لِيَخْزَ المُعادونَ لِنَفْسي و يَفنوا ولْيَلنحِفِ العارَ و الفَضيحةَ طالِبو مَساءتي (مز 71 /13)
الأمثال في الكتاب المقدس - مثل الإبنين
مثل الابنَيْن
نصُّ الإنجيل
كانَ لِرَجُلٍ إِبنانِ . فدَنا مِنَ الأَوَّلِ وقالَ لَهُ : " يا بُنَيَّ , اِذهَبِ اليومَ واَعمَلْ في الكَرْم ." فأَجابَهُ : " لا أُريد ." ولَكِنَّهُ نَدِمَ بعدَ ذلِكَ فذَهب .
ودَنا مِنَ الآخرِ وقالَ لـهُ مِثْلَ ذلِكَ . فأَجابَ : " ها إِنِّي ذاهِبٌ يا سيِّد ." ولكنَّهُ لَمْ يذهَبْ. قال يسوع : " فأيُّهما عَمِلَ بمشيئةِ أَبيهِ ؟ " قالوا: " الأَوَّلُ ." قالَ لهُم: " الحقَّ أَقولُ لكُم إنَّ العشَّارينَ والخاطِئاتِ يسبِقونَكم إلى ملكوتِ الله."(متى 21/28-32 ).
الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل
إنَّ الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل هي أنَّ المسيحي الصادق لا يرفض لله أمراً, بل يُطيعه طاعة الابن المُحِب لأبيهِ الحبيب. ولا يستسلم إلى الرياء فيتظاهر بالطاعة من دون أن ينفِّذ إرادة الله. إنَّه يُطيع الله طاعةً فوريَّة مستمرَّة وكاملة بالقول والعمل, ومن دون أيِّ تردُّد. وإليكم إيضاح هذه الفكرة.
سلوكُ الابن الأوَّل عصيانٌ وندامة
إنَّ الابن الأوَّل الذي رفض الطاعة ثمَّ ندِم وذهب إلى الكرْم شابٌّ عاصٍ, بل متمرِّد, يميل إلى المقاومة, حتى إلى مقاومة سُلطة أبيه. إنَّه لا يعرف قيمة الطاعة البَنَويَّة ولا يُقدِّر جمالها. فظهرت لنا نفسُهُ صخرةً قاسية وقشرةً يابسة.
ومع ذلك فإنَّنا لا نلبث أن نكتشف تحت هذه الصخرة الصمَّاء ماءً صافياً, وتحت هذه القشرة اليابسة نَواةً لذيذة الطعم.
إنَّ ميله إلى العصيان قد سبق تفكيره وطغى عليه. ولكنَّه لمَّا هدأت نفسه ورجع إلى ذاته شعر بأنَّه قد أساء التصرُّف مع أبيه فندِم على سلوكه المتمرِّد وأطاع أباه ونفَّذ إرادته.
سلوك بعض المسيحيين العُصاة
إنَّ هذا المثل يُشير إلى بعض المسيحيين العُصاة الذين يُشبهون هذا الابن العاصي الذي رفض الطاعة ثمَّ نَدِمَ على عصيانه فنفَّذَ إرادة أبيه. إنَّهم مارقون عن الدين, يأنفون الصلاة, ويكرهون العبادة, وينشرون الشكوك والعثرات بين الناس, ويعيشون في جوٍّ مشحونٍ بالخطايا والعادات السيِّئة.
ومع هذا, فإنَّ ضمائرهم تبقى حيّة, ونفوسهم لا تزال حسَّاسة لشؤون الدين. ففي أثناء الضيق يصمدون أمام المحنة, ويظهرون أمناء لدينهم, فيدافعون عن الإيمان والكنيسة والقِيَم الروحيَّة. ولا نستغرب أن يأتي يومٌ يندمون فيه على سلوكهم الماضي الأثيم ويحيَون حياة التقوى والفضيلة والطاعة لله في كلِّ شيء. وكلُّ ذلك يعود إلى تأثير نعمة الله فيهم وميول قلوبهم المستقيمة.
سلوكُ الابن الثاني رياءٌ وعصيان
لمَّا رأى الأب أنَّ ابنه الأوَّل رفض الطاعة, توجَّه إلى ابنه الثاني, وطلب منه أنْ يذهب إلى الكرْم ويعمل فيه فأجابه: "ها إنِّي ذاهبٌ, يا سيِّد." ولم يذهبْ.
لقد تظاهر بأنَّه ابنٌ مطيع. ولم يكتفِ بأن يقول: "ها إنِّي ذاهب" بل أضاف إلى قولـه كلمة "يا سيِّد" ليدلَّ بها على عِظَمِ احترامه لسلطة أبيه. إنَّه شابٌّ مراءٍ كذَّاب يتظاهر بما ليس فيه, ويعصي أمر والده.
سلوك رؤساء اليهود المراؤون العُصاة
لقد وصف هذا المثل سلوكَ رؤساء اليهود المرائين الذين تصرّفوا كما تصرَّف الابن الثاني المرائي. كانت تقواهم في ظاهر سلوكهم فقط, ولم يكن لها أيُّ أساسٍ ثابت في قلوبهم. لقد عرفوا إرادة الله فتظاهروا بأنَّهم يطيعونه طاعةً كاملة, فأقاموا الصلوات في المجامع, وقدَّموا الضحايا في الهيكل, واحتفلوا بالأعياد احتفالاتٍ عظيمة. ولكنَّ هذه الأعمال كانت مظاهر خارجيَّة فقط تنقصها القيمة الجوهريَّة وهي طاعة قلوبهم, وتوبة ضمائرهم, وعملهم بإخلاص لأجل مجد الله, من دون مراعاة أيَّة مصلحةٍ شخصيَّة. لذلك سَخِرَ يسوع بمظاهر تقواهم الفارغة وقال لهم: " إِنَّ العشَّارينَ والخاطئاتِ يسبِقونَكُم إِلى ملكوتِ الله ."
