أخيرا, كلما تقدمت النفس, تأخذ الشياطين شكل أشخاص
أتقياء و كأنها ملائكة. في أحد الأيام, وقد كان
أنطونيوس صائما, أتى إليه المخادع في شكل راهب حاملا
إليه خبزا وهميا :
40
- (...) وكنت مرة أخرى صائما فأتى إلي ذلك المخادع
كراهب يحمل في يديه خبزا خياليا ونصحني قائلا: كل وكف
عن العذابات الكثيرة, أنت إنسان وسوف تمرض. لكنني
أدركت حيلته, ولذلك نهضت للصلاة." أو على العكس من
ذلك, فقد يشجع المخادع على أصوام وصلوات مبالغ فيها,
هدفها خوار قوى المتروض وإحباط عزيمته. ومن الممكن
أيضا أن يقول أشياء صحيحة وكذلك, كملاك نور, إسداء
النصح بهدف إبعاد من انتهج طريق الفضيلة عن الطريق
الصحيح. يبين لنا القديس أغناطيوس في قواعد الأسبوع
الثاني رقم 332 المقصود بهذه التجارب:
"من شأن الملاك الشرير - وهو يتحول إلى ملاك نور - أن
يسير في جهة النفس الأمينة, وأن يأتي بها أخيراً إلى
جهته,أي أن يعرض أفكارا صالحة و مقدسة تنسجم مع النفس
الصالحة هذه,ثم يحاول شيئاً فشيئاً أن يبلغها غايته,
جاذبا إياها إلى خدعه المستورة و نياته الفاسقة".
يحدد أنطونيوس هنا معيارا في منتهى الأهمية للتمييز :
35
- من السهل تمييز مظاهر الأرواح الشريرة من الأرواح
الصالحة, لأن الرب يعطينا قوة هذا التمييز. ما ظهور
الأرواح الصالحة مرعبا, لأنها لا تجد في ظهورها من
تتصارع معه ومن يصرخ يسمع صوتها. ظهور هذه الأرواح
هادئ وصامت, ويخلق فرحاً في النفس وشجاعة. فالرب معها
وهو فرحنا و هو قوة الله الأب. أما الأفكار التي
تخلقها هذه الظهورات فتبقي النفس غير متزعزعة إلى أن
تنيرها من هذا الفرح. 36. أما هجوم الأرواح الشريرة و
ظهورها الخيالي فيرافقه جلبة وضربات وأصوات وصراخ
ويسيطر على النفس الرعب والاضطراب وتشويش الفكر والحزن
وفوق ذلك رغبة في الشر وكسل في اكتساب الفضيلة (...)
فلنعرف أن هذا هجوم أرواح شريرة".
نلاحظ هنا كيف أن تعليم أنطونيوس يطابق قواعد إغناطيوس
في التمييز في ما يتعلق بالأرواح الصالحة و الأرواح
الشريرة ( القاعدة السابعة 335)
"
إن الذين يسيرون من حسن إلى أحسن, يمس الملاك الصالح
أنفسهم بلطف وخفة وعذوبة, كنقطة الماء التي تتشربها
الإسفنجة. وأما الملاك الشرير, فإنه يمسها بحدة و ضجيج
واضطراب, كنقطة الماء التي تقع على الحجر."
تأتي هنا أهمية دور الشيخ القديم أو ما نطلق عليه
اليوم " المرافق الروحي" فهو يساعد المتروض على تمييز
الأرواح. إن القول 38 من أقوال أنطونيوس يبرز لنا دور
هذا المرافق:
38
- و قال أيضا: "على الراهب أن يطلع الشيوخ - قدر
الإمكان- على عدد الخطوات التي يخطوها و قطرات الماء
التي يشربها في قلايته ليتأكد أنه على صواب"
هذا القول يُظهر أهمية الانفتاح على المرافق الروحي,
وفي ذلك ضمان للمتروض حتى يساعده من هو متمرس في سير
أفكاره وما يعيشه على مستوى الانبساط والانقباض, وبهذا
يكتشف أسباب تلك المشاعر التي يمر بها ومصدرها. كلما
انفتحت لمرافقي الروحي أكتشف معه إرادة الله في حياتي
وازددت تمييزا لما هو من الروح الصالح وما هو من الروح
الشرير. هذا يُظهر ضرورة الثقة المتبادلة بين المرتاض
والمرافق. كذلك, للوصول إلى مساعدة مفيدة, يطلب
المرافق من المرتاض التعبير الصادق والوفي عما يتم في
التأمل وخارجه, وعلى المرافق أن يصغي إليه بقلب رحب.
