يا رَبُّ، طوبى لِلَّذي تُؤَدبه و مِن شَريعَتِكَ تُعَلَمُه (مز 94 /12)
المعجزات في الكتاب المقدس - شفاء المقعد في كفرناحوم
شفى يسوع رجلاً مقعداً في كفرناحوم
نصّ الإنجيل
وعادَ يسوع بعدَ بِضعَةِ أيامٍ إلى كفرناحوم، فسَمِعَ الناسُ أنهُ في الدّار. فاجتمعَ منهُم عددٌ كبير، ولم يبقَ موضِعٌ خالياً حتّى عِندَ الباب، فألقى إليهم كلامَ الله. فجيءَ إليهِ بمُقعَدٍ يحمِلُهُ أربعَةُ رجال.
فلم يستطيعوا الوصولَ إليهِ لِكَثْرَةِ الزِّحام. فنَبَشوا عن السقفِ فوقَ الموضِعِ الذي هوَ فيهِ، ونَقَبُوهُ. ثمَّ دَلَّوا الفِراشَ الذي كان عليهِ المُقعَدُ. فلمّا رأى يسوعُ إيمانَهُم قالَ للمُقعَدِ: " يابُنَيَّ، غُفِرَتْ لك خطاياك ". وكان بينَ الحضورِ هناكَ بعضُ الكتبة، فقالوا في أنفُسِهِمْ : " ما بالُ هذا الرَجُلِ يتكلَّمُ بذلكَ ؟ إنَّهُ يُجَدِّف. فمَنْ يقْدِرُ أن يَغْفِرَ الخطايا إلاَّ اللهُ وحدَهُ ؟ " فعَلِمَ يسوعُ في سِرِّهِ ما جالَ في صدورِهِمْ،
فسأَلَهُمْ : " لماذا تجولُ هذهِ الأفكارُ في صدورِكُم ؟ أّيُما أيسَر أن يُقالَ للمُقعَدِ " غُفِرَتْ لكَ خطاياك "، أم أن يُقال " قُمْ فاحمِلْ فِراشَكَ وامشِ ؟ " فاعلَموا أنَّ ابنَ الإنسانِ لـهُ سُلطانٌ يَغفِرُ بهِ الخطايا في الأرض ". ثُمَّ قالَ للمُقعَدِ : " أقولُ لكَ : قُمْ فاحمِلْ فِراشَكَ واذهبْ إلى بيتِكَ ".
فقامَ فحَمَلَ فِراشَهُ، وخَرَجَ بمَِرأى مِنْ جميعِ الناس، حتى دهِشوا جميعاً ومجَّدوا اللهََ وقالوا: " ما رَأينا مِثْلَ هذا قط ! " (مرقس 2/1-12)
المحبّة الحقّة نشيطة وفعّالة
كلّ من قرأ في الإنجيل بإمعان قصّة هذه المعجزة تبادرت إلى ذهنه هذه الفكرة، وهي أنّ المحبّة الحقّةَ نشيطةٌ وفعّالة، ولا تيأس أمام الصعوبات.
كان البيت مملوءاً من الناس، وكانوا كلّهم يستمعون بصمتٍ عميق إلى كلام يسوع الذي كان يحدّثهم عن ملكوت الله. وجاء إذْ ذاك أربعة رجالٍ يحملونَ مُقعداً على فراشه، وفي نيّتهم أن يضعوه أمام يسوع .
ولمّا لم يكن من المُمْكن أن يدخلوا البيت لشدّة الازدحام، لم ييأسوا، ولم يتركوا المريض مُمَدّداً خارجاً عند الباب، بل ارتقوا سطح البيت، ونبشوا التراب، ونقبوا السطح، ودلّوا الفراش الذي كان المريض ممدّداً عليه ووضعوه أمام يسوع. هذه هي المحبّة الحقّة. إنها نشيطة وفعّالة لا تيأس.
شفاء النفس قبل شفاء الجسد
عرَف يسوع أنّ هذا المُقعد، المُمَدّد أمامه، كان هو نفسُهُ سَبَبَ استيلاء المرض عليه. لقد سلك في حياته طريق الخطيئة. وأغلب الظن أنّه استسلم إلى السُكْر والشراهة والفجور والسهر الطويل. كلّ هذا قد أثّر في صحّته تأثيراً سيِّئاً، فأصابه الفالج، وأضحى مُقعداً لا يقوى على الحركة.
أمّا الآن، وقد ذاق طعم مرارة الخطيئة، فهو نادمٌ على ما فعل، وتائبٌ إلى الله، وهو يسأل الصفح ومغفِرة ذنوبه. وقرأ يسوع ما كان يجول في قلبه من عواطف التوبة والاسترحام،
فقرّر أن يشفي نفسَهُ المريضة أوّلاً ويعيدَ إليها صحّتها، لأن شفاء النفس يأتي قبل شفاء الجسد. فقال له بلهجة صاحب السُلْطة العليا : " يا بُنيَّ ! غُفرتْ لكَ خطاياك ".
هذا يجدّف !
سمع الكتبة الذين كانوا جالسين في البيت قول يسوع للمريض " غُفِرتْ لكَ خطاياك " فاستغربوه جداً، وقالوا في أنفسهم : " هذا يجدّف ! مَنْ يغفِرُ الخطايا إلاَ اللهُ وحدَهُ ؟
" ذلك لأنَّ الإهانة توجَّه بالخطيئة إلى الله، فهو وحدَهُ ينساها ويصفح عن الخاطئ التائب، ولا ينوب عنه إنسان، حتّى وإنْ كان من كبار الأنبياء.
