Skip to Content

في فضيلة الصدق - البطريرك مار نصرالله بطرس صفير .

في فضيلة الصدق

Click to view full size image

وهي

 

الرسالة الحادية والعشرون التي يوجّهها صاحب الغبطة والنيافة، البطريرك الكردينال

مار نصرالله بطرس صفير

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

إلى

أبنائه الموارنة اكليروسا وعلمانيين

في مناسبة الصوم الكبير

2006

 

الكردينال مار نصرااله بطرس صفير

بنعمة الله

بطريرك انطاكية وسائر المشرق

 

إلى جميع اخواننا المطارنة، وجميع أبناء كنيستنا، اكليروسا وعلمانيين

أيها الأخوة والأبناء الأعزاء

السلام والبركة الرسولية

 

يسرّنا ان نتوجّه اليكم بهذه الرسالة، التي نصدرها في مناسبة الصوم الكبير، لنسأل الله معكم، خلال أيام هذا الصوم المبارك، أن يمدّنا بالقوّة لنرفع اليه آيات الشكر، ولنوطّد إيماننا به، وبعنايته الإلهية التي تُعنى بأكبر خلائقه وأرفعها قدرا، عنايتها بأصغر خلائقه وأدناها مقاما، على حدّ ما أعرب عنه الرب يسوع في انجيله المقدس: "انظروا إلى طيور السماء، فهي لا تزرع، ولا تحصد، ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها" متى 6: 26. والصوم هو الزمن المقبول، على ما يقول الرب يسوع بلسان بولس الرسول: "في وقت الرضى استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتك. فها هو الآن وقت الرضى، وها هو الآن يوم الخلاص" 2كور 6: 2. وفي زمن الصوم، تتنقى النفوس، وتطهر الأجساد، وتصفو النيات، وينقطع المؤمنون الى عبادة ربهم بصدق واستقامة ضمير. وكان الصوم، منذ القدم، احدى أنجع الوسائل للتقرّب من الله والناس، بقلوب بعيدة عن الضغينة، والحقد، نظيفةٍ ممّا ينأى بها عن مشاعر السلام والمحبة. وهناك شياطين، على ما يقول الرب يسوع، "لا يخرجون من الانسان إلاّ بالصلاة والصوم" متى 17: 21.

ونريد أن نحدّثكم هذه السنة، خلال هذا الصوم، عن فضيلة الصدق، وهي من الفضائل المأثورة لدى الله والناس. أن يكون الانسان صادقا مع الله، و نفسه، والناس، هذا ما يرفع قدره في عين الله ونفسه والناس. وهذا ليس بالشيء اليسير، لأن الكذب أصبح طاغيا، ومتى طغى الكذب وقعت البلبلة. وهذا ما عاقب الله عليه الناس، على ما ورد في مستهل سفر التكوين. "وكانت الأرض كلها لغة واحدة... وقال بعضهم: تعالوا نبنِ مدينة وبرجا رأسه الى السماء، ونقم لنا اسما كي لا نتبدّد على وجه الأرض كلها. واغتاظ الرب ممّا فعلوا فبلبل لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. "فبدّدهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها، وكفّوا عن بناء المدينة. ولذلك سمّيت بابل، لأن الرب بلبل لغة الأرض  كلها. وهناك شتّتهم الرب على كل وجهها" تك 11: 1- 9

 

أولا- الصدق مع الله

 

ان الله يحب الصدق، لأنه هو صادق. والصدق من أولى صفاته تعالى. إن بولس الرسول يقول: فماذا ان كان بعضهم لم يؤمنوا؟ هل يُبطل عدم ايمانهم أمانة الله؟ حاشا! بل صَدق الله وكَِذب كلّ انسان كما هو مكتوب: "لكي تُبَرر في كلامك، وتغلب في قضائك" روم 3: 3-4. ان الله يحب الأمانة، والحقيقة، والصدق، على ما جاء في سفر المزامير: "الرب أمين في كل أقواله، وبارّ في جميع أعماله" مز 144: 13. والصدق هي الصفة التي ركّز عليها السيد المسيح عندما تكلّم عن ألله، أبيه السماوي، فقال: "من أرسلني هو حق، وأنتم لا تعرفونه". يو 7 :28 وكرّرها مرّة ثانية، مخافة ألاّ يكونوا قد أسأوا فهم ما قال: "لي كلام كثير أقوله فيكم وأدينكم. لكن الذي أرسلني صادق. وما سمعته منه، فهذا أقوله للعالم". وكذلك بولس الرسول شدّد على هذه الصفة النبيلة من صفات الله، فقال: "أمين هو الله! فان كلامنا اليكم لم يكن نعم ولا"، واذا كان أمينا، فهو صادق، لا يرضى بالمواربة، والخداع، والكذب وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول في رسالته الى العبرانيين بقوله: "لما أراد الله أن يظهر لورثة الوعد ثبات ارادته، تعهّد لهم بقسم، ليكون لنا، نحن الملتجئين الى التمسّك بالرجاء المعدّ لنا، عزاءٌ قوي بالوعد والقسم، وهما امران ثابتان، يستحيل أن يكذب الله فيهما".

