فمن آمن واعتمد يخلص، و من لم يؤمن يحكم عليه (مر 16 /16)
الانتقام ! - الأرشمندريت توما (بيطار)
الإنتقام !
لا انتقام في المسيحية. المسيحي لا ينتقم لنفسه. لذا قيل :
"لا تنتقموا لأنفسكم" (رو 12: 19).
"لي الانتقام أنا أُجازي يقول الربّ" (عب 10: 30).
الله ينتقم؟! أجل! لكنَّ انتقام الله غيرُ انتقام الناس. الناس ينتقمون عن حقد.
أما الله فلا ينتقم كذلك. لا أثر فيه للحقد. الله محبّة.. كلّه محبّة. لذا انتقامه انتقام محبّة.
كيف يمكن أن يكون ذلك والانتقام والمحبّة، في خبرتنا، ضدّان؟
الواقع الواقع أنّ المحبّة هي انتقام المحبّ ممن يريد له شرّاً.
لا بل المحبّة أقسى أنواع الانتقام. ولا أقسى!
ليس لأنّ المحبّ يشاء بالمحبّة انتقاماً.
المحبّ يشاء بالمحبّة محبّة.
لكن موقف المعاند في الإثم يجعل المحبّة التي تقابله انتقاماً.
تصير له أشدّ من انتقام، ولا أوجع!
الإصرار على المحبّة، رغم كل شيء، يفضي بمَن يصرّ على الإثم إلى نوع من جحيم.
هذا ما عبّر عنه بولس الرسول بقوله:
"إن جاع عدوّك فأطعمه. وإن عطش فاسقه.لأنّك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه"
(رو 12: 20 ? 21).
لماذا تأخذ الأمور هذا المنحى؟
لأنّ الشرّير بحاجة لأن تواجهه بالشرّ ليكون مبرَّراً في شرّه.
فإذا ما واجهته بالخير عرّيته، كشفته، خزيته. هذا يغيظه، يقضّ مضجعه، يضنيه، يحرقه.
يحرقه كيانياً!
فلأنّ الإنسان قلب تحرقه المحبّة إن كان آثماً معانداً.
لا شيء، والحال هذه، يعطيه بعض الراحة الكذوب سوى أن يواجَه شرُّه بشرّ مثله
أنت إن قابلتَ الشرّ بالشرّ تعطي الشرّير غبطة فاسدة مصحوبة بالبر الذاتي والزهو والشماتة.
لا شيء جعل المسيحية تقوى على الوثنية، في وقت من الأوقات، سوى مواجهة الشرّ الواقع على المسيحيّين بالمحبّة.
هذه كانت القذيفة الإشعاعية التي زعزعت كيان الأمبراطورية الرومانية وحوّلتها إلى المسيحيّة.
ولا شيء يجعل المسيحيّين يتقهقرون أكثر من مواجهة الشرّ بالشرّ لأنّهم
إذ ذاك، يصيرون من معدن هذا العالم.
لا شيء أذى المسيحية، في التاريخ، أكثر من الأمبراطوريات المسمّاة مسيحية، خصوصاً الحملات الصليبية
لأنّها واجهت الشرّ بالشرّ. والقول الإلهي هو:
"مَن يأخذ بالسيف بالسيف يؤخَذ".
"لا يغلبنّك الشرّ بل أغلب الشرّ بالخير" (رو 12: 21).
على أنّ ما يضير المسيحيّين أكثر ما يكون أن يموّهوا روح الانتقام فيهم.
الأمر الذي يجعلهم يظنّون أنّهم يصنعون حسناً وهم يرتكبون إثماً. مثلاً تقول،
أحياناً، لمَن يغيظك أو يسيء إليك: "الله يسامحك!" هذا تقوله بلسانك.
في قلبك تقول شيئاً آخر: "لعنة الله عليك!" أو
"ينتقم الله منك!" تقول خيراً وتقصد شرّاً.
هذا يعطيك شعوراً بأنّك مبرّر لأنّك تستعين بقوالب كلامية إيمانية المظهر.
لكنّك، في الحقيقة، تكفر بالله وتسخّر مسيحه لخدمة هواك. وقد تعطي الانتقام تسمية على غير مسمّى.
تدّعي أنّك تؤدّب فلاناً ليتعلّم. ولكن لا هكذا يكون التأديب. "ليؤدّبني الصدّيق برحمة ويوبّخني...".
