فَرِّحْ نَفْسَ عَبدِكَ فإِلَيكَ أيّها السَّيِّدُ رَفَعتُ نفْسي (مز 86 /4)
انتقال والدة الإله - المطران ايليا كرم للروم الأرثوذكس
"نعظمك يا أم المسيح المنزهة عن كل عيب، ونمجد انتقالك المجيد"
مريم العذراء الكلية القداسة لم تقف عن الصلاة من أجل انتقالها إلى المسكن السماوية لتتنعم بمرأى وجه ابنها وإلهها فراحت تستعطف ابنها لنقاها إلى السماء، وكانت تصلي باستمرار على جبل الزيتون في المكان الذي كان ابنها الرب يسوع يصلي فيه.
وبينما هي تصلي في أحد الأيام ظهر لها رئيس الملائكة غفرائيل وبشرها بموعد انتقالها بعد ثلاثة أيام، وأعطاها غصن شجرة نخل فردوسية وقال لها:
"إن هذا الغصن الساطع بضياء النعمة السماوية ينبغي أن يوضع أمام قبر العذراء الفائقة القداسة في يوم دفن جسدها الطاهر".
فقبلته العذراء بفرح عظيم وشكرت الرب ساجدة أمامه واستعطفته بتواضع شديد لكي لا يرى رؤساء الظلمة والجحيم روحها في ساعة خروجها بل ليتقبلها الرب نفسه في يديه الإلهيتين وسألته أن تُعطى أن ترى الرسل القديسين المتفرقين في جميع أنحاء المسكونة قبل تسليمها الروح.
فتهيأت مريم لمغادرتها هذا العالم الأرضي إلى العالم السماوي، وأخبرت القديس يوحنا وأرته الغصن الفردوسي وطلبت منه بتهيئة الشموع والبخور وبكل ما هو ضروري للدفن.
وبعد أن عهدت برغائبها إلى الرسولين يوحنا ويعقوب ابن خطيبها يوسف ارتفع فجأة ضجيج كالعاصفة ورأى الجميع السحب المنيرة تحيط بالبيت، فحقق الرب رغبة أمه الفائقة القداسة لأن الرسل القديسين خُطفوا بقدرة إلهية من جميع جهات العالم وحُملوا على السحب إلى البيت الذي تقيم فيه فالتقوا الرسل عند باب البيت وفرحوا وتحيروا متسائلين عن سبب هذه الأعجوبة الحادثة لهم، فلاقاهم القديس يوحنا اللاهوتي وأخبرهم بخبر انتقال مريم أم الرب إلى الأخدار السماوية فتملكهم حزن عميق لفراقها، كما حضر القديس بولس الرسول ومعه تلاميذه ديونيسيوس الأريوباغي وأياروثاوس وتيموثاوس وغيرهم من السبعين رسولاً.
وفي اليوم الثالث وفي الساعة الثالثة من النهار أُشعلت الشموع وأحاط الرسل بسرير مريم، وفيما هي تصلي منتظرة نهايتها إذا بحجاب البيت قد انفتح وأنار ضياء المجد الإلهي جميع الحاضرين فخافوا جميعهم وظهر ملك المجد نفسه الرب يسوع المسيح الإله تحيط به صافات القوات السماوية ونفوس الصديقين، وظهر لأمه الفائقة القداسة التي فرحت بمرآه وقالت له:
"تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع أمته" . (لوقا 1 : 46-47)
ونهضت عن سريرها وسجدت لربها وسمعت منه الدعوة الإلهية :
"هلمي يا أمي، هلمي يا حبيبتي فادخلي مسكن الحياة الأبدية".
فأعادت مريم صلاتها وقالت:
"اقبل روحي بسلام وصنّي عن الجهة المظلمة".
فهدّأ الرب من روعها وأخبرها بأن قوات الجحيم قد ديست بقدميها الطاهرتين، فهمّت للانتقال إلى السماء وصرخت قائلة:
"يا الله..إن قلبي لمستعد..فليكن لي حسب قولك".
