"رَأْسُ كَلاَمِكَ حَقٌّ، وَإِلَى الدَّهْرِ كُلُّ أَحْكَامِ عَدْلِكَ" (مز 119: 160)
المعجزات في الكتاب المقدس - قهر يسوع الشيطان في المجمع
قَهَرَ يسوع الشيطان في المجمع
نصّ الإنجيل
وجازَ يسوعُ إلى كفرناحوم. فلمّا أَتى السبتُ دَخَلَ المجمعَ وأَخَذَ يُعَلِّم. فدَهِشوا لتعليمِهِ، لأنَّه كانَ يُعَلِّمُهُم مِثْلَ مَنْ لـهُ سُلطان، لا مِثْلَ الكَتَبَة. واتَّفَقَ أنَّه كان في مَجْمَعِهِم رَجُلٌ فيهِ روحٌ نَجِس، فأَخَذَ يَصيح :
" ما لَنا ولَكَ يا يسوعُ النَّاصِري ؟ أَجِئتَ لِتُهْلِكَنا ؟ أنا أعرِفُ مَنْ أَنْتَ : أَنْتَ قدّوسُ الله ". فانتَهَرَهُ يسوعُ قال : " اخْرَسْ واخرُجْ منهُ ". فَخَبَطَهُ الروحُ النَجِس، وصَرَخَ صَرْخَةً شديدة، وخَرَجَ منهُ.
فدَهِشوا جميعاً وأَخَذوا يتساءلون : " ما هذا ؟ إنَّهُ لَتَعليمٌ جديدٌ يُلقى بسُلطان. حتّى الأَرواحُ النَجِسَةُ يأمُرُها فَتُطيعُهُ ". وذاعَ ذِكْرُهُ بعدَ ذلِكَ في كلَِ مكانٍ مِنَ الجليل.
(مرقس 1/21-28)
أنقذ يسوع بقدرته الإلهيّة هذا الرجل الممسوس، وأعاد إليه الصحّة والهدوء. وكان قبل أن يصنع هذه المعجزة قد ألقى على الحاضرين خطبة السبت أدهش بها جميع مستمعيه لِما كان فيها من سموٍّ وتعليمٍ جديدٍ رائع. إن التأمّل في هذا الحادث الذي جرى في المجمع يوحي إلينا الأفكار التالية:
هدفُ الشيطان استعبادُ الإنسان الخاطئ
1- لم يكتفِ الشيطان بأن يهاجم هذا الرجل بالتجارب ويسعى لجرّه إلى ارتكاب الخطايا، بل دخل فيه واتَّخذه مقرّاً لـه واستعبده واعتبره مُلْكه الخاص.
تُرى ماذا عمل هذا الرجل ليكون مسكناً للشيطان وعبداً لـه يتحكّم به كما يريد ؟ إنّنا نجهل هذا الرجل ونجهل ما عمله، ولكنّنا نعرف أنّ من استسلم إلى غوايات الشيطان وخداعه استسلاماً كلّياً فَسَحَ لـه المجال لأن يتجرّأَ ويدخُلَ فيه ويستولي عليه ويستعبده على الأرض ويُلقي به بعد الموت في هوّة الهلاك الأبدي.
2- لذلك نقول إنّ الشيطان، وإنْ كان أقوى من الإنسان وأكثرَ منه ذكاءً لأنه كان ملاكاً لا يستطيع أن يتعدّى حدوده ويتغلّب على الإنسان إلاّ إذا أراد الإنسانُ نفسُهُ بحرّيته وإرادته الشخصيّة أن يكون فريسةً لـه. ويبدو أن هذا الرجل الممسوس قد استسلم بمعرفته وحرّيته الكاملة إلى غواية الشيطان وإغرائه، وعاش عيشة الخطيئة ، ورفض التوبة، فأضحى عبداً للشيطان ومسكِناً له.
3- إنّ الشيطان لا يتجاسر، بعد مجيء المسيح إلى العالم وانتشار الدين المسيحي، أن يستولي على أجساد المعمّدين وإنْ كانوا من الخطأة. ولكنّه يستولي على قلوبهم وأفكارهم ونيّاتهم بالخطايا التي يرتكبونها، فيجعلهم أشراراً، ويتَّخذهم أدواتٍ طيّعة لبثّ الشرّ بوساطتهم في قلوب الناس. وهذا ما نراه في سلوك المعمَّدين الذين نبذوا إيمانهم المسيحي، وتبنََََّوا الإلحاد، أو العادات القذرة، وعاشوا عيشة الخطيئة. فإنهم يصبحون أعوان الشيطان، ويكونون بعد وفاتهم موضوع غضبه في جهنم النار.