ولذلك لابد من قبول مبدئي متبادل على أساس إيماني, حيث
يرى المرتاض في المرافق الشخص المختار من الله
لمساعدته. مما يتطلب لدى المرافق روح الصلاة والتواضع
والتجرد من روح كل امتلاك لينقاد فقط بالروح القدس
بعيدا عن انفعالاته الشخصية أو أفكاره المسبقة. على
هذا الأساس يقدر المرافق أن يساعد المرتاض للوصول إلى
الوعي بما يريده الله منه. وموقفه هنا موقف صديق
العريس كما وصفه القديس يوحنا المعمدان.
إن
أنطونيوس, وقد اختبر في مراحله الأربع تكتيك العدو,
أصبح مُمَيّزاً بارعا لحيله وعليه فهو ينقل لنا هذه
الخبرة حتى نعي كيف نتسلح ضد قوى الشر ونتقوى بالرب
طالما نقوم بما يجب علينا أن نفعله (راجع ليترجيا
الطقس اللاتيني لهذا اليوم أفسس 6/ 10-20, لوقا 13/
31-35).
رغم أن هناك سبعة عشر قرنا تفصلنا عن أنطونيوس ما زال
تعليمه يكلمنا في عالمنا اليوم. إنه لا ينكر ما للخوف
من دور في حياة الإنسان فقد مر به. انه في نقله لخبرته
يسترجع ما عاشه واختبر وهو ما نطلق عليه حسب المصطلح
الإغناطي "مراجعة الحياة", فتدوين "يوميات" يساعدنا في
إعادة قراءة حياتنا حتى نشكر الرب على ما عشنا ونطلب
نعمته لنتقدم نحو الأفضل.
55
- أخيرا إليكم الملاحظة التالية من أجل أمانكم الروحي,
وهي أن يكتب كل واحد منكم أعماله ورغبات نفسه و كأنه
سيعلنها للآخرين. تأكدوا بأننا سنخجل من أن تكون
أعمالنا مشاعة".
إن
علم النفس يشدد كثيراً في أيامنا على أهمية المخيلة
والكتابة للشعور على وجه أفضل بما يجري في الشخص.
أهمية "اليوميات" إذن هي أنها مرآة لضميرنا, إنها
تساعدنا على فهم حالاتنا النفسية ومشاعرنا وما يعترينا
من ميول ورغبات. عندما أسجل أستطيع أن أجد بعض الأجوبة
لتساؤلاتي أو أقله تتوفر لي مادة أشارك بها مرافقي
الروحي الذي معه أميز لا بين خير وشر، بل بين ما هو
حسن وأحسن فأختار دائما الأفضل و الأسمى.
إن
التمييز فرز وفصل وغربلة, ولنا في مثل الزؤان (متى 13/
24-30, 36-43) وشرح يسوع له تعليم يساعدنا على أن نفهم
ونزداد تمييزا لما هو من الله وما هو من الشرير.
لكننا, ربما لا نفهم, كالتلاميذ, من المرة الأولى,
فنحتاج إلى شرح. يساعدنا يسوع على أن نفصل ونفرز بين
ما هو من الله وما هو من الشرير. إن يسوع يشرح لأن
التلاميذ قد طلبوا منه تفسيرا هو دائما مستعد, إن
أردنا لأن نتتلمذ له، أن يشرح لنا الكتب فنميز, نحن
أيضا, بين ما هو من الله بين ما هو من الشرير. التمييز
تشخيص وتحقيق أيضا, فكما يشخّص الطبيب مرضاً ويتحقق
منه, كذلك يبحث الإنسان فيكتشف أين هو الداء في سبيل
إيجاد الدواء. فالمرافق يساعد المتروض في إيجاد الداء
وعلى الأخير بمعونة الرب البحث عن الدواء والجد في
طلبه. فالتمييز بحسب التقليد المسيحي هو اختيار لنور
المسيح ورفض لظلام الشرير في عملية تشخيص النور
والظلمة والفرز بينهما. إن اختياراتنا لا تكون حقيقية
إلا باصطدامها بأرض الواقع فهي المحك الحقيقي الذي
يعطي صلابة وقوة للاختيار.
|