وعادت إلى سريرها وأسلمت روحها بين يدي ابنها، حينئذ دوى النشيد الملائكي وسمعت الكلمات تقول:
"افرحي يا منعما" عليها الرب معك مباركة أنت في النساء".
ونقلت روحها الطاهرة إلى الأخدار السماوية بيدي الرب وصحبة القوات السماوية، ولما صعد الرب بروحها إلى السماء قبّل الرسل والمؤمنون جسدها الطاهر بخوف ورعدة، وشفي جميع المرضى الذين لمسوه، والعميان أبصروا، والصم سمعوا، والعرج مشوا، والشياطين طُردت.
وشرع الرسل القديسون في دفن جسدها الطاهر وبكوا خسارتهم العظيمة على الأرض بعد الرب يسوع وتعزوا بالإيمان بأنهم نالوا في السماء شفيعة ومصلية لهم عند الله .
وحمل بطرس وبولس ويعقوب والرسل الآخرون جسدها الطاهر على أكتافهم وتقدمهم يوحنا اللاهوتي وهو يحمل الغصن الفردوسي الزاهر، والناس يحملون الشموع والمباخر وهم متجهين من صهيون مارين بأورشليم إلى قرية الجسمانية ومرنمين المزامير أمام نعشها الطاهر، ورافقت الموكب سحابة ناصعة النور كإكليل فوق جسدها وجميع المشيعين، وفي السماء انتشر الترنيم السماويين العجيب.
فسمع أعداء الرب يسوع خبر الموكب الجنائزي فأرسلوا بعض المؤيدين لهم من الشباب الطائش وزودوهم بالسلاح وحرضوهم على الهجوم على الموكب لقتل الرسل وإحراق جسد مريم الكلية الطهارة، إلا أن الإكليل السماوي كان يحجب الموكب عن الناس كالحائط، فكان المهاجمون يسمعون الترانيم ووقع أقدام المشيعين إلا أنهم لم يروا شيئاً.
وتميز على الخصوص بالحقد على المسيحيين أحد كهنة اليهود المدعو أثناسيوس إذ جدف على سرير والدة الإله وعلى ابنها الرب يسوع، وهاج الشر والحقد في صدره فاندفع بشراسة إلى السرير وأراد أن يرمي الجثمان الطاهر على الأرض وما كادت يداه تمسان النعش حتى بتر ملاك الرب كلتا يديه بسيف الغضب الإلهي، فتدلت يداه المقطوعتان على السرير وسقط على الأرض في عويل مرعب، وشعر بخطيئته العظيمة وطلب من الرسل قائلاً:
"ارحموني يا عباد المسيح".
فأوقف بطرس الرسول الموكب وقال له:
"نحن لا نستطيع أن نشفيك..لكن ذاك الذي صلبتموه أنتم هو القادر وحده على كل شيء أعني ربنا يسوع المسيح، إلا أنه لا يمنحك الإبراء حتى تؤمن به من كل قلبك وتعترف بفمك بأن يسوع هو الحقيقة ماسيّا ابن الله".
حينئذ صرخ أثناسيوس وقال :
"أؤمن بأن المسيح هو ماسيّا الموعود به مخلص العالم".
فابتهج الرسل والمؤمنون جميعا" بخلاص النفس الهالكة، وأمر بطرس الرسول أثناسيوس بأن يطبّق ما تبقى من يديه المتدليتين ويدعو باسم والدة الإله ويطلب المغفرة منها عن إلحاقه الإساءة بها، وما أتم أثناسيوس ما أمره به بطرس الرسول حتى التحمت كلتا يديه في الحال وتعافتا ولم يبقَ عليهما إلا خط أحمر اللون كالخيط حول المرفقين للدلالة على القطع، فسجد أثناسيوس أمام سرير والدة الإله وآمن بالرب يسوع.
