فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل ( مت 5 /48)
المعجزات في الكتاب المقدس - كثّر يسوع الخبز و السمك في البرّية - للمرة الثانية
كثّر يسوع الخبز والسمك في البرّية
للمرّة الثانية
نصّ الإنجيل
واحتَشَدَ في تِلكَ الأيامِ جَمْعٌ كبير، ولَمْ يَكُنْ لدَيْهِم ما يأكُلون، فدعا تلاميذَهُ وقالَ لَهُم : " أُشفِقُ على هذا الجَمع، فإنَّهُمْ مُنذُ ثلاثَةِ أيّامٍ يُلازموني، وليسَ لدَيْهِمْ ما يأكُلون. وإنْ صَرَفْتُهُم إلى بيوتِهِم صائمين، خارَتْ قُواهُم في الطريق، ومِنهُم مَن جاءَ مِنْ بَعيد ".
فأَجابَهُ تلاميذُهُ : " أنَّى لأّحَّدٍ أن يُشبِعَ هَؤلاءِ مِنَ الخُبْزِ هَهُنا في البَرّية ؟ ". فسأَلَهُم : "كَمْ رغيفاً لدَيكُم ؟ " قالوا : " سبعة. " فأَمَرَ الجَمعَ بالقُعودِ على الأرضِ، ثُمَّ أخَذَ الأرغِفَةَ السَبعَةَ وشَكَرَ وكَسَرَ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطي تلاميذَهُ ليُقَرِّبوها إلى الجمع، فقَرَّبوها إليهم. وكانَ لَدَيْهِم بعضُ سَمَكاتٍ صِغار، فبارَكَها وأَمَرَ بِتَقريبِها أيضاً. فأَكَلوا حتى شَبِعوا، ثُمَّ رَفَعوا مِمَّا فَضَلَ مِنَ الكِسَرِ سَبْعَ سِلال. وكانوا نَحوَ أربَعَةِ آلاف فَصَرَفَهُم. (مرقس 8/1-9)
أشفق يسوع على الشعب الجائع
كان هدف هذه المعجزة أن يدفع يسوع الجوع عن الشعب المحتشد في البرّية. وقد كان له هدفٌ أبعد منه، وهو أن يحمل المؤمنين به على الثقة به إلى أبعد الحدود.
إنّ المعجزات التي صنعها كانت استجابةً لطلب المرضى أو أصحاب العاهات. والمعجزة الأولى التي كثّر بها الخبز والسمك في البرّية قد أجراها استجابةً لطلب التلاميذ أنفسهم. أمّا هذه المعجزة فلم يطلبها أحد، بل صنعها بمبادرةٍ شخصيّةٍ منه لأنه شعر بأنّ الناس كانوا بحاجةٍ إليها. إنّها ثمرة شفقته على الشعب. فقد نبعت من عاطفته الإنسانيّة ومحبّته للشعب الجائع.
يُشفق يسوع على أحبّائه المؤمنين
1- إنّ يسوع الذي صعد إلى السماء لم يَفقِدْ عاطفته الإنسانيّة التي أبداها لهذا الجمع. كان إنساناً على الأرض، وبقيَ إنساناً في السماء. فالشفقة التي شعر بها على الجمع لا يزال يشعر بها وهو في السماء على أحبّائه المؤمنين المقيمين على الأرض. فهو لا يكتفي بأن يطّلع على حاجاتهم، بل يشعر بها ويحقّقها لهم.
2- إنّ مستقبل الناس يُخيفُهم اكثر مِمّا يخيفهم ماضيهم وحاضرهم. والشيطان يستغلّ خوفهم من المستقبل وينزع الثقة بيسوع من قلوبهم، ويدفعهم إلى العيش في جوٍّ من الاضطراب الداخلي يكون في بعض الأحيان مؤلماً ، وهدفُه أن يمنعهم من الالتجاء إلى رحمته وحنانه بالصلاة وأعمال البِرّ.
