سَبَقَت عَينايَ الهَجَعات لِلتَّأَمّلِ في قَولكَ (مز 119 /148)
تأملات شهر ايار - 4 - مريم والامومة الالهية /4 - رعية مار شربل الارن
٤ أيار |
((ماذا يقول ملافنة الكنيسة في أمومة مريم الإلهية؟))
١ أمومية مريم هي حقاً إلهية وحقّاً بشرية. ففيها وبها صار الكلمة جسداً. هذا لا يعني أنها حبلت بالكلمة بحسب الطبيعة الإلهيّة، بل بحسب الطبيعة البشريّة. غير أنها، والحق يقال، أمّ الأقنوم الإلهيّ في بشريّته... هذه الأمومة قائمةٌ منذ اللحظة الأولى للحبل، فهي منذئذٍ إلهيّة تماماً لأنّ ألآب هو، في الروح القدس، مبدأُها الأوّل. وهي بشريّة تماماً لأنّ مريم قد حَبِلتْ جسديّاً في حشاها، فكانت أمّاً بلحمها ودمها وأنوثتها وسلطتها وعنايتها وتربيتها وحنانها.
٢ هذه الأمومة تجعل مريم في قُربى فريدة مع الله، في علاقةٍ شخصيّة وسرّيّة مع ألآب والروح والكلمة المتجسّد، بحيث إنه ليس هناك ولن يكون من علاقةٍ مماثلة بين الله وإنسانٍ آخر.
٣ أنعمَ الله على أمّ ابنه بقداسةٍ لا تشوبها شائبة، على مثال قداسته هو. كما وأراد لولادة ابنه الزمنيّة أن تكون بتوليّة، على مثال ولادته الأزليّة.
٤ ابن ألآب وابنُ مريم ليسا ابنين، بل الابن الواحد بالذات، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.
٥ بين الأم والولد، ثمرةِ الحشا، ألفةٌ عميقة وحميمة، وعلاقةٌ متشعبَةٌ تكوّن فيه مُعطياتٍ أساسيّة سوف تُرافقه على دروب الحياة. وعليه فإنّ يسوع الإنسان مطبوعٌ بأمّه مريم وحدها في مجال الوراثة. يقول ليوناردو بُوف: ((منحت مريم الله كلّ النواحي الإنسانيّة التي تَكَلّفها الأقنوم الإلهيّ. إذاً، هناك شيء من مريم قد صار في الله. هناك شيء من الأُنوثة قد أُلّه وصار في الأزل. ألم يقل مار افرام إنّ جسد المسيح، حتّى الإفخارستيّ، هو جسد مريم؟ كما ويقول في أناشيد الصلْب: ((إنّ حبّة العنب المولودة من مريم قد عُصِرَت في كأس الخلاص.)) والقديس أغسطينُس ألم يقل: ((جسدُ المسيح، جسدُ مريم)) ((Cari Christi,caro Mariae.
٦ مريم أمّ أكثر من جميع الأمهات. فابنها مدينٌ لها وحدها بما هو على الصعيد البشريّ، دون مساهمة الرجل. خليّةُ الانطلاق الأولى لم تكن هنا مزدوجة المصدر،X وY، إلاّ X الأنثى وحدها. العنصر الأبويّ الإنسانيّ للصبغيّة لا وجود له. مصدر الصِبغيّات الوحيد هو هنا جسم الوالدة. إذاً، بنيةُ يسوع المِزاجيّة، وجهازُه البيولوجي، صادران عن جسمها وحده. فعلى الصعيد الإنساني، يسوع غيرُ متعلّق إلاّ بأمّه، وهو يشبه أمه أكثر بكثير من أيّ ولدٍ آخر. قال أحدهم: ((حسده ودمه أتياه، أصلاً، من مريم. فجسد مريم ودمها هما جسد يسوع ودمه، والعكس بالعكس. فبينهما، من هذا قبيل، ارتباطٌ متأصِّل وتضامنٌ جسمانيّ ينتج منهما لمريم تكريسٌ تتفرّد به.)) ولذا فلقد قال توما الأكويني، مُنبِّهاً: ((إنسانيّة المسيح، وأمومة العذراء، هما من الارتباط المتبَادل بحيث إنّ من يُخطئ في تقديره للواحدة، يُخطئ في تقديره للأُخرى.))
٧ إن كان في وسع مريم، حتى البشارة والتجسّد، أن تُنادي الله قائلة: ((ربّي وإلهي!))، صار في وسعها، وهي تحمل في حشاها الكلمة المتجسد الذي سيولد منها، أن تقول: ((ربّي وولدي!))... ((ولدي)): هذه الكلمة يقولها ألآب، وهي الكلمة نفسها تقولها مريم بكلّ حق. هل من شيء يجمع بين اثنين، مثل الولد؟ فأيُّ جمعٍ هو هذا الذي يجمع بين ألآب الذي يقول ليسوع: ((ولدي!))، ومريم التي تقول له أيضاً، وحقيقةً: ((ولدي!)) وأيّ سرٍّ هو هذا، عميقٍ، سحيقٍ وشفّافٍ معاً، أن تقول امرأةٌ، بكلّ حقّ وجدارة وابتهاج، لابن الله الذي صار جسداً في حشاها: ((يا بُني!))؟ وأيّ سرٍّ هو هذا، أن يقول إلهٌ صار إنساناً، للمرأة التي ولَدَتْه: ((أمّي!))، [وبِلُغتِه الأراميّة: ((إمّا!))...]
٨ أُمومة مريم الإلهيّة دليلٌ على أنّ الفداء لم يهبِط علينا بمظلّة. أراد المسيح أن يولد ((من امرأة)) (غل 4\4)، لأنّه أراد أن يكون من النسل الآتي ليخلّص. أراد أن يخلصنا من الداخل، بوسائل من عندنا. أراد أن يساعدنا كأخ لنا، إنسانٍ تامّ (من نسل المُسيئين) والهٍ تامّ (من نسل الإله المُساء إليه). أراد أن يكون وسيطاً بمنتهى الكمال، جامعاً في ذاته الفريقين اللذين أتى ليصالحهما...
٩ أمومة مريم الإلهية تحقيقٌ للكنيسة في جوهرها العميق الذي هو جسد المسيح السرّي. الشركة بين يسوع ومريم ليست فقط شركة ابنٍ وأمّه، إنها شركةُ الإله الفادي والبشريّة المُفتداة، شركةُ الإله الفادي والمُفتداة الأولى، فلمّا صارت مريم أمَّ المسيح رأسِ الجسد السرّي، صارت أصلاً أمَّ الأعضاء، الكنيسة. هذا ما سوف يتمّ في تحقيق الخلاص على الجلجلة.
وعليه، فإنّ أمومة مريم أمومةٌ خلاصيّة، وهي تعلم ذلك. تعلم أن ابنها آتٍ ((ليخلّص شعبه من خطاياهم)) (متى 1\21)، وتعلم أنّ اسمه يعني ((ألله يخلّص)) (لو 1\31). فقبولها أن تكون ((أمة الرب)) هو قبولٌ بالعمل الخلاصيّ. وهي تعلم أيضاً أنّ ذلك سيتمّ ((بالعذاب)) (أشعيا 53\1 ـ 10). وسوف يكون عذابُها (سيفاً ينْفُذ في قلبها)) (لو 2\35).