والحقيقة والعدالة مرتبطتان ارتباطا وثيقا، على ما أوضح البابا بيوس الثاني عشر الذي قال: "ان العالم في حاجة الى الحقيقة التي هي العدالة، والى هذه العدالة التي هي الحقيقة". وعلٌق البابا يوحنا بولس الثاني على هذه العبارة بقوله: "ان عدالة الله وشريعة الله هما شعاع من الحياة الالهية. لكن العدالة البشرية عليها هي أيضا أن تبذل جهدها لكي تعكس الحقيقة بمشاطرتها تألّقها. يقول القديس توما الأكويني: "ان العدالة تُدعى أحيانا الحقيقة"، أي تألّق الشريعة.. ويجب أن تُمارس العدالة وفق الحقيقة، أي وفق العقل السليم، أي وفق الحقيقة... ويتابع قائلا: "ان محبة الحقيقة لا يمكن الاّ ان تُترجم بمحبة العدالة، وبالتالي بجهد لاحقاق الحقيقة في العلاقات في داخل المجتمع البشري". و"الله هو الطريق، والحق، والحياة" على ما يؤكّد الانجيلي يوحنا. ان بولس الرسول يقول: "لا بدّ للضمير من أن يستنير بالروح القدس". وأن لا يسلك بخداع، ولا يغشّ بكلمة الله، بل أن "يظهر الحق"... ولكنّنا ننبذ الأساليب الخفيّة المخجلة، ولا نسلك طريق المكر، ولا نزّور كلمة الله، بل اننا باظهار الحق نُظهر أنفسنا تجاه ضمير كل انسان، أمام الله".

وكما أن الله هو الحق والحقيقة، فالمسيح ابن الله هو أيضا الحق والحقيقة على ما أكّد بقوله: "والكلمة صار جسدا وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجد ابن وحيد آتٍ من الآب، ملآن نعمة وحقا". وعندما مثل أمام بيلاطس، وسأله هذا الأخير بنبرة تهكّم ساحق: "أملك أنت اذن؟ أجاب يسوع: أنت تقول اني ملك. اني لهذا وُلدت، ولهذا أتيت الى العالم، لكي أشهد للحق. فكل من هو من الحق، يسمع صوتي". وهذا ما سبق للعهد القديم أن أكّده، على ما ورد في كتاب آشعيا الذي قال: "فالذي يتبارك بهذا الاسم على الأرض، يتبارك باله الحق، والذي يُقسم به على الأرض، يقسم باله الحق، لأن المضايق الأولى قد نُسيت وسُترت عن عيني".

وما دام الله هو الصدق بالذات، يجب أن نتصرّف معه بأمانة وصدق. وهذا طالما تذمّر منه الله بقوله بلسان آشعيا النبي: "ان هذا الشعب يتقرّب اليّ بفيه، ويكرمني بشفتيه، وقلبه بعيد مني، وانما مخافته لي وصيّة بشر تعلّموها". وما جلد المسيح نقيصة كالرياء والكذب، وهذا ما عاب به  الكتبة والفريسيين بكلام من نار، فقال لهم: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراوْون! لأنكم تؤدّون عشور النعنع والشومار والكمّون، وقد أهملتم أهمّ ما في التوراة، أي العدل والرحمة والأمانة. وكان عليكم أن تعملوا بهذه ولا تهملوا تلك... وعاب عليهم تصفيتهم الماء من البعوضة، وابتلاعهم الجمل، وتطهيرهم خارج الكأس والاناء، وداخلهما مملؤ بما كسبوا بالنهب والطمع، وشبّههم بالقبور التي ظاهرها جميل، مزّين، وباطنها نتن، قبيح. وهذا يعني أن باطنهم غير ظاهرهم، فهم يتظاهرون بالبراءة، وهم في الواقع ذئاب مفترسة. وهل من كلام أشدّ وقعا من هذا الكلام على المسامع، بما فيه من توبيخ، وتقريع، وتقبيح؟

إذا كان الكلام لا يترجم ما في الضمائر من نيات، ويعبّر عما يختلج في قلب الانسان من مشاعر وأفكار، فهو تضليل وخداع. وهذا ما رذله السيد المسيح. فهو لا يتوقّف عند المظاهر، خاصة اذا كانت كاذبة، لكنه يريد الحقيقة والواقع، كما هما دون تزييف وتشويه. لذلك قال في كتابه العزيز: "يا بني أعطني قلبك، ولترعَ عيناك طرقي". يقول موجز تعليم الكنيسة اكاثوليكية: "ان كلا من الناس مدعو الى الشفافية والصدق في مسلكه وكلماته. وعلى كل منهم واجب البحث عن الحقيقة، واعتناقها، وتنظيم حياته وفقا لمقتضيات الحقيقة. في يسوع المسيح، ظهرت حقيقة الله بكاملها. فهو الحقيقة. ومن اتبعه عاش بروح الحق، وهرب من الازدواجية، والرياء، والخبث". وهذا ما تأمر به الوصية الثامنة التي تقول: "لا تشهد شهادة زور". وهي وصية تنهى عن تزييف الحقيقة في العلاقات مع الناس. وهذه "وصية أدبية تنبع من دعوة شعب الله ليكون شاهدا لربه الكائن، والذي يريد الحقيقة. وامتهان الحقيقة يعرب، بالكلام والأفعال، عن رفض لالتزام الاستقامة الأدبية: فهذه تُعتبر خيانة أساسية لله، وتخلخل نوعا ما، قواعد العهد"، المقطوع مع الله.