هل تؤدّب برحمة؟
هل حشاك يتلظّى محبّة؟
أم يصرخ فيه هياج الانتقام؟
حين لا يكون ما في قلبك نقياً فإن الواقف مقابلك يحسّ بأنّك تنتقم منه
ربما لكرامتك أو لمصلحة لديك أو لرأي لا يماشيك فيه. ماذا تراه يكون ردّ فعله والحال هذه؟
إذا كنت في موقع القوّة وكان هو في موقع الضعف فأنت تضغط على ضميره
لكي يرضخ ويذعن ويعطيك الانطباع بأنّه مطيعك.
وما يطيعك بل يكذبك. يحتقرك ويرائيك في آن.
والقول المعبِّر في هذا الشأن هو هذا:
"اليد التي لا تستطيع كسرها قبّلها وادعُ عليها بالكسر!"
أنت، إذ ذاك، تستغلّ ضعفه. تفسده وتدفعه إلى فعل ما ليس من قناعته وإلى قول ما ليس من حرّيته.
وهذا، بالضبط، من عمل الشرّير.
الشرّير يعطيك ما ترغب فيه نفسك إذلالاً لك، لكنّه يطالبك بشيء واحد فقط:
أن تتخلّى عن استقامة ضميرك في المسيح!
يعلّمك الكذب إن كنت تريد أن تأكل خبزاً!
الشهداء كانوا مستعدّين لأن يموتوا ولا يخالفون ضميرهم في المسيح.
قالوا لهم: قدّموا الذبائح تنجوا فأبَوا.
قالوا: صَرِّحوا أنّه سبق لكم أن قدّمتم الذبائح ولو لم تقدّموها نقبلْكم فامتنعوا.
همّهم كان سلامة النيّة أولاً.
لذا ليس ما تقوله وما تفعله هو ما يؤخذ عليك بل بالأولى ما تضعه في قلبك.
لا الظاهر هو المهم ولا التبرير.
المهم ما تقتنيه في حشاك. النجس كذّاب دائماً. حتى حين يقول الحقّ يقوله كذباً لأنّ قصده غير نقي.
لذلك احرص أن يكون تصرّفك بنقاوة قلب.
انظر إلى أعماقك أولاً. وإلاّ، شئت أم أبيت،
كنت صاحياً أم غير صاح، ما يخرج من حشاك يكون سالباً
ويؤذيك ويؤذي غيرك وأنت لا تدري.
إذا كانت الكلمة قوّة فنيّة القلب قوّة أكبر.
قد تتسبّب بتدهور سيارة إن نويت شرّاً بصاحبها. قد يمرض بسبب حسدك وقد يموت.
القلب يطلق طاقات موجبة إن كان محبّاً وطاقات سالبة إن كان نجساً.
هذه تؤثّر في العالم من حولك. سلبيتك تؤثّر في الأزاهير، في الأشجار، في الحيوانات.
موضوع العين الحاسدة يستسخفه العديدون ولكنّه حقيقة.
القدّيسون أنفسهم يتحدّثون عن أثر العين الحاسدة. هذه قادرة أن تصيب بالمرض، أن تقتل. كلام الكثير من العامة على العين الحاسدة ليس من دون مقابل.
من هنا أهمية حفظ الحشا في الإنسان نقياً. الكثير من الخير في الدنيا مردّه المحبّة التي يكتنزها العديدون من الذين يحبّون الله.
والكثير من الشرّ مردّه سلبية الناس وحسدهم وأنانياتهم وكذبهم وروح الزنى والإلغاء فيهم.
في الدينونة العامة لا يجلس الله كقاضٍ بإزاء البشرية ولا يلقي أحداً في العذاب.
بل الذين قبلوا محبّته يكونون في الفردوس والذين لم يقبلوها يكونون في الجحيم.
المحبّة عينها تكون لأولئك حياة وفرحاً ولهؤلاء موتاً وعذاباً.
ليس الهلاك الأبدي من خلق الله بل هو ثمرة ما زرعه الآثمون.
مَن يتغذّون من محبّة الله لهم حياة أبدية ومَن أحشاؤهم فارغة من محبّة الله لهم هلاك أبدي.
هذا كلّه نحيا فيه منذ الآن. نختبره منذ الآن.
هذا انتقام المحبّة.
أما الله فمنزّه عن كل عيب.
وكذا قدّيسوه على مثاله. المسير، لمَن يحبّون بعناد، هو من فردوس إلى فردوس إلى الفردوس،
ولمَن يأثمون بعناد من جحيم إلى جحيم إلى الجحيم!