فقالَت مَريم: تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي و تَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي (لو 1 /46-47)
الأهواء والتجارب - الأرشمندريت سلوان أونر
الأرشمندريت سلوان أونر
يتعرض
الإنسان في حياته لتجارب كثيرة، مصدر أغلبها ضعفاتُ الطبيعة البشرية التي
تشكل الدافع الأكبر لارتكاب الخطايا:
"لا يقل أحدٌ إذا جرب إني أجرب من
قبل الله. لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحد ولكن كل واحد يُجرب
إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيئة والخطيئة إذا
كملت تنتج موتاً" (يع 13:1-15)
أو الوسطُ الاجتماعي المحيط بالإنسان لملئه
بالشر والشهوة والخيانة: "لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العين
وتعظّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم" (1يو16:2)، أو مشاكلُ الحياة
الفجائية التي تضع حياة وقدرة احتمال المؤمن وصبره في خطر، ولا ننسى
المجرّب الكبير الشيطان الذي يتوقف عن محاربتنا أحياناً لكثرة ضعفاتنا
وأهوائنا وتزايد الكراهية والحقد في العالم (رغم أنه سبب كل ذلك).
لتجارب
الحياة وجهان إيجابي وسلبي، أما الجهة الإيجابية لتعرّض الإنسان للتجارب،
وبعد تجاوزها، فهو ازدياد خبرته الروحية وازدياد قدرته على التحمل والصبر
والإيمان بالعناية الإلهية
وبالنهاية ربحه للملكوت السماوي: "بل نفتخر
أيضاً في الضيقات عالمين أن الضيق ينشئ صبراً والصبر تزكية والتزكية رجاء"
(رو3:5-4)،
ولكي يتجاوز الإنسان هذه التجارب عليه أن يرتكز على الإيمان
والرجاء والفرح بالخلاص لأنه يحتاجها خلال مسيرته الجهادية في طريق
الملكوت السماوي: "امنحني بهجة خلاصك" (مز 50).
أما الجهة السلبية للتجارب
فهو السقوط الروحي والأخلاقي بعد السقوط في الخطيئة، التي يمكن أن يخسر
الإنسان خلاصه بسببها، ويحدث هذا بسبب تزايد قوة الضعفات البشرية في
الإنسان و تجذّر الأهواء فيه وعدم قدرته على مجابهتا ولعدم اتكاله على
الرب، لذلك علّمنا السيد بالصلاة الربية أن نقول: "ولا تدخلنا في تجربة"
وهنا تأتي الحاجة لشفاعة والدة الإله وكل القديسين لكي ينقذونا من مصاعب
الحياة وشدائدها التي تتعبنا وترهقنا ويعطونا القوة والصبر لمتابعة
المسيرة الجهادية كي لا نخسر خلاصنا.
الأهواء إضطرابات وتجارب كثيرة لتشكل حركات لا إرادية تسيطر على عقل
الإنسان وتقوده إلى حالات اضطرابية غير طبيعية وغير منطقية ثم إلى الخطيئة
فيخسر خلاصه وهي بالتالي تبدد الهدوء الضروري للمسيرة الروحية للإنسان نحو
القداسة وتسمى الأهواء المميتة، أما إذا كانت عبارة عن حركات طبيعية
موجودة في الطبيعة البشرية مثل: الجوع، العطش، ...
فهي ليست سبباً رئيسياً
للخطيئة بل تساعد على تلبية الحاجات الجسدية فيسميها الآباء الأهواء
الحسنة.
إن كل ضعف يسيطر على الإنسان ويقع بسببه في الخطيئة يصبح بمرور الزمن هوى.
والتكرار المستمر للخطيئة يولّد ما يسمى العادة المزمنة السيئة ويصبح
الإنسان ميّالاً لارتكاب الخطيئة وفقاً لهذه العادة، التي في بدايتها تكون
عادة ثم تصبح ضعفاً لا يمكن التخلّي عنه بسهولة، لذلك يجب محاربتها بشكل
قوي في بدايتها وقبل أن يُصبح لها جذور داخل الإنسان وتشكل له مرضاً
روحياً وتصبح هوىً متأصلاً فيه. ونقول في خدمة البراكليسي بعبارات دقيقة
مباشرة بأن الأهواء هي التي تحارب الإنسان: "أهواء كثيرة تحاربني..."
آخر الهوى هو الميل للخطيئة التي نصبح لها عبيداً فتشكل مرضاً روحياً،
ويكون لها قوة كبيرة مُسيطرة على الإنسان: "من يعمل الخطيئة فهو عبد
للخطيئة" (يو34:8) وأيضاً: "لأن ما أنغلب منه أحد فهو له مستعبد أيضاً"
(2بط19:2).
