فَقالَت مَريَم : أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ (لو 1 /38)
المعجزات في الكتاب المقدس - كثّر يسوع الخبز و السمك في البرّية - للمرة الاولى
كثّر يسوع الخبز والسمك في البرّية
للمرّة الأولى
نصّ الإنجيل
واجتمعَ الرُسُلُ عِندَ يسوع، وأخبَروهُ بجَميعِ ما عمِلوا وعَلَّموا. فقالَ لَهُم: " تَعَالَوا إلى مكانٍ قَفْرٍ، واستَريحوا قليلاً ". لأنَّ القادمينَ والذاهبينَ كانوا كُثْراً حتّى لَمْ تُتَحْ لَهُم فُرْصَةٌ لِتَناولِ الطعام. فمَضَوا في السفينةِ إلى مكانٍ قَفْرٍ يَعتَزلونَ فيه. فرآهُم الناسُ ذاهبين، وعَلِمَ بالأَمْرِ كثيرٌ مِنهُم، فأسْرَعوا سَيراً على الأقدامِ مِنْ جميعِ المُدُنِ وسبقوهُم إلى ذلك المكان. فلَمَّا نَزَلَ إلى البَرِّ رأى جَمْعاً كبيراً، فأَخَذَتْهُ الشَفَقَةُ عليهم، لأنَّهُم كانوا كغَنَمٍ لا راعيَ لها، وشَرَعَ يُعَلِّمُهُم أشياءَ كثيرة.
وفاتَ الوقت، فدنا إليه تلاميذُهُ وقالوا : " المكانُ قَفْرٌ وقد فاتَ الوقت، فاصرِفْهُم ليذهَبوا إلى المزارعِ والقُرى المجاورة، فيشتروا لهُم ما يأكلون". فأجابَهُم : " أعْطوهُم أنتُمْ ما يأكلون ". فقالوا لهُ : " أنَذْهَبُ فنشتريَ خُبزاً بمئتَيْ دينار ونُعطيَهُم ليأكلوا ؟ " فقالَ لَهُم : " كَمْ رغيفاً لديكُمْ ؟ اذهَبوا فانظروا ". فتَحَقَّقوا ما لديهم ثُمَّ قالوا : " خَمسَةٌ وسمكتان ".
فأَمَرَهُم بإقعادِ الناسِ كلِّهِم فئةً فئةً على العُشبِ الأخضَر. فقَعَدوا أفواجاً مِنها مئة ومِنها خمسون. فأخَذَ الأرغِفَةَ الخمسةَ والسمَكَتين ورَفَعَ عينَيْه نحو السماء، وبارَكَ وكسَرَ الأرغِفَة، ثُمَّ جَعَلَ يُعطي تلاميذَهُ لِيُناوِلوهم، وقسَّمَ السَمَكَتينِ عليهم جميعاً. فأَكَلوا كُلُّهُم حتى شَبِعوا. ثُمَّ رَفَعوا اثنَتَيْ عشْرَةَ قُفَّةً مُمتَلِئةً مِن الكِسَرِ وفضَلاتِ السَمَكَتَيْن. وكان الآكِلون خمسةَ آلافِ رجُل.
فلَمَّا رأى الناسُ الآيَةَ التي أتى بها يسوع، قالوا : " حقّاً هذا هو النبيُّ الآتي إلى العالم". وشَعَرَ يسوع أنَّهُم يَهُمّونَ باختطافِهِ مَلِكاً، فابْتَعَدَ عنهُم. (مرقس 6/30-44 ويوحنَّا 6/14-15)
أشفَق يسوع على الجموع المحتشدة
عاد تلاميذ يسوع من رحلتهم التبشيريّة في الجليل ، وأخبروا يسوع بما"عَمِلوا وعَلَّموا". وكانوا تعبين جدّاً. فقالَ لهُم يسوع : " تعالَوا نَذهَب إلى مكانٍ قَفْرٍ لتَستريحوا هناك قليلاً ". فركبوا السفينة وانطلقوا في البحيرة باتّجاه قرية بيت صيدا.
ورآهم الناس قد ركبوا السفينة فسبقوهم ماشين إلى المكان الذي كانوا متوجّهين إليه. وكانوا كثيرين. فلمَّا وصل يسوع إلى المكان رآهم مجتمعين لاستقباله، فأشفق عليهم.
كان سبب شفقته عليهم أنَّ الجهل الديني كان مخيّماً عليهم، فلم يكونوا يعرفون شيئاً من أمور دينهم، ولا من واجباتهم الخُلُقيّة، ولا من الفضائل التي دعاهم الله إلى ممارستها، بل كانوا يعيشون تائهين روحيّاً كالخراف الشاردة التي لا راعي لها.
وأخذَ يسوع يعلّمهم ويشرح لهم قواعد دينهم، ويهيّئ قلوبهم لقبول ملكوت الله بالإيمان والتوبة والأعمال الصالحة. ثمَّ جعل يتنقّل بينهم وهو يفتح عيون العميان، ويقوّي عضلات المُقعدين، ويُعيد الصحّة إلى المرضى، ويُزيل الألم عن المتألّمين، ولا يهدأ من التكلّم على أبوّة الله وحنانه وحبّه، وعلى ضرورة سلوك الحياة الفاضلة. وطال حديث يسوع وتجواله بين الناس إلى أن مالت الشمس إلى المغيب.
معجزة تكثير الخبز والسمك للمرّة الأولى
عرف التلاميذ أنَّ الناس قد شعروا بالجوع. فأطلعوا يسوع على ذلك، وسألوه أن يصرفهم ليذهبوا إلى المزارع والقرى المجاورة ويبتاعوا لهم طعاماً.
ولكنَّ يسوع أراد أن يكافئ إقبالهم على سَماع كلمة الله، كما أراد أن يقوّي إيمان تلاميذه ويشدّد تعلّقهم به، فرفض أن يصرف الناس جائعين. فكثّر الخبز والسمك وأطعمهم جميعاً، فأكلوا وشبعوا وفضل عنهم.
معجزة الخبز والسمك تذكّرنا بعناية الله
إن هذه المعجزة تذكّرنا بعناية الله للبشر. فقد وضع الله في الكائنات الحيّة من الحيوانات والنباتات قدرةً خفيّة تمكّنها من النموّ والتكاثر في سبيل تأمين حاجات البشر. إنّ هذا التكاثر هو سرّ الحياة، وقد أراده الله ليوفّر للناس ما يحتاجون إليه من طعام وكسوة.
لقد اعتادت عيوننا رؤية هذا التكاثر العجيب، ولم نَعُدْ نشعر بأنّه معجزة مستمرّة من معجزات الله التي يصنعها في سبيل بقاء البشريّة على الأرض ونموّها وسعادتها، وننسى أن نرفع إلى قدرته تعالى آيات الحمد والتسبيح ونقول مع صاحب المزمور : " ما أعظمَ أعمالَكَ يا رب ! لقد صنعتَ جميعَها بالحِكمة ". (مزمور 103/24)
أرادوا أن يختطفوه ليقيموه ملكاً
ذكر يوحنَّا الإنجيلي أن معجزة تكثير الخبز والسمك في البرّية قد ألهبت حماسة الجمهور المحتشد. فشعر الناس شعوراً قويّاً بأنّ يسوع نبيٌّ عظيم، بل النَّبيُّ الأعظم الذي لا تقف في وجهه عقبة مهما كانت قاسية وشامخة.
وكانت هناك عقبةٌ سياسيّة كأداء لم يكونوا يستطيعون التغلّبَ عليها، وهي احتلال الدولة الرومانيّة لأرضهم. لقد استعمرت هذه الدولة الجبَّارة بلاداً واسعة وشعوباً كثيرة وقويّة، ولم يكن باستطاعة الشعب اليهودي المحدود القوى أن ينتصر عليها. فقالوا في ما بينهم : " لقد أرسلَ الله إلينا هذا النَّبيّ القدير ليحرّرنا من استعمار الرومانيّين ويؤسّس لنا دولةً قويّة تسيطر لا على الرومانيّين فحسب، بل على العالم كلّه ". إنّ هذا الاتجاه السياسي دفع الكثيرين من الرجال إلى أن يلتفّوا حول يسوع ليرفعوه على أكتافهم وينادوا به ملكاً على إسرائيل، وهدفُهم أن يضرموا في قلبه نار العاطفة الوطنيّة، فيدحر الرومانيّين، ويؤسّس لهم الدولة العبريّة المنشودة.
ولكنّ يسوع أتى إلى العالم لينشر ملكوت الله على الأرض، وهو ملكوت روحيّ، لا ليؤسّس دولةً لإسرائيل. فلمّا عرف نيّتهم السياسيّة صرفهم على الفور وصرف الجمع كلّه، وأمر تلاميذه بأن يركبوا السفينة ويسبقوه إلى الطرف الآخر من البحيرة. ثمّ صعد الجبلَ ليصلّي لأجل هذا الشعب التائه والغارق في المؤامرات السياسيَّة والبعيد كلَّ البعد عن الله خالقه.
لقد نبذَ هذا الشعب غير المؤمن تعاليمَ الأنبياء القدّيسين ووجّه قلبه وعقله لا إلى التقوى ونشر ملكوت الله ، بل إلى الأطماع الدنيويّة الزائلة، فنبذه الله.
معجزة الخبز والسمك هيَّأَت التلاميذ للمعجزة الكبرى
لقد عمل يسوع في البرّية ما كان يرمز إلى ما سيعملُهُ في الغرفة الكبيرة ليلةَ اجتماعه بتلاميذه في العشاء الأخير. ففي تلك الليلة أخذ خبزاً وباركه وكسره وناولهم إيَّاه قائلاً : " خذوا كلوا. هذا هو جسدي ". ثمّ أخذ كأساً فيها خمر وقال : " اشربوا من هذا. هذا هو دمي ". كان يسوع ينوي بمعجزة تكثير الخبز في البرّية أن يهيّئ تلاميذه لقبول المعجزة الكبرى التي قرّر أن يصنعها قبل أن يتألّم ويموت، وهي أن يحوّل الخبز إلى جسده والخمر إلى دمه.
وكانت معجزة تكثير الخبز أيضاً مناسبة موفّقة اغتنمها يسوع ليعِدَ المؤمنين به بأنّه سوف يعطيهم جسده طعاماً ودمه شراباً، لتكون لهم الحياة الأبديّة. قال لهم : " مَنْ أكَلَ جسدي وشرِبَ دمي، فلهُ الحياةُ الأبديَّة، وأنا أقيمُهُ في اليومِ الأخير، لأنَّ جسدي طعامٌ حقّ ودمي شرابٌ حقّ "
(يوحنَّا 6/54-55)
التطبيق العملي
1- أطعم يسوع الشعب الجائع. فالطعام عطيّةٌ من الله، وهو واحدٌ من العطايا الكثيرة التي يهبنا الله إيّاها. عدِّدْ في هذه المناسبة عطايا الله للبشر على النحو التالي: العطايا الجسديّة ... والعطايا العقليّة... والعطايا النفسيّة... والعطايا الخُلُقيّة... والعطايا الإيمانيّة... وأوضحْ طبيعة كلٍّ من هذه العطايا مع ذكر بعض الأمثلة.
2- إن أعظم العطايا التي منحنا يسوع إيَّاها هي أنّه وهبنا ذاته في سرّ القربان الأقدس. إنّ العقل البشري لا يمكن أن يستوعب عِظَمَ هذه الهبة الروحيّة. فهي لا تُفَسَّر إلاّ بالحبّ العظيم غير المحدود الذي كان يحتفظ به في قلبه لكلّ واحدٍِ منّا. قال يوحنَّا الإنجيلي في هذا المجال : " أحَبَّ يسوع أصحابَهُ الذين هم في العالم، فبَلَغَ به الحبّ إلى أقصى حدوده ".
(يوحنَّا 13/1)
3- يسوع يعطينا جسده لنأكله ودمه لنشربه. فتناولْ جسده ودمه الإلهيّين "بمخافة الله وإيمان ومحبّة". ولا تنسَ أن تسجدَ ليسوع الإله، وتشكر لـه سُكناه في قلبك، وتعبّرَ له عن حبّك، وتطلبَ إليه النعم الروحيّة والزمنيّة التي تحتاج إليها.