ولما انتهى الموكب إلى الجسمانية أبتدأ تقبيل الوداع للجثمان الفائق الطهارة بالدموع والنحيب حتى لم يتسنى للرسل القديسين أن يودعوه ويسدوا باب المغارة بحجر كبير إلا عند المساء، وأقام الرسل في تلك القرية ثلاثة أيام مرنمين ليلاً ونهاراً ترانيم الصلاة عند ضريح والدة الإله، وشاركت القوات الملائكية في تمجيد الله وامتداح مريم العذراء المنعم عليها طيلة الأيام الثلاثة.
شاءت المشيئة الإلهية للكشف عن حقيقة قيامة والدة الإله من بين الأموات بأن يتأخر القديس الرسول توما عن موعد التشييع فوصل الجسمانية في اليوم الثالث بعد الدفن، وعندما علم بتأخره وخسارته بالتبرك من جسد والدة الإله الطاهر انطرح أمام مغارة القبر في نحيب الحزن المرير وراح يتوسل بالرسل كي يفتحوا له القبر ليتبارك من الجسد الطاهر وبقدر ما توسـل بهم تحنـن القديس بطرس على حالته الداعية للشفقة وأمر بفتح باب القبر، وعندما دحرجوا الحجر عن باب القبر لم يجدوا فيه إلا أجهزة الدفن فقط وقد فاح منها رائحة طيبة لا توصف ، أما الجسد الطاهر فلم يكن في القبر أبداً فدهشوا وارتابوا وقبّلوا الكفن الباقي في القبر بورع مبتهلين إلى الرب أن يكشف لهم سر ذلك.
وكان الرسل أثناء اجتماعاتهم للصلاة يتركون على المائدة مكانا" فارغاً للرب يسوع وأمامه قطعة من الخبز، وبعد الصلاة يأخذونها ويوزعونها على بعضهم البض لكي يبقى ذكرى الرب يسوع قائماً بينهم مجتمعين أو متفرقين.
وبقي هذا الترتيب في الجسمانية بعد رجوعهم من الدفن، وبينما الرسل جالسين إلى المائدة يفكرون ويتساءلون عن أمر اختفاء الجثمان الطاهر وهم بخوف ورهبة وارتياب، وما أن رفعوا خبز الرب كعادتهم فإذا بهم يسمعون فجأة ترنيمة ملائكية تصدح في السماء، فرفعوا عيونهم ليجدوا في الفضاء والدة الإله العذراء الكلية القداسة والقوات السماوية محيطة بها، وهي مشرقة بمجد لا يوصف، فقالت لهم:
"افرحوا إني معكم كل الأيام حتى انقضاء الدهر".
فهتف التلاميذ بابتهاج مع جميع الحاضرين معهم من المصلين:
"يا والدة الإله الفائقة القداسة أعينينا".
وبذلك تحقق للرسل القديسون أن والدة الإله قد أقامها ابنها وإلهها من القبر في اليوم الثالث بعد انتقالها، فأخذها إلى السماء بالجسد كما قام هو من بين الأموات بالجسد أيضاً، وسلموا إلى الكنيسة كلها إيمانهم هذا الذي لا شك ولا ريب فيه أبداً.
اخذ الرسل الكفن المتروك في القبر تحقيقاً للغائبين وتعزية للمعذبين ورجعوا إلى أورشليم وتفرقوا مسرعين إلى جميع أقطار العالم ليبشروا بالإنجيل، لذلك الكنيسة تسمي نهاية حياة والدة الإله رقاداً لأنها نامت مدة قصيرة ثم استيقظت وكأنها في حلم.
السيدة العذراء لم تهمل طلبات المتشفعين بها إلى ابنها الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح عندما كانت على الأرض كما وهي في السماء أيضاً، على أن يطلبوا منها بإيمان كلي وثقة كبيرة.
فبشاعاتها أيها الرب يسوع خلص نفوسنا.
طر وبارية الرقاد:
في ميلادك حفظتِ البتولية وصنتها، وفي رقادكِ ما أهملتِ العالم وتركته يا والدةَ الإله، لأنكِ انتقلتِ إلى الحياة بما انكِ أم الحياة، فبشاعاتكِ أنقذي من الموت نفوسنا.