فقال له يسوع: ما من أحد يضع يده على المحراث، ثم يلتفت إلى الوراء يصلح لملكوت الله (لو 9 /62)
الأمثال في الكتاب المقدس - مثل الكنز المخفي في حقل
مثل الكنز المَخفي في الحقل
نصُّ الإنجيل
مَثَلُ ملكوتِ السمَاواتِ كمَثَلِ كَنْزٍ مَخَفيٍّ في حَقْلٍ, وَجَدَهُ رَجُلٌ فخَبأَهُ, ثُمَّ مَضَى لِشِدَّةِ فَرَحِهِ فَبَاعَ جَميعَ ما يملِكُ واشتَرى ذلك الحَقل.
( متى 13/44 )
الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل
إنَّ الفكرةَ الأساسيَّة الواردة في هذا المثل هي انَّه يجب على المسيحي أن يعمل كما عَمِلَ حارث الحقل, أيْ أن يتخلَّى عن كلِّ الخيرات الأرضيَّة التي يملكها, مهما كانت محبَّبةً إليه, ليحصل على ملكوت الله, لأنَّ ملكوت الله كنزٌ عظيم له قيمة روحيَّة أسمى بما لا حدَّ لها من قيمة خيرات الأرض الماديَّة كُلِّها.
إنَّ هذا الملكوت الذي تحدَّث عنه يسوع في هذا المثل هو الدين المسيحي. وإليكم إيضاح هذه الفكرة.
الدين المسيحي كنز عظيم
إنَّ من فَهِمَ الدين المسيحي على حقيقته عرَف أنَّه كنز عظيم أثمن من كنوز الأرض كُلِّها.
1- فهو يمنح المسيحي بفضل المعموديَّة المقدَّسة حياةً جديدة تجعله ابناً لله بالتبنِّي, ومسكناً للروح القدس, وأخاً ليسوع المسيح, وأهلاً لأن يتمتَّع بعد هذه الحياة الدنيا بحياة سعيدة دائمة في المدينة السماويَّة.
2- وهو يهَبُهُ نِعَماً روحيَّة فعَّالة, قادرة -إذا كان مِطواعاً لها- على صدِّ تجارب الشيطان, وتحمُّل مشقَّات الحياة اليوميَّة, وممارسة المحبَّة الصادقة لله ولإخوته البشر, ولا سيَّما المساكين منهم والضعفاء.
3- وهو ينير ذِهن المسيحي بنورٍ سماويٍّ صافٍ يبيِّن له, على ضوء الإنجيل, مقدار حُبِّ الله لكُلِّ واحد مِنَّا نحن البشر الخطأة. فقد أحبَّنا إلى أبعد حدود الحُبّ ولم يتردَّد في بذل ابنه الواحد في سبيل خلاصِنا الأبدي.
4- ويعلِّمُه أن ينشُر بين الناس, في البيئة التي يعيش فيها, فضائل التسامح والتعاضد والتضامن الأخوي والسلام المَبني على العدل والمحبَّة.
5- ويزرع في ضميره الاطمئنان الروحي الناجم عن رضى الله على قيامِه بالأعمال الصالحة, ويؤكِّد له أنَّ الله يُحِبُّه حُبَّ الأب المُحِب لابنِه المحبوب.
ولذلك فإنَّ قيمة الدين المسيحي تفوق قيمة كُلِّ كنزٍ أرضيٍّ, مهما كان ثميناً, لأنّه كنزٌ إلهيٌّ قد وضعه الله في حقل حياة الإنسان ليكتشفَه ويفرح به فرحاً أشدَّ وأسمى من فرح الحارث الذي اكتشف الكنز الأرضي المَخفي في الحقل.
الدين المسيحي جدير بكُلِّ تضحية
إنَّ حارث الحقل ضحَّى بكُلِّ ما يملك ليحصل على الكنز المَخفي الذي اكتشفه. فكذلك الدين المسيحي, وهو الكنز العظيم, جدير بكُلِّ تضحية للمحافظة عليه والتمتُّع بفوائِدِه الروحيَّة.