3- ولكن إذا تأمّل المؤمنون في حديث يسوع عن العناية الربّانيّة اطمأنّت قلوبهم، وعادت إليها الثقة بحنان الربّ يسوع وبشفقته عليهم ورغبته في مؤازرتهم. إنّه يُعاتب من يشكّون فيه ويقول لهم : " يا قليلي الإيمان ! لا تهتمّوا فتقولوا : ماذا نأكُلُ ؟ أو ماذا نشرَبُ أو ماذا نلبَسُ فهذا كلُّه يسعى إليه الوثنيّون. وأبوكُم السماوي يعلمُ أنَّكُم تحتاجون إلى هذا كلِّهِ. فاطلبوا أوّلاً ملكوتَ اللهِ وبِرَّهُ. والباقي يُزادُ لكُم". (متى 6/31-33)
شفقة يسوع ومساهمة المصلّين
يسوع يُشفق على من يتضرّعون إليه بالصلاة الواثقة، ولا يخيّب أبداً طلبهم. فهو يُعطيهم ما يطلبونه منه أو ما هو أفضل مِمَّا يطلبونه.
ولكنّ الواقع هو أنّ كثيرين يسألون يسوع ولا ينالون. فقد بيّن لهم القدّيس يعقوب في رسالته الجامعة سبب ذلك فقال لهم : " تسألونَ ولا تنالونَ لأنّكمْ لا تُحسِنونَ السؤال".
(يعقوب 4/13) إنّهم لا يُحسنون السؤال لأنهم لا يحقّقون الشرطَيْن الأساسيّين لنيل النعمة المطلوبة:
فالشرط الأوّل هو الثقة الكاملة بشفقة يسوع. لقد صنع المعجزة فأطعم بها الجموع لأنّه أشفق عليهم. فمن وثِقَ بشفقته نال منه النعمة التي يطلبها أو حظيَ بنعمةٍ أفضل منها، سواءٌ كانت هذه النعمة المطلوبة روحيّة أو زمنيّة، وذلك وَفْقَ تدبير حكمته الإلهيّة لأنّه يتوخّى أوّلاً خلاص نفوسنا.
أمّا الشرط الثاني فهو مساهمة المصلّي مع عمل يسوع في سبيل نيل النعمة المطلوبة. إنّ الثقة بيسوع لا تعني" الاتّكال وحدَهُ " على شفقة يسوع، ولا تعني خصوصاً انتظارَ معجزةٍ تهبِط من السماء على المصلّي، من دون أن يقوم بأيّ جَهدٍ شخصي. فإليكم بعض أمثال مقتبسة من الواقع توضّح هذه الفكرة الهامّة.
- من كان مريضاً وصلّى، وهو يطلب من شفقة يسوع وحنانه شفاءه من مرضه، وَجَبَ عليه أن يُساهم مع يسوع في تحقيق هذا الشفاء، أيْ وَجَبَ عليه أن يستعمل الوسائل المناسبة لشفائه، ولا يكتفي بأن ينتظر معجزةً من يسوع تشفيه من مرضه. فإنّ انتظار المعجزة هو فهمٌ سيّئ لشفقة يسوع واتّكال يؤدّي إلى الخمول.
- من كان يشاهد في التلفزيون فيلماً إباحيّاً قذراً، لا يجوز لـه أن يكتفي بالصلاة لتبتعد عنه تجربة الخطيئة ثمّ يواصل مشاهدة هذا الفيلم، بل عليه أن يساهم مع يسوع في إبعاد الخطر الروحي فيتوقّف عن هذه المشاهدة اللاأخلاقيّة بحزمٍ وسرعة، وإلاّ كانت صلاته ضرباً من الرياء وخداع النفس.
- ومن كان طالباً وعرَفَ أنّ أمامه امتحاناً يقرّر مستقبله لا يحقّ له أن يكتفي بطلب النجاح من يسوع، من دون أن يُكِبَّ على الدرس بجِدٍّ ونشاط. إنّ انتظار معجزة من السماء تؤمّن له النجاح من دون درسٍ أو تعب، طمعٌ مَعيب في حنان يسوع، وضربٌ من الغَباء الديني الذي يرفضه الإيمان القويم.
إنّ الصلاة التي يستجيبُها يسوع هي الصلاة التي نرفعها إليه واثقين بشفقته وطالبين منه مؤازرته ليقويّنا على أن نساهم معه مساهمةً شخصيّة لأجل الحصول على النعمة التي يريِدُها لنا والتي توافق خيرَنا وخلاصَنا الأبدي.
شفقة يسوع أنشأت المبرّات الخيريّة
اطّلع المسيحيّون على ما كان في قلب يسوع من شفقة على المتألّمين والمرضى والجياع، وعلى ما عمله في سبيلهم ليخفّف عنهم وطأة شدائد الحياة.
فأرادوا أن يقتدوا به، ويساهموا على مثاله في سبيل تخفيف آلام المتألّمين. فأنشأوا لذلك مجموعةً من المبرّات الخيريّة في سبيل الفقراء والمرضى والعجزة والأيتام والمَعُوقين. وأهمّ هذه المبرّات هي الجمعيات واللِّجان الخيريّة، ودور العجزة المجّانيّة، ودور الأيتام والمَعُوقين، ومراكز النشاطات الاجتماعيّة التي يديرها العلمانيّون المتبرّعون من رجالٍ ونساء.
لقد انتشرت هذه المبرّات انتشاراً واسعاً في العالم حتى لا تكاد مدينةٌ في الدنيا تخلو من إحداها أو من بعضها. ويسيّر هذه المبرّات في بعض المدن والقرى المتطوّعون من الرهبان والمرسلين والراهبات والعلمانيّين النشيطين.
ومن أشهر المبرّات الخيريّة في عالم اليوم المبرّة الإنسانيّة الرائعة التي أنشأتها الأم تريزا في الهند، في مدينة كلكوتا، والتي انتشرت في كثيرٍ من مدن العالم، في الشرق والغرب، بإشراف أو إدارة راهبات الأم القديسة تريزا.
التطبيق العملي
1- ليست الشفقة على الآخرين إذلالاً لكرامتهم، بل مظهرٌ من مظاهر المحبّة المسيحيّة التي تعتبر الناس كلّهم إخوةً وأصدقاء. فمارسْ هذه الشفقة كلّما سنحت لك الفرصة، وساندْ الجمعيات والمؤسّسات الخيريّة التي تؤازر الجياع والمرضى والمحتاجين لتتشبّه بيسوع الذي أشفَقَ على الجمع الجائع فبدّد جوعه بمعجزةٍ.
2- لاحظْ أنّ الكرماء الذين يؤازرون الجمعيّات الخيريّة ليسوا أغنى الناس. فالكرَم لا ينبع من كثرة المال، بل من عاطفة القلب السخيّة. فكنْ دوماً صاحب هذا القلب العطوف السخي، وآزرْ المؤسّسات الخيريّة على قدْرِ أمكانياتكَ الماديّة.
3- لقد ألحَّ يسوع على مؤازرة المحتاجين عندما وصفَ يومَ الدينونة العامَّة، فاعتبرَ أنّ المؤازرة التي يقدّمها المسيحي للإنسان المحتاج إنّما يقدّمها ليسوع نفسه.
(متى 25/31-46) فإذا أردت أن تقف يومَ الدينونة إلى يمين المسيح الملك الديّان، فطبّقْ في سلوكك اليومي ما ذكره يسوع عن واجب ممارسة المحبّة الأخويّة. وكنْ على ثقة أنّ يسوع لا ينسى فضلك، بل يعوّض عليك أضعاف ما تبرّعت به لمساعدة المساكين.
إنّ المعجزات التي صنعها كانت استجابةً لطلب المرضى أو أصحاب العاهات. والمعجزة الأولى التي كثّر بها الخبز والسمك في البرّية قد أجراها استجابةً لطلب التلاميذ أنفسهم. أمّا هذه المعجزة فلم يطلبها أحد، بل صنعها بمبادرةٍ شخصيّةٍ منه لأنه شعر بأنّ الناس كانوا بحاجةٍ إليها. إنّها ثمرة شفقته على الشعب. فقد نبعت من عاطفته الإنسانيّة ومحبّته للشعب الجائع.