من أنكرني أمام الناس، ينكر أمام ملائكة الله (لو 12 /9)
الأمثال في الكتاب المقدس - مثل الابن الضال
مثل الابن الضالّ
نصُّ الإنجيل
كانَ لِرَجُلٍ اِبنان . فقالَ أَصغرُهما لأَبيهِ : " يا أَبتِ , أَعْطِنِي النَصيبَ الذي يَعودُ عليَّ مِنَ المال ." فقَسَمَ مالَهُ بينَهُما . وبعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الابنُ الأَصغرُ كُلَّ شيءٍ له ,
وسافَرَ إلى بلَدٍ بعيد , فبدَّدَ مالَهُ هُناكَ في عِيشَةِ التبذير . فلمَّا أَنفَقَ كُلَّ شيءٍ أَصابتْ ذلك البلَدَ مجاعةٌ شديدة , فأَخذَ يشكو العَوَز . ثُمَّ ذَهَبَ فالتحَقَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهلِ ذلك البلد , فأَرسَلَهُ إلى حقولِهِ يَرعَى الخنازير .
وكانَ يشتَهي أَنْ يملأَ بطنَهُ مِنَ الخُرنوبِ الذي كانتِ الخنازيرُ تأْكُلُهُ , فلا يُعطيهِ أَحَد . فرَجَعَ إلى نفسِهِ وقال : " كَمْ أَجيرٍ لأَبي يفضُلُ عَنهُ الخُبزُ وأَنا أَهلِكُ هنا جُوعاً . أَقُومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقُولُ لَهُ : يا أَبَتِ إِنِّي خَطِئْتُ إِلى السَماءِ وإِليك . ولَسْتُ أَهلاً بعدَ ذَلك لأَنْ أُدْعَى لكَ ابناً , فاجعَلْني كأَحَدِ أُجرائكَ ."
فَقامَ ومضَى إِلى أَبيهِ . وكانَ لَمْ يَزلْ بَعيداً إِذْ رآهُ أَبُوهُ , فتحرَّكَتْ أَحشاؤهُ وأَسرعَ فأَلقَى بِنفسِهِ على عُنُقِهِ وقَبَّلَهُ طَويلاً . فَقالَ لَهُ الإِبنُ :
" يا أَبَتِ إِنَّي خَطِئْتُ إِلى السَماءِ وإِليك . ولَسْتُ أَهلاً بعدَ ذَلك لأَنْ أُدْعَى لكَ ابناً ." فقالَ الأَبُ لخَدَمِهِ : " أَسرِعوا فأْتوا بأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسُوهُ , واجعَلوا في إِصبَعِهِ خاتَماً، وفي رِجلَيْهِ حِذاءً . وأْتوا بالعِجلِ المُسَمَّنِ واذبحوُهُ فَنَأَكلَ ونتنعَّمَ لأنَّ ابني هذا كانَ مَيْتاً فعاش، وكان ضالاً فَوُجِد." فأَخَذوا يفرَحون.
وكانَ ابنُهُ الأَكبرُ في الحَقل . فلمَّا رَجَعَ واقترَبَ مِنَ الدار سَمِعَ غِناءً ورقصاً . فدعا أَحَدَ الخدَمِ واسْتَخْبَرَ ما عَسى أَنْ يكونَ ذَلِكَ . فقالَ لَهُ : " قَدِمَ أَخوكَ فذبحَ أَبوكَ العِجلَ المُسمَّن لأَنَّهُ لَقِيَهُ سالِماً ." فغَضِبَ وأَبى أَنْ يدخُل. فخرَجَ إِليهِ أَبوُهُ يسأَلُهُ أَنْ يدخُل . فأَجابَ أَباهُ : " ها إِنِّي أَخدُمُكَ منذُ سنينَ طِوال , وما عَصَيْتُ لَكَ أَمراً قط . فما أَعطيتَني جَدْياً واحِداً لأَتَنعَّمَ بِهِ مَعَ أَصدِقائي. ولمَّا رَجَعَ إِبنُكَ هذا الذي أَكلَ مالَكَ مَعَ البَغايا ذبحتَ لَهُ العِجلَ المُسمَّن ."
فقالَ لَـهُ : " أَنتَ مَعي دائِماً أَبداً, وجَميعُ ما هو لي فهوَ لَك. ولَكِن قد وَجَبَ أَنْ نتنَعَّمَ ونفرَح لأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيْتاً فعاش, وكانَ ضالاً فَوُجِد." ( لوقا 15/11-32 )
الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل
إنَّ الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل هي أنّ الإنسان الخاطئ يتوهَّم أنَّه إذا استسلم إلى الخطيئة وجد السعادة التي يتوق إليها, ولكنَّه لا يلبث أنْ يذوق مرارة الخطيئة التي أبعدته عن الله مصدر سعادته الحقَّة.
فإذا نَدِمَ على سوء تصرُّفه وعاد إلى الله تائِباً غفر لـه الله خطيئَتَه مهما اشتدَّت شناعتُها. فعلى المسيحيين أن يتوبوا من ذنوبهم كالابن الأصغر, ويقتدوا بالله الغَفور, ولا يستسلموا كالابن الأكبر إلى كبريائهم وحقدهم, بل يتعاملوا بعضهم مع بعض بحنانٍ وتفهُّمٍ ومحبَّةٍ أخويَّة.
إنَّ هذا المثل هو من أجمل الأمثال التي ضربها يسوع وتحدَّث فيها عن علاقة الله بالإنسان الخاطئ, وعن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. إنَّ فيه ثلاث شخصيَّات هي الابن الأصغر, والأب, والابن الأكبر. وإليكم إيضاح هذه الفكرة.
الإبن الأصغر
الإبن الأصغر شابٌّ طائش. لقد ظنَّ أنَّه يجِد في الاستقلال عن سلطة أبيه الوالديَّة السعادة الكاملة التي يتوق إليها. ولكنَّه لم يجد إلاَّ الذلَّ والفقر والحرمان.
إنَّه في الواقع قد أساء استعمال حُريَّته الشخصيَّة إساءةً بعيدة المدى. ولكنَّ تفكيره السليم الهادئ في سوء حالته حمله على العودة إلى أبيه تائِباً مُستغفِراً. فأضحى بذلك قدوةً للمسيحيين الخطأة الذين يتوهَّمون أنَّهم, بارتكاب الخطيئة, يتحرَّرون من سلطة الله أبيهم, ويجدون الهناء وسعادة القلب. ولكنَّهم لا يلاقون في الخطيئة إلاَّ الفقر الروحي, وعبوديّة إبليس والحرمان من صداقة الله ومحبَّته.
فإذا عمدوا إلى التفكير الهادئ والتأمُّل في سوء حالتهم الروحيَّة ندِموا على ما ارتكبوه من المآثِم, واغتنموا المناسبات الدينيَّة الكبرى, كأيَّام الصيام والأعياد وعادوا إلى الله مستغفرين, فنالوا مغفِرة ذنوبهم وعاشوا في صداقة الله عيشة السعادة.
الأب
إنَّ الأب رجلٌ حكيمٌ حنونٌ غفور. لقد فرِح بعودةِ ابنه الضال فرحاً عظيماً, فغفر له سوء سلوكه, وأعاده إلى منزلته البَنَويَّة, من دون أيِّ تردُّدٍ أو عِتاب.
إنَّه يمثِّل الله الحكيم الحنون الغفور الذي يقبل توبة الخاطئ بفرحٍ عظيم. إنَّ في قلبه حناناً أعمق بما لا يُقاس من حنان أحنِّ الآباء. فلن نرى على الأرض أباً يبدي نحو ابنه العاصي حناناً كحنان الله على أبنائِه الخطأة, ومغفرةً لهم كمغفرة الله عند توبتهم وعودتهم إليه نادمين.
إنَّ الهدف الأكبر الذي توخَّى المثل إصابته هو أن يُظهِر لنا أنَّ الله أبٌ حنون يعطف علينا, ويغفر لنا, ويُحِبُّنا حتى وإنْ أسأنا استعمال حُرِّيتنا, وابتعدنا عنه بارتكاب الخطيئة. وهذا ما ينشئ فينا الثقةَ الكاملة بحُبِّه وحنانه, والرَّغبةَ في البقاء بقربه الوالدي, في البيت الأبوي, والتصميمَ على العودة إليه إذا ما ابتعدنا عنه بالاستسلام إلى المعصية.
الإبن الأكبر
1- إنَّ الابن الأكبر شابٌّ نشيط وجادّ ولكنّه حقودٌ ومتكبِّر. لقد اطَّّلع بانزعاجٍ شديد على خبر عودة أخيه. فعدَّد لأبيه أعماله وخدماته بالتفصيل, وعاتبه عتاباً قويَّاً, وألحَّ على ذكر ذنوب أخيه القبيحة, ورفض أن يدخل الدار ويسلِّم عليه تحت تأثير حقده وكبريائِه ورغبته في الانتقام منه. لقد أبدى الأب نحو ابنه الأكبر تنازلاً رائِعاً عندما أخذ يتوسَّل إليه.
وعمِل كلَّ ما في وسعه ليُحرِّك في قلبه عاطفة الأخوَّة ويجعله يشعر بحلاوة المحبَّة التي يجب أنْ تقوم بين الإخوة الأشقَّاء. ولا نعرف ما إذا كان كلام الأب قد أثَّر في قلبه المتحجِّر.
2- إنَّ هذا الابن الأكبر يمثِّل بعض المسيحيين المتكبِّرين الذين يدَّعون التقوى والسيرة الحميدة, ولكنَّهم يستسلمون في قلوبهم إلى الحقد والكبرياء والتعالي والرغبة في الانتقام, ويحتقرون الآخرين, ويتململون في أنفسهم لأنَّهم يعتقدون أنَّ الله لا يُكافئهم على صلاحهم وحسن سيرتهم المكافأة التي يستحقُّونها, ويستغربون كلَّ الاستغراب أنَّه يغفِر للخطأة والفُجَّار خطاياهم ويغمرهم بنِعَمٍ غزيرة لا تليق بسلوكِهم الخاطئ.
3- إنَّ الله يعرف ما في قلوب الناس من ميول شرّيرة ومن عواطف الحسد والتشفِّي والمنافسة الشديدة التي تدفعهم إلى أن ينتقمَ بعضُهم من بعض لأقلِّ هفوةٍ تصدر عنهم. فإنَّ هذه العواطف القبيحة التي تتأجَّج في صدورهم مظهرٌ من مظاهر ضَعف الطبيعة البشريَّة الميَّالة إلى الشرّ بسبب تأثير الخطيئة الأولى التي ورثنا نتائجها الوخيمة من سقطة أبوينا الأوَّلَيْن.
ولذلك فإنَّ الله يبقى أباً غفوراً حنوناً على الجميع لا يرفض أحداً من البشر, بل يغمر الناس كلّهم بعطفه, ويغفِر لهم زلاَّتهم عندما يعودون إليه تائبين.
التطبيق العملي
1- إذا جرَّتك التجربة إلى سوء استعمال حُريَّتِك ودفعتك إلى ارتكاب الخطيئة فلا تُهمل التوبة, بل عُدْ إلى نفسِك بالتفكير والتأمُّل في حالتك الروحيَّة البائِسة. وكُنْ على يقين أنَّ الخطيئة أعظمُ شرٍّ يهدِّدُ سعادتك في الدنيا والآخرة.
2- ولا تيأسْ أبداً مِنْ رحمة الله وحنانه ومغفرته. لقد اطَّلعت من المثل الذي ضربه يسوع على اتِّساع قلب الأب الذي قَبِلَ عودة ابنه الطائِش بالحُبِّ والحنان. إنّ هذا الموقف يدعوك إلى أنْ تثِق بحنان قلب الله وتُقبل على قبول سرِّ المصالحة كلَّما سقطت في الخطيئة عن ضَعفٍ أو طيشٍ أو تعمُّد.
ولا تظنَّ نفسك أفضل من الآخرين مهما اطَّلعت عليه من عيوبٍ تشوِّه حياتهم الروحيَّة, ولا تحتقرْ أحداً كما احتقر الابن الأكبر أخاه- بل عاملِ الجميع بمحبَّة أخويَّة صافية.