 

ثانيا - الصدق مع الذات

 

من ليس صادقا مع الله، لا يمكنه أن يكون صادقا مع نفسه. واذا كان الانسان الذي يظنّ أنه بامكانه أن يخفي ما يريد اخفاءه عن نظر الله، "الذي يفحص الكلى والقلوب، فكيف بامكانه أن يوهم نفسه بانه صادق مع ذاته؟ يقول المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: "ان الانسان يتجّه من طبعه الى الحقيقة، وهو ملتزم اعلاء شأنها، والشهادة لها. ان جميع الناس، بما لهم من كرامة، ولأنهم أشخاص... وبدافع من طبيعتهم، مجبرون أدبيا على البحث عن الحقيقة، ويخاصة الحقيقة المتعلقة بالدين.. وهم مجبرون على اعتناق الحقيقة، ما ان يعرفوها، وعلى تنظيم حياتهم وفق مقتضيات الحقيقة".

وعندما ينتحل الانسان صفة لينال ما ليس له حق به، وعندما يرتدي قناعا ليظهر للناس حقيقة غير حقيقته، وعندما يوهمهم بأنه صاحب مقام رفيع، وحول وطول، فهذا يُعتبر خروجا على الذات الحقيقية، وخداع لا يلبث أن يظهر ليجلب على صاحبه الخزي والعار. فالصدق مع الذات هو من أوجب واجبات الانسان تجاه نفسه، قبل أن يكون واجبا تجاه الناس.

"فالحقيقة بوصفها استقامة في العمل والتعبير تدعى صدقا، واخلاصا، وصراحة. فالحقيقة أو الصدق هي فضيلة تقوم على الظهور بمظهر الصدق قولا، وعملا، ومجانبة للازدواجية، والرياء". وعلى تلامذة المسيح أن ينبذوا الكذب، وأن يكلّم كل واحد قريبه بالحق، لأننا أعضاء بعضنا لبعض".      والكذب مرذول من طبعه. فهو انتهاك للكلام الذي تقوم وظيفته على ابلاغ الآخرين الحقيقة. والكلام المقصود الذي يراد منه خداع القريب، إنما هو كلام ينافي الحقيقة، ويشكّل خرقا للعدالة والمحبة. ويكون الخطأ جسيما، عندما يكون القصد من الكذب الخداع، الذي قد تكون له عواقب وخيمة على الذين ينحرفون عن الحقيقة. وعلى المرء، وبخاصة المؤمن، أن يعيش في ظل الحقيقة، وأن يشهد لها، وهذا ما فعله السيد المسيح أمام بيلاطس، فجاهر بأنه جاء ليشهد للحقيقة. ولا يخجل المسيحي من هذه الشهادة، على ما أشار اليه بولس الرسول  في رسالته الثانية  الى تلميذه تيموتاوس، بقوله له: "فلا تستحيِ بشهادة ربنا، ولا بي أنا أسيره". وهذه الشهادة هي فعل عدالة يُقرّ الحقيقة، أو يعمل على نشرها: "كل المسيحيين، حيثما يعيشون، من واجبهم أن يُظهروا، بمثل حياتهم، وشهادة كلمتهم، الانسان الجديد الذي لبسوه بالعماد، وقوة الروح القدس، الذي يقويّهم بواسطة التثبيت". ويبقى الاستشهاد أقصى وأسمى درجات الشهادة. فالشهيد يشهد للمسيح الذي مات وقام، والذي ارتبط به بالمحبة. فهو يشهد لحقيقة الايمان، والعقيدة المسيحية. ويواجه الموت بفعل قوّة، على ما يقول القديس اغناطيوس: "دعوني أصبح طعام الحيوانات، اني عبرها أصل الى الله. ويتابع قائلا: "لا نفع لي بجواذب العالم، ولا بممالك هذا الدهر. خير لي أن أموت، لاتحد بالمسيح يسوع، من أن أملك على أقاصي الأرض. اني أبحث عنه هو، الذي مات من أجلنا. هو الذي اريده، والذي قام من أجلنا".

وتلاميذ المسيح، بعد أن "تخلّصوا من الكذب"، يجب أن ينبذوا عنهم كل شرّ، وكلّ غشّ، ورياء، وحسد، وكل نميمة". والرذائل التي تنافي الحقيقة كثيرة، ولا نعددّ منها إلاّ بعضها. منها: الشهادة الكاذبة، والحنث، والحكم الباطل، والنميمة، وهذه كلها تضرّ بصيت الغير. وكل ما يدلّ على المبالغة في الاطراء، واستدرار العطف، ويشجع على الثبات في الاعوجاج، والاعتداد بالذات، والمفاخرة المغالى فيها، والهزء بالغير، والكذب المقصود به قول الخطأ بنيّة الخداع، كل هذا تجب مجانبته. ان الرب يسوع رذل الكذب على أنه عمل شيطاني، فقال: "أنتم من أب هو ابليس، وتريدون أن تعملوا بشهوات أبيكم، ذاك الذي كان منذ البدء قاتل الناس، وما ثبت على الحق، لأنه لا حقّ فيه، عندما بتكلّم بالكذب، يتكلّم بما لديه، لأنه كذّاب وأبو الكذب".