1- ولا بدَّ من القول إنَّ الدين المسيحي دين إيمانٍ عميق حيّ ومحبَّة عمليَّة متواصلة, وهو يتطلَّب الجَهْد والبذل والعطاء. فمن اكتفى بأن يحمل الاسم المسيحي, وينصرف انصرافاً كلِّياً إلى أعماله وتسلياتِه وملذَّاته, من دون أن يقومَ بواجباته الدينيَّة, ويساعدَ اخوته المتألِّمين, ويؤازرَ مشاريع الكنيسة الرسوليَّة والاجتماعيَّة, كان دينُه سطحيَّاً لا فائِدةَ له منه للحياة الأبديَّة, لأنَّه لم يفهم ما الدين المسيحي على حقيقته, ولم يَقُمْ بالتضحية التي تقتضيها منه قيمتُه السامية.
2- إنَّ أجدادنا الشهداء فهموا بعمقٍ قيمة الدين المسيحي, فتخلَّوا في سبيله عن أموالهم وراحتهم وسمعتهم, بل عن حياتهم أيضاً، فتحمَّلوا الاضطهادات بشجاعة. وقد يهزأُ بعض المسيحيين الفاترين ببطولتهم ويعتبرون تصرُّفهم الديني الصامد والمتحمِّس, جنوناً وتعصُّباً. إنّهم لم يفهموا أنَّ الدين المسيحي كنز عظيم جدير للمحافظة عليه بكُلِّ تضحية.
3- أمّا المسيحيّون الأتقياء, الأوفياء لإيمانهم, فيعرفون عظَمة الدين المسيحي وقيمته الإلهيَّة. ولذلك فإنَّهم يقومون بكلِّ تضحية يطلبها منهم الربّ يسوع في سبيل المحافظة عليه وتتميم وصاياه. وكما تمتَّع الحارث بمنافع الكنز الأرضي الذي اكتشفه في الحقل, فكذلك يتمتَّعون في دار السعادة الأبديَّة بأمجاد الكنز الروحي الذي اكتشفوه في سموِّ تعليم يسوع, وحافظوا عليه بأمانة طَوال حياتهم على هذه الأرض.
التطبيق العملي
لا تكتفِ في حياتك بالممارسات الدينيَّة الخارجيَّة الفارغة التي لا تفيدك لتحقيق سعادتكَ الأبديَّة, بل ابحثْ بعمقٍ عن قيمة الدين المسيحي التي لا تُقدَّر. أمّا الوسائل التي تمكِّنك من معرفة قيمته فهي:
1- الصلاة الحارَّة وفيها تتحدَّث مع يسوع الذي يبيّن لك روعة الدين المسيحي وسموَّه وجماله، فتشعر بأنّكَ تتمتّع بكنزٍ لا مثيلَ له.
2- التأمُّل الهادئ في الإنجيل المقدَّس. إنَّه نور قلبك, ودفء حياتك, وطريقك الأمين الذي يؤدِّي بك إلى معرفة الوحي المسيحي والإطلاع على عقلية يسوع بعمق.
3- سلوك حياة التقوى التي تتَّصف بممارسة الفضائل التي مدحها يسوع في التطويبات الإنجيليَّة, ومن أهمِّها نقاوة القلب التي تكشف لك صفاء الدين المسيحي.
بهذه الوسائل الروحيَّة تعرف قيمة الدين المسيحي معرفةً صحيحة, وتنعم بهذا الكنز العظيم الذي هو أثمن كنوز الدنيا كُلِّها.
غير أنَّ معرفة قيمة الدين المسيحي وحدَها لا تكفي لأَن تكون سعيداً في الدنيا والآخرة. فلا بدَّ لك من أن تُحافظ على هذه القيمة السامية بالجَهد الروحي الذي دعاكَ إليه يسوع لتحيا حياة الكمال المسيحي. قال لنا:
" كونوا كاملينَ كما أَنَّ أَباكم السماويَّ كامل ." (متى 5/48)
فاطلبْ بصلاتك الحارَّة نعمة الجِهاد الروحي ليبقى هذا الكنز محفوظاً في قلبك.