يدعونا السيد في عظته على الجبل أن نسبق الشر قبل ولادته أي أن ننتبه
لجذور الخطيئة: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب
الحكم وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجباً
الحكم" (متى 21:5-22) لأنها إن تأصّلت في الإنسان فإنها ستسيطر عليه
وستأسره ليفعل ما تريد، وكل إسراعنا هو لكي نسبق الخطيئة قبل أن تكبر كي
لا تتحول لتصبح هوى فينا، ولذلك نطلب من والدة الإله العون لطرد هذه
التجارب من أساسها:
"إنك تطردين عنا صدمات التجارب وطوارق الآلام".
(كانين الأودية الثامنة).
الأهواء بالإنسان وتوجهه كما تشاء، والسبب في ذلك أنه لم ينتبه في بداية
تحركها وهجومها عليه فتركها تكبر حتى سيطرت عليه وهي تهتاج كل حين لتسقطه
في الخطيئة، فلنطلب من والدة الإله، في خدمة البراكليسي وكل حين، بشفاعتها
أن لا تهتاج هذه الأهواء: "هدئي هيجان أهوائي" (الطروبارية الأولى من
الأودية الرابعة).
تسيطر الأهواء على الإنسان فإنها لا تدعه يفكر بشكل صحيح فيتوه لا يعرف
ماذا يفعل ويمشي كأعمى كي يرضيها وكأنه إنسان يمشي ولكن بأعين أهوائه يرى
الطريق فلا يفعل ما يريد بل الكثير مما تريده هذه الأهواء فيقع في خطايا
ومنها القاتلة روحياً وبالنتيجة يخسر خلاصه، هذا ما يوضحه بولس الرسول في
رسالته إلى أهل رومية: "لأني لست أعرف ما أنا افعله إذ لست افعل ما أريده
بل ما أبغضه فإياه افعل ...لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي
لست أريده فإياه أفعل..." (رو 14:7-25).
الأهواء داخل الإنسان مرضاً روحياً وتحتاج إلى طبيب روحي ولنعمة الله كي
تُشفى. هي مرض ولكن يوجد لها شفاء، ولا يوجد هوى بدون شفاء، والأهواء
المتأصلة على مدى السنوات تحتاج لسنوات من الشفاء. فلنطلب من والدة الإله
أن تساعدنا للشفاء من هذه الأمراض والضعفات: "أيتها النقية اشفي أسقام
نفوسنا" (كانين الأودية الخامسة).
علّي معرفةُ أهوائي، غضب؟ أنانية؟... كي أحاربها، وربما تحتاج إلى وقت
طويل لمحاربتها ولكن يكفي أن أصرّ في المحاولة وأن لا أتوقف عن الجهاد أو
أن أقف في منتصف الطريق أو أن أملّ أو أتعب، ونعمة الرب التي تشفي المرضى
ستكون بجانبي لتساعدني في الشفاء من هذه الأهواء.
وهنا يأتي دور الأب
الروحي في المساعدة للكشف عن هذه الأهواء وتعليمنا أساليب محاربتها.
الأهواء الكبيرة والمتأصلة تحتاج لوقت طويل كي نشفى منها،
وفي خدمة
البراكليسي نتضرع لوالدة الإله كي تساعدنا في التخلّص منها، ففي جهادنا ضد
هذه الأهواء تساعدنا بواسطة الشفاعة الوالدية، الفاعلة العجائب، فهي كعروس
الله تُدخل السلام الإلهي داخل النفوس المضطربة: "فنضرع إليك على الدوام
أن تنجينا من فساد آلامنا" (الطروبارية الثانية الأودية السادسة).
ما تبقى الأهواء في الإنسان بقدر ما تفسده روحياً فيبدأ بتبرير كل خطيئة
يقترفها حتى يصل لدرجة قبول أشياء لم يختارها هو،
فيبرر أهوائه ويعطيها
صورة حسنة وبالنهاية يحملها كلها معه مع نتائجها من الخطايا ليوم
الدينونة. على الإنسان أن يحارب الأهواء المميتة وإلا ستقوده بسهولة للموت
الروحي.
لذلك
لنستمر بالمحاولة مجاهدين داخل الكنيسة بالصوم والصلاة وطلب معونة النعمة
الإلهية بشفاعة والدة الإله مرتلين:
"أيتها البتول إنك تطردين عنا صدمات
التجارب وطوارق الآلام، لذلك نسبحك مدى الدهور" (كانين الأودية الثامنة)
***********************************
**
**
********
********
**
**
**
**
**