والكذب هو التجنّي المباشر على الحقيقة. ومن كذب قام بفعل ضد الحقيقة ليستدرج الغير إلى الوقوع في الخطأ. والكذب يجرح علاقة الانسان بالحقيقة، التي يشوّهها وفقا للظروف، ولنية الكذّاب، والضرر الذي يلحق بضحايا الكذب. واذا كان الكذب بحدّ ذاته لا يشكّل سوى خطيئة عرضية،  فانه يصبح خطيئة مميتة عندما يسيء إساءة خطيرة إلى فضيلتي العدل والمحبة. ويسئ أيضا الى الحقيقة، وهذا ما شرحه البابا بولس السادس بقوله: "ان صحة العمل تعني انسجاما كاملا بين الفكرة والعمل. وبعبارة أخرى انها تقتضي بساطة روح، وشفافية بين داخل المسلك وخارجه، وصدقية تجتاز، بنور الروح، العاطفة، والكلمة، والأعمال، والعلامات، وكل ما يحدّد الانسان. القديس توما يتحدّث عن حقيقة معاشة. وعندما نصف عادة انسانا يمارس فضيلة الحقيقة في حياته، نتحدّث عن خلق، وعن شخصية صحيحة. وبولس الرسول يقول: "علينا أن نعيش الحقيقة في المحبة." والحقيقة والمحبة توأمان. وهما يحدّدان اجتماعيا الانسان المثالي، أي المسيحي، في أعلى الدرجات، أي القديس. ولكن المجاهرة الاجتماعية بالحقيقة الخاصة غالبا ما تحمل على التصلّب والتعصّب. والمجاهرة الاجتماعية بفعل الخير انطلاقا من مشاعر انسانية غير مؤمنة بالله، تفترض لامبالاة عقائدية غالبا ما تجعل ذلك غير قابل للمارسة، ولا سخيا ولا أمينا... ان الايمان دون محبة يمكنه، في العلاقات البشرية، أن يصبح أنانيا، والمحبة دون ايمان تفتقد دوافع تجعلها ثابتة وبطولية".

والكذب منبوذ من طبعه. فهو تدنيس للكلمة التي تقوم وظيفتها على ابلاغ الحقيقة المعروفة الى الآخرين. والتصميم على استدراج القريب الى الضلال بكلمات تضاد الحقيقة، يشكّل انتقاصا من العدالة والمحبة، ويكون الخطأ أجسم، عندما يُحتمل أن يكون لنيّة الخداع عواقب وخيمة بالنسبة الى الذين يُحوّلون عمّا هو حق.

والكذب (لأنه انتهاك لفضيلة الصدق) هو عنف يُمارس على القريب. فهو يناله في قدرته على المعرفة، التي هي شرط كل حكم وكل قرار. والكذب يخفي بذور الشقاق وانقسام الأفكار، وجميع المضار التي يتسبب بها. والكذب مسيء لكل مجتمع، وهو يخلخل الثقة بين الناس، ويمزّق نسيج العلاقات الاجتماعية.

 

الصدق مع الناس

 

وظيفة الكلام تقوم، على ما أشرنا اليه سابقا، على نقل الحقيقة. فاذا كان الكلام يدلّ على غير معناه، أو على عكسه، فيكون هناك خداع وتضليل. وهذا مسيء إلى الحقيقة والى القريب. وهذا يوقع البلبلة في المجتمع، فلا يعود الناس يفهمون ما يقال لهم. وهذه البلبلة غالبا ما نشهدها في وسائل الاعلام، فتطلق الخبر، ويأتي من يكّذبه، ثم من يؤكّده، ويعلّق عليه، ويسرد ظروفه، الى ما هنالك من أقاويل، حتى ليضيع القارئ، ولا يعود يعرف أين تكمن الحقيقة. وهذا هو الأذى بعينه. ومن طبع الحقيقة أن تشرق كالشمس. قال البابا يوحنا بولس الثاني في يوم الاعلام سنة 1988: "تنمو اليوم وسائل اعلام الجماهير نموّا مذهلا. والروابط التي تنسجها بين الشعوب والثقافات تمثّل أثمن ما تأتي به. ولكني أعلم انكم أنتم رجال الاعلام، تعون النتائج الوخيمة التي قد تشوّه هذه العلاقات بين الشعوب والثقافات: إعلاء شأن الذات، وبامكان احتقار المختلفين أو رفضهم، أن  يزيد من مخاطر التوترات والانقسامات. ومثل هذه المواقف تولّد العنف، وتنحرف عن الاعلام الصحيح وتحطّمه، وتجعل كل علاقة أخوية مستحيلة.

غير أن احترام الآخر، وحسّ االحوار، والعدالة، وأخلاق الحياة الشخصية والاجتماعية السليمة، والحرية، والمساواة، والسلام في الوحدة، والعمل على المحافظة على كرامة الانسان، والقدرة على المشاركة والتقاسم، كل هذه قيم لا بدّ منها في ممارسة دور الاعلام... واذا نظرنا الى فاعلية هذه الوسائل، فان القواعد الأخلاقية تفرض ذاتها على المسؤولين عنها لكي يقدّموا للأشخاص والجماعات صورا تشجّع على تداخل الثقافات،  دونما تعصّب، وعنف،  فيما هي تخدم الوحدة".

