مستقرة على كل واحد منهم، والريح والنار هما من علامات حضور الله وفعله الذي ظهر في شخص الرسل فملأهم فرداً فرداً من الروح القدس ، والروح يحيي ويكمِّل، ويعطي الكنيسة أن تتكلم. والكنيسة قالت وتقول كلمتها. ويا للأسف ، من يسمع؟ والرد على هذا، نختصره بما أورده القديس يوحنا في إنجيله مستشهداً بأشعيا بالقول: " أعمى عيونهم وقسّى قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيَهم" (يوحنا 12: 40؛ متى 13: 15).
أما الألسن فهي مرتبطة بالله، بلغته الإلهية، لغة التحدُّث بالعظائم والعجائب والآيات، لغة عبَّر عنها الرسل منشدين بعمل الروح دون أن تكون للآخرين إمكانية فهمها . وقد شهد القديس بولس في رسالته إلى أهل قورنتس أنه يملك هذه الموهبة (1 قور 14: 18). وهكذا، فإن ألسنة الرسل ولغاتهم إلتقت في العنصرة مع بعضها البعض بقوة الروح القدس الذي وحده القادر أن يعطي كامل الفهم والوعي والحكمة والمعرفة للمؤمنين به.
نال الرسل بصعود الرّبّ إلى السماء وهبوط الألسنة عليهم، قوة الروح وسلطان السماء ومجد الملكوت، فتمكّنوا من أن يكونوا رسلاً لا يهابون الموت حباً بمعلمهم وربِّهم يسوع المسيح. هؤلاء الذين مجّدوا الله بألسنتهم وإيمانهم، مجّدهم الله بالسلطان المعطى لهم، فغدوا في عالم الأرض شهوداً لعالم السماء.
بدّلت قوة الروح فكرهم، فغدا فكر السماء على الأرض. بشَّروا به، عانوا من أجله ودفعوا الثمن غالياً. وها بولس الرسول يشهد مفتخراً بالقول: "أما نحن فعندنا فكر المسيح" (1 قور 2: 16). هذا الفكر الخلاصي حرّرهم من قيودهم الضيِّقة وعالمهم المحدود ومكَّنهم من العيش في سماء ربهم الذي اصطفاهم ونقّاهم وثبّتهم وقدّسهم.
عاش الرسل حالة "التكلم بالألسنة" ، فأدهشوا مِنْ حولهم عارفيهم وسامعيهم، وأيقظوا بصيرتهم فأدركوا أنَّ مَنْ استقرت عليهم الألسنة هم من الأرض وليسوا لها، ولن يكونوا منها بعد اليوم. ثبّت أبناء الروح هؤلاء، عالم الملكوت في عالم الأرض بقوة وسلطان ، فغفروا وأمسكوا خطايا، شفوا مرضى وأقاموا موتى، زارعين في النفوس كلمة الحياة بدلاً من الخطيئة والموت. هؤلاء هم الرسل الذين استقرت عليهم الألسنة وأصعدهم الله إلى ملكوته.
وبعد، نتساءل بأيّة ألسنةٍ تتكلم إنسانية اليوم ؟ هل تتكلم بألسنتها المتحركة عبر النهار والليل ضمن حراكٍ مساحاته محدودة ومؤقتة؟ أم أنها تتكلم بالألسنة ذاتها فتهدي من حولها النفوس؟
يدل الواقع المنظور أن إنسانية اليوم تعيش بأغلبيتها عالم الخطيئة معتبرة إياه جزءاً لا يتجزأ من مسيرة حياتها على الأرض. والأخطر، لم تعد تشعر أنها خاطئة، لم تعد تنظر وتحكم وتعمل كما أنها لم تعد تمتلك الحس الكنسي. تتكلم هذه الإنسانية عن حضارة الموت والدمار الشامل ظنّاً منها أنها تبني العالم الجديد، المتحضِّر، الحرّ غير الخاضع لقيود. تتلكم متناسية حضارة المحبة، ألسنة النار والنور والحق والحياة والقيامة والصعود، والشوق للجلوس عن يمين الله لتشرب معه الخمرة الجديدة في الملكوت. تتكلم هذه البشرية التعسة متناسية واقع بعدها عن الله، غير واعية أنه بات عليها أن تعيش كلمة الخلاص لتحيا وتخلص.
واليوم، ككل يوم ، تدعو الكنيسة العالم ليعي مسؤولياته الزمنية والروحية من أجل بنيان ذاته من خلال مخطط الله الخلاصي، بنية بلوغ ملء قامة المسيح. عندئذ، سيفرح العالم وسيفهم معنى صعود الرّبّ إلى السماء ونعمة هبوط الألسنة على من كان منه ومثله. سيبتهج العالم لنقاء روحه وتنقية عالمه القديم ، عالم العين بالعين والسن بالسن، مقاوماً عالم الشر بالخير والرحمة والمحبة وروح السلام. سيشعر العالم أنه ملح الأرض ونور السماء. سيفرح ويهلل لأن أجره سيكون عظيماً في السماء.
هلمّ أيها العالم، استيقظ من نومك وبعدك عن الله، فألسنة العنصرة تدعوك باسم الرّبّ يسوع مخلصك وفاديك، لتعيش رسالة الإنجيل بعد حلول الروح القدس الذي أشعرك أن ألسنة السماء تبلبل ألسنة الأرض وتبنيها، تعطيها معناها الحقيقي، تجمّلها وتقدّسها. أما روح السماء فيجدّد روح الأرض ويجعل من ألسنة أبنائها ألسنة تمجيد لقدسيّة الله، فيتحقق فرح أبناء الملكوت في الأرض كلها ويصعد الجميع مع ربِّهم الذي لا يأتي أحد إلى الآب إلا به، ويسكنون المنازل السماوية الكثيرة في حالة مجدٍ ما بعده مجد.
وفي الختام، يمكننا القول أن خجل الكنيسة من بعض المسيحيين ينحصر بنوع خاص بتفضيلهم مجد الناس على مجد الله خوفاً من إقدام الفريسيين المتمسكين بحبهم الأعمى للسلطة والمال على طردهم خارج مجامعهم التي يهيمن عليها روح المصالح والأنانيات. هؤلاء، يبيعون ضمائرهم من أجل الحصول على فضة لا وجود لها في ملكوت الله. ونحن، إن أردنا الخلاص لا بد لنا من أن نؤمن بعمل الروح القدس المرتبط جوهرياً بعمل الآب والابن مشاركين الرّبّ يسوع في مجده، فهو القادر أن يشركنا في الحياة الأبدية، وقد صلّى كي نكون واحداً كما هو والآب واحد (يوحنا 17). آمين.
كاتدرائية مار أنطونيوس المارونية دمشق.
المونسنيور ميشال فريفر