سلوك بعض المسيحيين المرائين
يتصرَّف بعض المسيحيين المرائين كما تصرَّف الفرِّيسيُّون. إنَّ دينهم مجموعة أقوالٍ ونظريَّات لا غير. إنَّهم أوراق شجر من دون ثمر, وكلامهم فارغ من دون عمل. فما نفع مقاصدهم الصالحة إذا لم ينفِّذوها؟ وأفكارهم المُثلى إذا لم يحقِّقوها؟ وبرامجهم الواسعة إذا أبقوها حبراً على ورق؟ وخطبهم الحماسيَّة إذا أفرغوها من كُلِّ تأثيرٍ روحيٍّ فعَّال في النفوس؟
إنَّ التقوى الحقَّة لا تكتفي بالكلام, بل تقرن القول بالعمل. قال يسوع فيهم: " ليسَ مَنْ يقولُ لي : يا ربّ , يا ربّ , يدخل ملكوتُ السماواتِ , بل مَنْ يعمَلُ بمشيئةِ أَبي الذي في السماوات." (متى 7/22 ) إنَّ المسيحيين الذين يكتفون بالأقوال فقط من دون أن يقوموا بالأعمال الصالحة طاعةً لله يسمعون من يسوع في يوم الدينونة هذا الحُكم الشديد:" إِنِّي ما عرَفتُكُم قطّ . إِليكُم عنِّي أيُّها الأَثَمَة.
"(متى 7/23 ).
سلوكُ الابن الثالث طاعةٌ مثاليَّة بالقول والعمل
إنَّ المثل لا يذكر إلاَّ اِبنَيْن. وهذان الابنان لم يكونا مثالِيَيْن في سلوكهما, لأنَّ الابن الأوَّل رفض الطاعة في بادئ الأمر, والابن الثاني كذب على والده ولم يُطِعْ أمره.
هناك ابن ثالث لم يذكره المثل, ولكنَّه ابنٌ حيٌّ, يقول ويعمل, ويعمل كما يقول: إنَّه يسوع المسيح, ابن الله الأزلي. إنَّه لم يقل قطّ لأبيه السماوي: "كلا" بل قال دوماً لأبيه: "نعم", وقرن باستمرار القول بالعمل.
لقد قال: "نعم" لأبيه السماوي لمَّا تجسَّد. وكانت تفاصيل حياته كلِّها سلسلة "نعم". قال قَبْلَ أن يُقدِم على آلامه: " لا تكُنْ مشيئتي , بل مشيئتُك ." وقرن القول بالعمل, فقدَّم ذاته ذبيحةً طاهرة على الصليب طاعةً لإرادة أبيه السماوي, في سبيل فداء البشريَّة وأنقاذِها من اللّعنة الأبديّة .
الابن الثالث هو المثال الأسمى للمسيحيين
إنَّ السلوك المسيحي الصحيح هو سلوك الابن الثالث الذي خضعت إرادته لإرادة أبيه السماوي, وأطاعه طاعة كاملة لا عن ضغطٍ ولا عن ضَعفٍ, بل عن حُبٍّ سامٍ لا حدود له.
فالمسيحيُّون الصالحون لا يقولون لله بعنادٍ وعصيان: "كلا" ثمَّ يشعرون بخطئهم كالابن الأوَّل فيتوبون وينتقلون من التمرُّد والعصيان إلى الطاعة والعمل, ويقولون لله: "نعم" ويعملون وَفْقَ إرادته تعالى.
ولا يقولون: "نعم" بسرعة ورياء كالابن الثاني- ولا يعملون بما يقولون, فينزعون عن قولهم كُلَّ قيمةٍ وصدقٍ وحقيقة.
بل يتصرَّفون كالابن الثالث فيقولون لله "نعم" ويعملون بمشيئته في طاعةٍ كاملة. فالابن الثالث, وهو يسوع المسيح, ابنُ الله المتجسّد, هو المثال الأعلى لكُلِّ مسيحي, لأنَّه قال وعَمِل, فقَرَن القول بالعمل, وكانت حياته دوماً "نعم" لإرادة أبيه السماوي.
التطبيق العملي
1- العصيان والرياء رذيلتان يكرههما الله كراهيَّةً شديدة. فأطِعِ الله بصدقِ ومحبَّة في كلِّ ما يأمرك به. ولا تظنَّ أنَّ من عصى الله أو كذب عليه تعالى تمتَّع خيراً بثمار عصيانه أو كَذِبِه. فالمسيحي الحقّ يتشبَّه بيسوع المسيح الذي أطاع أباه دوماً بقوله وعمله.
2- إنَّ في طاعة الله صعوبةً كبيرة عندما تُداهِمُك التجربة من الشيطان أو من إغراء العالم. فلا تتَّكلْ على قوَّتك الخاصَّة لأنَّك تبقى دوماً ضعيفاً أمام مظاهر الخطيئة الجذَّابة. فألجأ إلى الصلاة واطلبْ نعمة القوَّة من الله لتكون دوماً طائِعاً.
3- إنَّ في طاعة الله صعوبة أخرى عندما يدعوك إلى أن تقوم برسالةٍ معيَّنة في سبيل إخوتك المسيحيين أو في سبيل الكنيسة. إِقتدِ بيسوع الذي لم يتردَّد قط في تنفيذ رسالته الخلاصيَّة حُبَّاً لإخوته البشر ورغبةً في نشر الكنيسة المقدَّسة في العالم