ولا يكون الكذب بالكلام وحسب، بل غالبا ما يكون بالمواقف، وطريقة التصرّف، واللباس، والهندام، والقيافة، إلى ما سوى ذلك من أساليب الاخفاء والتنكّر لحقيقة الذات. "وكل خطأ يُقترف ضدّ العدالة والحقيقة، يستدعي واجب التعويض، ولو كان نال فاعله الصفح والمغفرة. وعندما يتعذّر التعويض عن خطأ بصورة علنية، يجب القيام به بطريقة سرّية. واذا كانت قد وقعت عليه خسارة لا يمكن التعويض عليه عنها، مباشرة، يجب ارضاؤه أدبيا، باسم المحبة. وواجب التعويض هذا يتعلقّ بالخطايا المقترفة بالنسبة إلى صيت القريب. وهذا التعويض، الأدبي، وأحيانا المادي، يجب أن يُقدّر على قدر الضرر الذي أصاب الغير. وهو لا بدّ منه ضميريا. ان القديس أغوسطينوس تحدّث عن الخيور الثلاثة: الحقيقة، والمحبة، والحرية. وهذه تسير معا. وهو يدعو الشبان إلى محبّة  الجمال، وكان شغوفا به شديد الشغف. وليس فقط جمال الأجساد الذي قد يّنسي جمال الروح، ولا فقط جمال الفنّ، بل جمال الفضيلة الداخلي، وبخاصة جمال الله الأبدي، الذي يتأتّى منه كل جمال الأجساد، والفنّ، والفضيلة، الله الذي هو جمال كل جمال، وأساس خير كل الكائنات التي هي حسنة وجميلة، وهو جمالها، ومبدؤها، ومنظّمها. وبعد أن تذكّر السنوات التي سبقت ارتداده، انتحب بمرارة لأنه تأخر جدّا في محبة هذا الجمال الذي يدعوه "ممعنا في القدم والجدّة". وهو يريد في ذلك ألاّ يتبعه الشبان، بل أن يحبوا دائما وفوق كل شيء، كل جمال، ويحافظوا باستمرار على ما في شبابهم من تألّق داخلي".

قول الحقيقة ونشرها أمر ملزم للمؤمن، وبخاصة الحقيقية الدينية، على ما أشارت اليه وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني: الحرية الدينية بقولها: "ان على التلميذ واجبا خطيرا تجاه المسيح المعلّم، ألا وهو أن يتعمّق يوما بعد يوم في فهم الحقيقة التي تلقاها منه، وأن يبّشر بها بأمانة، ويدافع عنها بشدّة، نابذا الوسائل المنافية لروح الانجيل. وان محبة المسيح لتدفعه أيضا الى التصرّف بالمحبة، والفطنة، والصبر، مع الناس الذين هم في الضلال، أو يجهلون الايمان".

"ولا يمكن الناس أن يعيشوا معا، ان لم يكن لهم ثقة متبادلة ببعضهم، أي ان لم يظهروا الحقيقة بعضهم لبعض، على ما يقول القديس توما الأكويني. وفضيلة الحقيقة تعطي كل ذي حق حقه. والصدقية تبقى في منتصف الطريق بين ما يجب أن يُفصح عنه، والسرّ الذي تجب المحافظة عليه: وهذه تتضمن الاستقامة والدراية. ومن باب العدالة، يجب على المرء أن يعلن لمرء الحقيقة، يقول أيضا القديس توما الأكويني.

ويرضى تلميذ المسيح بأن "يعيش في الحقيقة"، أي في بساطة حياة تتوافق ومثل المسيح، وتبقى في حقيقته. واذا قلنا اننا في شراكة معه، فيما نحن نسير في الظلام، نكون كاذبين، ولا نعمل الحق". وعلى المؤمن أن يشهد للحقيقة الإنجيلية في كل مجالات نشاطه العام والخاص، ولو كان ذلك على حساب تضحيته بحياته، اذا كان ذلك ضروريا.

الحقيقة هي التي تحرّر، وتنقذ، وتحيي. قال السيد المسيح: "تعرفون الحق والحق يحرّركم". والمسيح هو الحق والحقيقة. وهو ملك ومملكته الحرية. وهو قد لا يعيب علينا ارتكاب الخطأ، بقدر ما يعيب علينا البقاء فيه، والاستمرار عليه. وهذا معناه العيش في الكذب، والاصرار على نوع من الكبرياء، والتشبث بحكمنا الذاتي، وعلى ما نتوهّمه حقا لنا: وهذه الطريقة تمنعنا من الدخول في مخطط الله، حتى ولو كنّا نعيش ظاهرا بصدق، ونجاهر بالايمان. وليس يسوع المسيح راية لفئة اجتماعية من الناس، سواء أكانت كاثوليكية أم غير كاثوليكية، يمكن استخدامها لمحاربة فئات أخرى. ان الذين يبحثون عن الحقيقة ينتمون اليها، أيا تكن أفكارهم، وربما أكثر من الذين يعيشون فيها.