لو كان يسوع إنساناً فحسب لكان تفكير الكتبة صائباً، ولكان كلام يسوع تجديفاً. ولكنّ يسوع ليس إنساناً فحسبُ. إنّه كلمةُ الله الازليّة. إنّه إلهٌ أيضاً، يتمتّع بسلطان أبيه السماوي.
فالخطيئة التي يرتكبها الخاطئ ويوجّهها إلى الله، يوجّهها في الواقع إلى الله الآب، وإلى ابنه الأوحد يسوع المسيح، وإلى روحه القدّوس. فالابن الأوحد، كلمة الله المتجسّد، لا يجدّف عندما يغفِر الخطيئة لأن الخطيئة قد وُجّهت إليه، وهو يستطيع أن ينسى الإهانة ويغفِر للخاطئ التائب خطيئته.
يسوع كلمة الله له سلطانٌ على مغفرة الخطايا
وقرأ يسوع الإله ما كان يجول في أذهان الكتبة فطرح عليهم السؤال التالي: " أيُّما أيسَر أنْ يُقالَ للمُقعد " غُفِرتْ لكَ خطاياك "، أم أنْ يُقالَ لـهُ " قُمْ فاحمِلْ فِراشَكَ وامشِ ؟ " ما معنى هذا السؤال الذي طرحه يسوع ؟ معناه، إنّه من السهل عليَّ أن أقول للمقعد " غُفرتْ لكَ خطاياك " حتى وإنْ لم يكن لديَّ سلطانٌ على مغفِرة الخطايا.
فإنّ المغفرِة تبقى سِرَّاً مَخفيّاً. ولكن من الصعب أن أقول لـه " قُمْ فاحمِلْ فراشَكَ وامشِ ". فإنْ لم يمشِ وبقيَ مُمَدّداً على فراشه ظهر خداعي أمام الجميع وشََمِلَني الخزي والعار. ولذلك فإن شفاء المريض دليلٌ قاطع على أن لديَّ سلطان الله، وأنّي بهذا السلطان قد غفرتُ للمُقعد خطاياه.
ولم يكتفِ يسوع بطرح السؤال على الكتبة، بل فسّره تفسيراً عمليّاً واضحاً أمام أبصارهم. قال للكتبة : " لكي تعلموا أنّ ابنَ الإنسان له سلطانٌ يغفِرُ به الخطايا، أقولُ لك أيُّها المُقعد " قُمْ فاحمِلْ فراشَك واذهبْ إلى بيتك ".
فقام المُقعد وحمل فراشه ومشى أمام جميع الناس. فالشفاء بكلمة واحدة كان برهاناً قاطعاً على قدرته الإلهيّة وتمتّعه بسلطانٍ على مغفِرة الخطايا. وهذا السلطان دلالةٌ واضحة على ألوهيّته. فيسوع كلمة الله، إلهٌ كأبيه السماوي. إنّ مغفرة الخطايا وشفاء الأمراض لديه سِيّان.
إعجاب الناس وصمت الكتبة
رأى الحاضرون شفاء المقعد، فأُعجبوا بما جرى، وأخذوا يمجّدون الله ويقولون : " ما رأينا مثلَ هذا قط ". لقد كان إعجابهم ممزوجاً بشكر المُقعد الذي استعاد صحّته بقدرة يسوع الإلهيّة.
إنّ موقف الشعب المُعجَب بسلطان الربّ يسوع يحملنا نحن أيضاً على الإعجاب بمراحم الله، وإبداء شكرنا لِما ينعم علينا باستمرار من مواهب لا تُحصى.
أمَّا الكتبة الذين رفضوا أن يروا الحقيقة فهم أجداد الملحدين العصريّين الذين يرفضون أن يروا حقيقة الإيمان المسيحي ويتمسّكون بضلال أفكارهم المظلمة.
منح يسوع رسله وخلفاءهم سلطانه الإلهي
كان هذا المُقعد إنساناً خاطئاً، فغفر لـه يسوع خطاياه. ونحن أيضاً خطأة ، ففكّر فينا ورسم سرّ التوبة ليغفر لنا خطايانا. ولذلك منح رسله وخلفاءهم، الأساقفة والكهنة، سلطانه الإلهي على مغفرة خطايانا قال لهم :
" خذوا الروحَ القُدُس. مَنْ غَفَرتُمْ له خطاياه تُغفَرُ لهُ. ومَنْ أمسَكتُمْ عليهِ الغُفران يُمسَكُ عليه ". (يوحنَّا 20/22-23)
إنّ هذا السلطان لم يُعطَ للملائكة المقتدرين، بل للبشر المساكين. فمتى رفع الكاهن يمينه وقال للمؤمن المُعترف التائب من ذنوبه: " أنا أحلُّكَ من كلِّ خطاياك التي اعترفتَ بها أمامَ اللهِ وحقارتي، باسمِ الآبِ والابنِ والروحِ القدس " رفع الله آنذاك يمينه في السماء وغفر للخاطئ خطاياه التي اعترف بها وندم عليها ندامة حقّة.