خطّة الشيطان في خداع الإنسان
إنّ هذا الحادث الذي جرى في المجمع يرسم لنا خطّة الشيطان في خداع الإنسان. إنّ الشيطان تملّق يسوع ومدحه. فهو يسلك مع الإنسان الخطّة نفسها التي سلكها مع يسوع، فيتملّقه ويمدحه.
إنّه يتملّق الإنسان ويقدّم له نفسه بأنّه صديقٌ له يوحي إليه أفضل الأفكار وخير السبل التي تُحقِّق لـه سعادته الكاملة. إنّها خطّة جهنّمية، هي مزيجٌ من المدح الكاذب والإغراء المثير. وإذا ما أنصت الإنسان إلى أقواله وأقام معه حواراً داخليّاً جرّه الشيطان إلى قبول التجربة وزيّن له الخطيئة ودفعه إلى ارتكابها.
إنّ سلوك يسوع مع الشيطان يبيِّن للمسيحي كيف ينبغي لـه أن يتصرّف مع إبليس. لقد أمر يسوع الشيطان بأن يسكت ويخرج من الممسوس، فخرج منه ولم يمسَّه بأذى.
إنّ أفضل طريقة يتبعها المسيحي في أثناء التجربة هي أن يقطع مع الشيطان كلّ جدال وحوار، ويمتنع عن الإصغاء إلى خداعه واقتراحاته الخبيثة. فمَنْ جادل الشيطان وحاوره وأصغى إليه كان خاسراً، وسقط في التجربة وارتكب الخطيئة، فشوّه جمال حياته الأرضيّة وفَقَدَ سعادة حياته الأبديّة.
دَهَشُ الشعب في المجمع
1- سمِع الشعب تعليم يسوع الرائع ورأى سيطرته على الشيطان فاستولى عليه الدَهَش. لقد دهِشَ أمام قدرة يسوع الفائقة التي جعلت الشيطان أمامه عبداً ذليلاً، وفرضت عليه أن يخرج من جسم الرجل مُرغماً من دون أن يمسَّه بأذى.
2- ودهِشَ أيضاً لمّا سمع تعليم يسوع. كان تعليم الكتبة وعلماء الشريعة تَرداداً لأقوالٍ قديمة وتافهة، تفوّه بها مَنْ سَبَقَهُم مِنْ الكتبة وعلماء الشريعة، فيها الكثيرُ من التعقيد والتناقض والالتباس. أمَّا تعليم يسوع فكان تعليماً شخصيّاً واضحاً قويّاً نيّراً، يدلّ السامعين على الطريق الذي يؤدّي إلى السماء.
وهذا ما جعل الشعب يشعر بالفرق العظيم بين المعلّم الإلهيّ والمعلّمين اليهود. فأخذ الحاضرون يتساءلون: " ما هذا التعليم ! إنّه تعليم جديد يُلقيه هذا المعلّم الشاب بسلطةٍ شخصيّة قويّة ".
3- ولا عجب أن يظهر لهم هذا الفرق. فإن تعليم الكتبة كان يدور حول تفسير فرائض بشريّة وخارجيّة، كفرائض ختان الأطفال، والامتناع المُطلق عن العمل في يوم السبت حتى في مجال الخير،
وعدم تناول بعض اللُّحوم المعتبَرة نجسة، وضرورة غسل الأيدي قَبْلَ الأكل، وواجب غسل الأباريق والكؤوس والأسرّة (مرقس 7/1-4) . أمّا تعليم يسوع فكان تعليماً جديداً، يتناول ضرورة تتميم واجبات الإيمان والرحمة، والخضوع لإرادة الله، ومحبّ?ة الآخرين، وقبول التضحية في سبيل مجده تعالى. وهذا ما حمل الشعب على أن يتحدّث عنه في مدن وقرى الجليل.
التطبيق العملي
1- إن هذه المعجزة تبيّن لنا أن الشيطان عدوُّنا اللَّّدود، وأن يسوع صديقُنا الوفي. فالشيطان يهاجمنا بكلّ ما لديه من قوّةٍ وذكاء ودهاء ومعرفة لمواطن الضَعف البشري فينا.
فمن أصغى إلى وساوسه وإيحاءاته الخبيثة وقع حتماً في الفخّ، فاستولى الشيطان على إرادته وقلبه وميوله الداخليّة ودفعه إلى ارتكاب الخطيئة.
2- لا تستغربْ أن تنصبَّ عليكَ تجاربُ الشيطان. لقد جرّب كبار القديسين،
ومن أشهرهم مار انطونيوس المصري أبو الرهبان. لقد انتصر على التجارب بقدرة يسوع وعزم إرادته. فطالعْ سيرةَ حياته تتعلّمْ منه كيف تنتصر على خداع إبليس.