كان اليهود يعتقدون أن العالم قسمان: أبناء ابراهيم، أي هم والباقون. وكانوا يفاخرون بأجدادهم وينسون أن كل انسان هو من هو، بالنسبة الى الله.

وقدّم يسوع ذاته لهم كشاهد للحقيقة، ومجرد وجوده يجبرهم على تفحّص ذواتهم. والحقيقة التي تحدّث عنها يسوع لم تكن عقيدة كان واجبا على تلاميذه أن يفرضوها بالقوّة. فهي لم تكن في حاجة الى مروّجين يتسلّحون بحجج واستشهادات كتابية، بل الى شهود يتحدّثون عن خبرتهم. قال يسوع: "الحق يحرّركم"، والحقيقة كذلك تحرّركم.

والمؤمن الذي يعرف أن الله يحبّه، وهو يجتهد أن يكون صادقا، قد أصبح في الحقيقة، ولو احتفظ ببعض عادات عن محيطه، ولو انقاد، دون وعي منه، في طريقة حياته، الى أكاذيب أو أوهام.

وتحدّث يسوع أيضا عن الحرية. والحقيقة والحرية يسيران معا، على ما سبق لنا أن قلنا. والأفراد كالأمم، لا يدّخرون وسعا لتحطيم قيودهم. وما ان يتحرّروا حتى يقعوا بسرعة في أنواع جديدة من العبودية، لأن أصل العبودية كائن فينا.

وعندما نصنع الشرّ نكون شركاء ابليس، ونقع في شراكه، حتى دون ارادة منا. وتصعب بعدئذ مقاومة الأوهام والتأثيرات السيّئة التي يضع أبو الكذب بواسطتها العالم تحت سلطانه.

وما دمنا نتحرّك دون أن نفكّر بحقيقة حالتنا، فنحن لسنا سوى عبيد، ولو تميّزنا بما لنا من ثروات، ومعارف، ومقام. اننا نضخّم صفوف العالم من أسفل، دائما بطريقة موقتة. وهناك أجيال من العبيد تتوالى وتعبر كموج البحر: العبيد يظلّون في البيت لوقت محدّد، أمّا المسيح فيُدخلنا منذ الآن في عالم آخر، عالم ما فوق، حيث كل شيء باق. ومنذ اللحظة الي نصير فيها أبناء، فان كل ما نصنعه يأتي بثمر للحياة الأبدية.

"قبل أن كان ابراهيم، أنا كائن". وهذه سابع مرّة تظهر فيها "أنا كائن" في هذا الفصل الثامن من يوحنا، وفي هذه المرّة نأخذ هذه العبارة بمعناها الحقيقي الذي لا ينطبق الا على الله وحده. على ما كشف عن نفسه لموسى.

يقول القديس توما الأكويني: "الحقيقة هي كمال العقل". الحقيقة التي نبحث عنها، ونحبها، وندافع عنها، والتي يجب أن تكون بمثابة روح كل جامعة، لأنها الحياة العميقة للعقل البشري. قال البابا يوحنا بولس الثاني في معرض حديثه عن الجامعة الكاثوليكية: "يجب أن تكون الجامعة: "وحدة حية" لأجهزة ترمي الى البحث عن الحقيقة، فيما يحيق بها خطر قائم، وهو أن تبقى مجموعة قطاعات معرفة لا رابط بينها، وفي النهاية، مستقلّة. واذا كان الأمر كذلك، وعندما يكون كذلك، فبامكانها أن تقدّم تربية مهنية جدّية: ولكن هذه تبقى قاصرة عن الهدف المطلوب، وهو تربية إنسانية شاملة وغنية...

ولا بدّ من تطوير هذا الملخص السامي الذي بامكانه أن يطفئ العطش الى الحقيقة المحفور عميقا في قلب الانسان. يقول القديس اغوسطينوس: "الى ما تشتاق اليه نفس الانسان أكثر من الحقيقة؟ فيما كل المخلوقات موجودة دون أن تعرف سبب وجودها، بينما الانسان وحده يتجه بعقله، الى البحث باستمرار عن هذا السبب.

 

أين نحن من الصدق والحقيقة

 

الصدق في القول، وقول الحقيقة، هذه هي القاعدة المألوفة. والخروج على هذه القاعدة افساد للمجتمع وزرع البلبلة في صفوف أبنائه. والمجتمع الذي يفتقد الى الصدق والحقيقة يسير في طريق التفتت والانحلال.

ولا تتوطّد العلاقات بين الدولة، وألافراد، والجماعات، إلا اذا قامت على أساس من الشفافية التامة، والحقيقة السافرة، والصدق الذي لا يشوبه غشّ أو خداع. يقول البابا يوحنا بولس الثاني: "ان الله وحده هو الحقيقة المطلقة. لكنه فتح قلب الانسان على الرغبة في الحقيقة، وهو من أعلنها بملئها في ابنه المتجسّد. وحيثما نزرع الكذب والخداع، يزهر الشك والانقسام. والفساد والتلاعب السياسي أو العقائدي، هما أيضا، يناقضان الحقيقة جوهريا، ويقوَضان أسس العيش المشترك، ويزعزعان امكانية العلاقات الاجتماعية السلمية". أفليست هذه هي حالنا؟

غير أننا قوم يؤمنون بالله وبعنايته الالهية، ونعرف، على ما أشار اليه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في رسالته الأولى "الله محبة" أن "حكاية الحب بين الله والناس تقوم على واقع، وهو أن الشراكة في الارادة تكبر في شراكة الفكر والشعور، وهكذا تتطابق اكثر فأكثر ارادتنا وارادة الله: ليست ارادة الله بالنسبة اليّ ارادة غريبة، تفرضها عليّ الوصايا من الخارج، لكنها ارادتي الذاتية بالاستناد الى الاختبار الدالّ، في الواقع، على ان الله هو أقرب اليّ ممّا انا الى نفسي، واذاك يكبر استسلامي الى الله، ويصبح الله فرحنا".

ويتابع قداسته مستشهدا بالقديس اغوسطينوس: "النظام العادل للمجتمع، والدولة، هو واجب الشأن السياسي الجوهري. وان دولة لا تدار بحسب العدالة، تصبح عصابة كبيرة من الشذّاذ... العدالة هي الهدف، وأيضا المقياس الداخلي لكل سياسة. والشأن السياسي هو أكثر من تقنية بسيطة لتحديد التنظيمات العامة: ان أصله وغايته نجدهما في العدالة. وهذا من طبيعة أخلاقية. وهكذا تجد الدولة ذاتها، اضطراريا، في مواجهة مع هذا السؤال: كيف أحقق العدالة هنا الآن؟ ولكن هذا السؤال يفترض سؤالا آخر أكثر جدية، وهو: ما هي العدالة؟ هذه مشكلة تتعلّق بالعقل العملي، ولكن لكي نعمل بطريقة مستقيمة، يجب تطهير العقل باستمرار، لأن عماه الأخلاقي، النابع من الوقوع في تجربة المصلحة والسلطة اللتين تلطّخانه، انما هو خطر لا يمكن القضاء عليه تماما".

 

وضعنا الداخلي

 

واذا عدنا الى وضعنا الداخلي، ماذا عسانا أن نرى؟ أفلا نرى التجاوزات، والانتهاكات، والارتكابات، وما أكثرها!.      

كم ارتُكبت عندنا من جرائم، ولم يعلم أحد، حتى اليوم، من كان الفاعلون. ولو اكتُشفوا ونالوا عقابهم بعد التشهير بهم، لما كان جرؤ غيرهم على ارتكاب ما ارتكبوا!

كم حدث من سرقات في مؤسسات رسمية وغير رسمية، ولم يجرؤ أحد على اكتشافها، واعلان أسماء فاعليها، والسرقات ما زالت تتوالى، ويجهّل الفاعلون!

كم من الموظّفين الذين تُسند اليهم وظائف ويتقاضون عنها رواتب، وهم لا يأتون عملا، فيما من لديهم الكفايات يُقصون عنها لرفضهم الاستزلام لهذا أو ذاك من النافذين!

كم من الشبان من حملة الشهادات الجامعية العليا الذين يسافرون الى بلدان بعيدة للعمل، لأن بلدهم لبنان لا يعرف أن يستخدمّ طاقاتهم، وعلمهم، واستعدادهم للعمل باخلاص، ليأتي المسؤولون فيه بمن هم دونهم قدرة وشهادات علمية، ولا كفاية لهم سوى انتمائهم الى هذا أو ذاك من هؤلاء المسؤولين!

كم من هدر يصيب مالية الدولة عندما يساهم أهل الحكم في انشاء شركات تستأجر مرافق الدولة بطرق تتجاوز القوانين، وبأجور بخسة، لأسباب أصبحت معروفة، فيما يُستبعد سواهم ممّن هم على استعداد لدفع الأجر العادل!

كم من تجاوزات للقوانين لدى بعض المسؤولين الذين، على ما يقال، يجعلون الأسود أبيض، لقاء اكراميات، دون أن يطرف لهم جفن، أويخزهم ضمير، ولا مراقبة، ولا حساب!

هذا فضلا عن المتاجرة بالنفوذ، وغضّ النظر عن هذه الجماعة أو تلك، عندما تمتنع عمّا يتوجب عليها من مستحقات لشركة الكهرباء والماء، وما سوى ذلك مما له صلة بالدولة.

وقد نشرت بعض الصحف أن في نية الدولة أن تزيد الضرائب على المواطنين، لأنها في حاجة إلى المال، فيما الشعب أصبح بمجمله يشكو الفقر والعوز. أفما كان الأجدر بها أن تضبط الهدر والانفاق غير المجدي، بدلا من أرهاق الشعب الفقير بالضرائب؟ وهذه فرصة لها لتثبت أن الهدر لم تتسبّب به هي، بل سواها من الطارئين على الوطن.

وأنى للبلدان، التي تريد أن تساعدنا لتحسين أوضاعنا المالية، أن تفعل، عندما ترانا نتقاعس عن ضبط نفقاتنا، ونرى الهدر حولنا، ولا نحرّك ساكنا لوضع حدّ له!

هذا على صعيد الدولة. أما على صعيد العلاقات بين الأفراد والجماعات، فليس الوضع أحسن حالا. وغالبا ما يكون الصدق في معاطاتنا فيما بيننا ضحيتنا الكبرى، فنفعل غير ما نقول، ونقول غير ما نفعل. ويكون التكاذب أحيانا خير وسيلة للارضاء، غير أنه ارضاء عابر يترك بعده جراحا عميقة، لكيلا نقول حقدا دفينا.

ولكننا، على الرغم من كل هذه الثغرات الكبيرة، نؤمن بوطننا، وبأنه قادر على القيام من محنته ليسلك سبيل الصدق والاستقامة، اذا توفّر له رجال يعملون في سبيل اعلاء شأنه، أكثر ممّا يعملون في سبيل تحسين وضعهم، ووضع من حولهم على حساب  الوضع العام.

 

الختام

 

ولا بدّ لنا، في ختام هذه الرسالة من تذكير أخواننا وأبنائنا المسيحيين بما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر في رسالته الأولى: "ان الله محبة"، وهو ان الاتحاد بالمسيح هو، في الوقت عينه، اتحاد بكل الذين يعطيهم ذاته. ولا يمكنني أن أملك المسيح وحدي. ولا يمكنني أن انتمي اليه الا بالاتحاد بجمبع الذين أصبحوا أو سيصبحون خاصته. والاتحاد به يسحبني من ذاتي ليخرجني اليه، وفي الوقت عينه، الى الوحدة مع جميع المسيحيين. لنصبح "جسدا واحدا" يذوب في وجود واحد... "ومحبةالله تصبح أكذوبة اذا انغلق الانسان عن قريبه، وأكثر من ذلك، اذا كان يبغضه. ويجب تفسير فقرة الانجيلي يوحنا بمعنى أن محبة القريب هي أيضا طريق لملاقاة الله، وأن اغماض العينين عنه تعمي أيضا أمام الله.

وعلينا أن نؤمن بأن الله هو دائما معنا، وبأن عنايته تشملنا، وهذا ما أعربت عنه رسالة قداسته بقولها: ان الله جعل نفسه منظورا: في يسوع بامكاننا أن نرى الآب. وفي الواقع، ان الله جعل نفسه منظورا بطرق مختلفة. وفي قصة الحب التي يخبرنا عنها الكتاب المقدس، فهو يأتي لملاقاتنا، ويسعى الى اكتسابنا، حتى في العشاء الأخير، وحتى الى القلب المطعون على الصليب،  وظهور القائم من الموت، والأعمال الكبيرة التي قاد بها، عبر عمل الرسل، طريق تاريخ الكنيسة المولودة حديثا. وأيضا لاحقا في تاريخ الكنيسة، لم يكن الرب غائبا أبدا: فهو يأتي مجدّدا الى لقائنا، بواسطة أناس يظهر عبرهم، وعبر كلامه، في الأسرار، وخاصة في الأفخارستيا. وفي طقس الكنيسة، وصلاتها، وفي جماعة المؤمنين الحيّة، نختبر محبة الله، ونشعر بوجوده، ونتعلّم أيضا بهذه الطريقة أن نتعرّف اليه في حياتنا اليومية. فهو أحبنا أولا، ويواصل محبته ايانا أولا. لذلك، نحن أيضا بامكاننا أن نجيب على المحبة. والله لا يوجب علينا عاطفة لا يمكننا أن نثيرها في داخلنا. فهو يحبنا، ويرينا محبته، وباستطاعتنا أن نختبرها، وانطلاقا من "محبة الله الأولى هذه"، وبمثابة جواب، بامكان المحبة أن تنبجس فينا".

وليس منا من لا يدرك أن زمن الصوم هو زمن المصالحة مع الله والناس. وهذه المصالحة لا تتمّ إلا بتنقية القلوب، ومبادرة الغير بالصفع والغفران، ذاكرين ما يقوله الرب يسوع: "ان لم تغفروا للناس زلاّتهم، فأبوكم أيضاً لا يغفر لكم زلاّتكم". ولا نكتمكم أنه يضيمنا أن نرى أبناءنا المسيحيين لا يقدّمون عن ذاوتهم صورة تذكّر بالمسيحيين الأولين الذين كانو مضرب مثل بمحبة بعضهم بعضا بحيث ان غير المسيحيين كانوا يقولون عنهم، على ما قال أحد الآباء الأقدمين: "انظروا كم يحب بعضهم بعضا".

هذا ونضع مصيرنا بين أيدي شفيعتنا المشفّعة، العذراء مريم، أم الله التي عرفت، على مدى التاريخ كيف تكون لنا الأم الحنون. وانا لموقنون أن عاطفة الأم لديها ستبقى حية، لا يدركها الوهن. وهي ستبسط جناح حمايتها عليكم، مثلما بسطته على آبائكم وأجدادكم في هذا الوطن، وستحفظكم جميعا، أينما كنتم، في شرق وغرب، لتبقوا لها الأبناء المخلصين، ولابنها يسوع المسيح رسلا ناشطين بما ينشرون حولهم من محبة، وطمأنينة، وسلام.

وعلى هذا الأمل، نسأل الله أن بشفاعة القديس مارون، أن يبارككم جميعا ويسدّد خطاكم الى الخير والتوفيق، ويشملكم برضاه وبركاته.

عن كرسينا في بكركي، في الخامس عشر من شباط سنة 2006

الكردينال

نصرالله بطرس صفير

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +