يا ابنتي، إيمانك خلصك، فاذهبي بسلام، و تعافي من علتك (مر 5 /35)
من أقوال الآباء الآنبا يوحنا القصير
هذا مضى إلى شيخٍ تبايسي كان مقيماً في البريةِ فتتلمذ له، وحدث أن معلِّمَه دفع إليه غُصناً يابساً وأمره أن يغرسَه ويسقيه كلَّ يومٍ بجرةِ ماء، وكان الماءُ بعيداً عنهما،
فكان يمضي في العشيةِ ويجيءُ في الغدِ. وبعد ثلاث سنين اخضرَّ الغصنُ وأعطى ثمرةً.
فجاء بها إلى الشيخِ، فأخذها الشيخُ وجاء بها إلى الكنيسةِ وقال للإخوةِ: «خذوا كلوا من ثمرةِ الطاعةِ».
- وحدث مرَّة أن قال لأخيه الأكبر: «إني أودُّ أن أكونَ بغيرِ همٍّ مثل الملائكة، لأنه لا اهتمام لهم ولا شيئاً يعملونه سوى أنهم يتعبدون للهِ دائماً».
وإنه نزع ثوبَه وخرج عارياً إلى البريةِ. فأقام أسبوعاً ثم عاد إلى أخيه، فلما قرع البابَ عرفه أخوه، فَقبْلَ أن يفتحَ له البابَ قال له: «من أنت»؟ فقال:« أنا يوحنا أخوك». فجاوبه: «إن يوحنا أخي قد صار ملاكاً وليس هو من الناسِ الآن». فردَّ عليه قائلاً: «أنا هو أخوك».
فلم يفتح له البابَ وتركه إلى الغدِ، حيث فتح له وقال: «اعلم الآن أنك إنسانٌ محتاجٌ إلى عملٍ وغذاءٍ لجسدِك»، فصنع له مطانية واستغفر منه.
قال الأب يوحنا القصير: «إذا أراد ملكٌ أن يأخذَ مدينةَ الأعداءِ فقبل كلَّ شيءٍ يقطعُ عنها الشرابَ والطعامَ، وبذلك يُذلُّون فيخضعون. هكذا أوجاعُ الجسدِ، إذا ضيَّق الإنسانُ على نفسِه بالجوع والعطش إزاءها فإنها تضعف وتذلَّل له».
وقال أيضاً: «من امتلأ بالطعامِ وتحدث مع صبيٍ فقد زنى معه بفكرِه».
وقال أيضاً: «إني كنتُ ماضياً مرةً في طريقِ الإسقيط ومعي القففُ محمولةً على جملٍ، وفجأة أبصرتُ الجمّال وقد تحرك فيه الغضبُ، فتركتُ كلَّ ما كان لي وهربتُ».
- ومرة أخرى كان في الحصادِ فأبصر أخاً قد غضب على آخر، فهرب وترك الحصادَ.
وجاء مرة إلى الكنيسةِ فسمع مجادلةً في الكلامِ بين الإخوةِ، فرجع إلى قلايتهِ ودار حولها ثلاثَ دوراتٍ ثم عاد ودخل فيها. فسألوه لماذا فعلتَ ذلك؟ فقال: «إن صوتَ المجادلةِ كان لا يزالُ في أذني، فقلتُ: أخرجه من أذني قبل أن أدخل قلايتي، كي يكون عقلي داخل القلايةِ نقياً».
- وقال أيضاً: «إن عقلَ الإنسانِ آنيةٌ للهِ وله الاستطاعة أن ينظِّفه كي يمكنه أن يجلس في القلايةِ. أما إن جعله الإنسانُ وعاءً لحديثِ العالم فلن يستطيعَ أن يجلسَ في القلاية».
وحدث مرة أن كان جالساً مع الإخوةِ قدام نرثكس الكنيسة (أي قدام مدخلها)، وكان كلُّ واحدٍ منهم يكشف له أفكارَه، فنظره أحدُ الشيوخِ وامتلأ حسداً عليه، فقال: «يا يوحنا، إنك ممتلئٌ سحراً»، فقال: «الأمرُ هكذا كما تقول يا أبتاه، ولكنك بنيتَ حُكمَك هذا على ما نظرته في الظاهر، فما عساك كنتَ تقول لو علمتَ بالخفاءِ».
- ومرة كان جالساً في الإسقيط وقد أحدق به الإخوةُ يكشفون له أفكارَهم. فلما رآه أحدُ الشيوخِ قال له: «يا يوحنا، لقد زيَّنتَ ذاتَك كالزانيةِ التي تُكثر من عشاقِها». فصنع له مطانية قائلاً: «حقا قلتَ يا أبتاه».
وبعد ذلك سأله الإخوةُ إن كان قد اضطرب من داخل، فقال: «ما اضطربتُ البتة، لكن كما كان خارجي كذلك كان باطني».
ومرة سألوه :«ما هو عملُ الراهبِ»؟ فقال: «تعبُ الجسدِ وضيقُ البطنِ وغَلَبةُ الإرادةِ».
- ومرة كان الإخوةُ جلوساً يأكلون في أغابي، فضحك أحدهُم على المائدةِ، فنظر إليه وبكى قائلاً: «تُرى ماذا خطر ببالِ هذا الأخ حتى أنه ضحك هكذا، مع أنه كان يجب عليه البكاءَ، لأنه يـأكل طعامَ الصدقةِ».
- ومرة أخرى جاء إليه إخوةٌ ليجرِّبوه لأنه ما كان يسمح لفكرِه بحديثٍ بشري، ولا كان يتلفَّظ بشيءٍ من أمور العالم. فقالوا له: «الشكر لله يا أبانا، إن هذه السنة أمطرت أمطاراً كثيرة، وقد شرب النخلُ ورُوي وها هو يُخرج السعفَ ليجدَ الإخوةُ حاجتهم منه لعمل أيديهم». أما هو فقال لهم: «إن نعمةَ الروحِ القدس إذا ما حلَّت في عقلِ إنسانٍ أَرْوَتهُ وجدَّدته ليُخرج أثماراً تصلحُ لعملِ الله».
- وقال أيضاً: «أنا أشبه إنساناً جالساً تحت شجرةٍ عظيمةٍ وهو ينظرُ إلى الوحوشِ والذئاب وهي مقبلةٌ نحوه، فإذا لم يستطع ملاقاتها هرب صاعداً فوق الشجرةِ فينجو منها. هكذا أنا جالسٌ في قلايتي أبصر الأفكارَ الخبيثة تأتي إليَّ، فإذا لم أستطع صدَّها هربتُ إلى الله بالصلاةِ ونجوتُ».
- وقال أيضاً: إن أحدَ الرهبانِ رأى بالنظرِ المعقول ثلاثة رهبان وقوفاً على شاطئ البحر، فجاءهم صوتٌ من الشاطئ الآخر قائلاً: «خذوا لكم أجنحةً من نارٍ وتعالوا إلينا». فاثنان منهم أخذوا أجنحةً نارية وطارا بها إلى الجانب الآخر، أما الثالث فصار يبكي ويصرخ نائحاً، وفي آخر الوقت أُعطي أجنحة لكنها عديمة القوة، وبصعوبةٍ كان يطير ثم يعود فيسقط، فينهض ثم يعود فيغرق، وهكذا حتى وصل إلى الجانب الآخر بعد تعبٍ عظيم. هكذا يكون عملُ هذا الجيلِ، فإن كان قد أخذ أجنحةً ولكن نارَ الروحِ ليست فيها، وبذلك تجدها قد عدمت قوة روح الله.
- وقال أيضاً: ثلاثةُ فلاسفةٍ كانوا متآخين، فمات أحدُهم وترك ابناً صغيراً، وكان قد أوصى به إلى أحدِهم، فلما شبَّ الغلامُ أراد أن يعلِّمه الفلسفةَ، فأمره أن يمضي إلى ديرِ رهبانٍ ويحتملَ الإهانةَ لمدة ثلاث سنين. ففعل هذا، ثم جاء إليه فلم يقبله،
وقال له: «إنك ما تأدبتَ بعد، ولكن امضِ وأقِم ثلاث سنين أخرى، وأعطِ أُجرةً لمن يشتمك»، ففعل ذلك. ولما عاد إليه أرسله بكتابٍ إلى صديقٍ له في أثينا في مجلسِ الحكماءِ، وكان هناك شيخٌ حكيمٌ جالسٌ على البابِ يشتِمُ كلَّ من يدخل. فلما دخل الشابُّ، شتمَه، فضحِكَ منه. فقال له الفيلسوف: «ها أنا ذا أشتِمُك وأنت تضحك»؟
فقال له الشابُّ: «أما تريدني أن أُسَرُّ وأنا لي اليومَ ثلاثَ سنين أُعطي أُجرةً لمن يشتمني، والآن وجدتُ من يشتمني مجاناً فلذلك ضحكتُ». فقال له الشيخُ: «هلم اصعد إلى مجلسِ الفلاسفةِ».
ثم قال القديسُ: «إن هذا هو بابُ مدينةِ الله، وآباؤنا باحتمالهم الشتائم والهوان دخلوا فيه مسرورين».
ومرة كان الأب يوحنا صاعداً من الإسقيط مع إخوةٍ فضلَّ مرشدُهم عن الطريقِ لأنه كان ليلاً، فقال الإخوةُ لأنبا يوحنا: «ماذا نصنعُ لأن الأخ قد ضلَّ الطريق»؟
فقال لهم: «إن قلنا له شيئاً حزن واستحى، فالأفضل هو أن أتظاهر بأني مريضٌ وأقول: إني لن أستطيعَ المشي لأني في شدةٍ، وبذلك نجلس إلى الغدِ». فلما أعلن لهم رأيه هذا وافقوا وقالوا: «ونحن أيضاً نجلس معك»، وفعلاً جلسوا إلى الغدِ ولم يُحزنوا الأخَ المرشد.
- ومرة قال للإخوة: «من باع يوسف»؟ فقالوا له: «إخوته». فقال: «ليس إخوته ولكن اتضاعه هو الذي باعه. لأنه كان قادراً أن يقولَ للذي اشتراه إنه أخوهم، لكنه سكت وباتضاعهِ بيع، وبذلك الاتضاع صار مدبِّرَ مَلِك مصر».
- وقال أيضاً: «إن الأسدَ شجاعٌ مهاب، ولكنه من أجلِ شهوتهِ ورغبتهِ يقعُ في الفخِ، فتبطل قوَّتُه ويصير هزءاً للناس، كذلك الراهب إذا فقد قانونَه وتَبعَ شهوتَه أهلك وقارَه وصار هزءاً لكل أحدٍ».
- وقيل عنه: «إنه ضفَّر في بعضِ الأوقات ضفيرةً تصلح لعمل زنبيلين، لكنه خاطها زنبيلاً واحداً ولم يعلم إلا عندما وصل إلى آخرِ الضفيرة، وذلك لأن فكرَه كان مشغولاً بالمناظر الإلهية».
- ومرة جاء إليه بعضُ الإخوةِ ليأخذوا منه قُففاً فقرع أحدُهم، فخرج إليه وقال له: «ماذا تطلب أيها الأخ»؟ فأجابه: «قففاً». فتركه ودخل وجلس يُخيِّط. فقرع أخٌ آخر، فخرج إليه وقال: «ماذا تريدُ أيها الأخ»؟
فقال له: «هات لي قفةً يا أبتاه». فدخل وجلس يُخيِّط أيضاً. ثم إن الأخَ قرع مرة أخرى فخرج إليه وقال: «ماذا تريد يا أخي»؟ فقال: «القفف، أيها الأب». فأمسكه بيدِه وأدخله إلى القلايةِ وقال: «إن كنتَ تريد قفةً فخذ ما تريده منها واخرج، فإني لستُ متفرغاً لك في هذه الساعةِ».
- ومرة جاءه جمَّال ليحمل أوعيته. فلما دخل ليُحضر له الضفائرَ نسيها لأنه كان مشغولاً بالتأملِ في المناظر المعقولة الإلهية. وإن الجمَّال قرع البابَ فخرج إليه ونسي مرة أخرى. فقرع الجمّالُ البابَ مرة ثالثة، فخرج إليه ثم دخل وهو يقول: «الضفائر للجمّال الضفائر للجمّال».
- وقال أيضاً: «يجب على الراهب كلَّ يومٍ إذا قام بالغداةِ أن يتخذَ لنفسهِ وصيةً إلهية، وأن يقتني طولَ روحٍ واحتفاظاً من القلبِ وصلاةً دائمة مع طهارةِ لسان، وأن يجعل نفسَه تحت كلِّ الخليقةِ بالابتعاد عن الهيوليات».
- وقال أيضاً: «يجب قبل كلِّ شيءٍ أن نقوِّم التواضع لأن هذه الوصيةَ هي الأولى، التي قال ربنا عنها: طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات».
- وقال أيضاً: ليكن كلُّ أحدٍ كبيراً في عينيك ولا تهِن الذين هم أقل منك معرفة، ولا تطلب كرامةً من أحدٍ، لكن اتضع لكلِّ الناسِ ولا تغضب من الذي يتعظَّم عليك لأنه قليل المعرفة، لأن من قلةِ المعرفةِ يتعظَّم الأخُ على أخيه.
كن هادئاً ليناً، ولا تردّ الجواب على أمرٍ تُؤمر بأدائه، بل كن مطيعاً في كل شيءٍ لكي ما تُحَب من كثيرين. كن مبغضاً للعالمِ كي ما تكون مختاراً لله. كن صغيراً بين الناسِ لكي ما تكون فاضلاً عند ربك.
كن منبسطاً كي تحلُّ عليك نعمةُ الله. كن مثل ابن بين إخوتك كي تكون محبوباً عند كلِّ الناسِ. لا يكن بين عينيك شيءٌ مشتهى لكي ما تبصرَ الله. كن حزيناً على الذين هلكوا. كن رحيماً على الذين طغوا.
كن متألماً مع المتألمين، مصلِّياً من أجل المخطئين. لتكن عند نفسِك دونَ الكلِّ. كن ساكناً بين إخوتك كمثل ميتٍ عادمٍ من كلِّ غضب. لأنه من الغضبِ تأتي الخطيةُ.
اختَر السهرَ أفضلَ من الأعمالِ وذلك مع الصوم. لأن السهرَ يُضيء العقلَ ويقلل الأحلامَ. والصومُ يُذلُّ الجسدَ وهو معينٌ أكثر من كلِّ الأعمال. اهتم بقراءة الكتب لكي تعلم كيف تكون مع الله.
لا تختَر أن تكون مُتعَب الجسدِ فقط وفكرُك في الباطل. لأن هذا ليس وحده المطلوب منك، ولكن امزج تدبيرك بقدرٍ، ساعةَ قراءةٍ وساعةَ صلاةٍ وساعةَ عملٍ. لكي تضيء من القراءة في صلاتك. ليس القيام الظاهري فقط هو الذي يريدُه الربُّ، ولكنه يريد الفكرَ الحكيم الذي يعرف كيف يدنو إلى الكمال. كن عبداً وحراً، عبداً مملوكاً لإرادة سيدِه، وحراً غيرَ متعبدٍ لشيءٍ من المجدِ الباطلِ، حتى ولا لوجعٍ من الأوجاع.
حلَّ نفسَك من رباطِ العبودية، ولازم العتق الذي عتقك به المسيح. واقتنِ حريةَ العالمِ الجديد. لا تبتكر لنفسِك نواميسَ لئلا تكون متعبداً لنواميسك. ولكن كن حراً تصنع ما تريد. ولا تستبد بأمرٍ لأنك مخلوقٌ كائنٌ تحت التغيير. إن لم تكن حراً لا تستطيع أن تعمل من أجلِ المسيح. كن عاقلاً في تدبيرِك.
إذا مشيْتَ لا تدع عقلَك يدور، ولكن ليكن متجمعاً قدامك. كن طاهراً مترتباً في لبسك. ليكن نظرُك مُطرَقاً إلى أسفل، وفكرُك فوق عند ربك. لا تملأ عينيك من وجهِ إنسانٍ، ولكن بتهيبٍ وخوفٍ تبسط نظرَك.
كن شبه عذراء ذكية، واحفظ نفسَك للمسيح. كن محباً لكلِّ أحدٍ وابتعد عن كلِّ أحدٍ. اعلم أنك راهبٌ ولا ينبغي لك أن ترتبط بشيءٍ ما. أحب بفكرك حباً فاضلاً ذاك الذي يكلمك بكلامٍ نافع. ولا تحزن من الذي يبكتك بالحساب لئلا تكون عدواً لكلمةِ الله. لتكن نفسُك متيقظةً لخدمةِ الله وليكن عقلُك متجمعاً عند ربك. ليس لك أن تفحصَ عن كلِّ الأمورِ، لأنك لم تصر مدبراً أو رئيساً، ولكنك مأمورٌ وليس لك سلطانٌ حتى ولا على نفسِك.
لا تغَر من الذين ينظرون إلى أصحابهم لئلا يضطرب عقلك بالعبودية، وتكون خدمتُك بلا منفعةٍ. لا تطلب حاجتك في كلِّ أمرٍ لأنك لست لهذه التلمذةِ تتلمذتَ، أن تكون حاجتُك مهيأةً في كلِّ أمرٍ.
داوم على قراءة كتب الأنبياء لأنك فيها تعلَم عظمةَ الله وأفعاله وعدله وقوته. وادرس كتبَ المبشرين بالجديدة لأنك منها تعلَم رحمةَ المسيح وخيريته ونعمته، واذكر في كلِّ لحظةٍ أوجاعَ الشهداء لتقتني شجاعةَ النفسِ. ولا تشته الأصواتَ مثل الأحداث، واحذر من الشهوات التي يحبها هواك.
الزم القراءةَ أفضلَ من كلِّ عملٍ لأنه ربما دار العقلُ في الصلاةِ أما القراءة فإنها تجمعه. مثل التاجر الذي يطلبُ الأرباحَ كذلك حاسب نفسَك كلَّ يومٍ وانظر ربحَك وخسارتك في كلِّ عشية، واجمع عقلَك وتأمل ما الذي عملته في نهارك وانظر إلى صنيع الله ربك، وافهم بماذا أنعم عليك في يومك: بإشراق الضوء، بطيب النهار، بتقويم الأزمنة، ببهاء الجبال، بحسن الألوان، بزينة الخليقة، بحركة الشمس، وبزينة قامتك وبهبوب الرياح وبحسن الأثمار، وبحفظه إياك من الأخطار مع بقية إنعاماته.
فإذا تفكَّرت في هذه الأمور كلِّها يملأ قلبَك العَجب من عظم حبِّ الله لك، ويأخذك العَجب إلى أن تشكر الله بحرارةٍ على ما أنعم به عليك. لذلك وجب عليك أن تفتش لعلك فعلت شيئاً يَدُلُّ على إنكارك لهذه النعم، وقل فيما بينك وبين نفسك:
«لعلي فعلتُ في هذا اليوم أمراً يغضب الله، لعلي فعلتُ شيئاً يخالف مشيئة خالقي»، فإن شعرتَ في نفسِك أنك فعلتَ شيئاً يخالفه، قم في الحال بالصلاة واشكر الله أولاً على النعم التي قبلتها منه في يومِك هذا، ثم تضرَّع من أجلِ غفرانِ ما أخطأتَ به وهكذا تنام بخوفٍ ورعدة. من المعلوم أننا إذا أغضبنا من هو أعظم منا، فإننا نبيتُ في خوفٍ ورعدة، ولكن مع الأسف فهوذا نحن نُغضبُ اللهَ وننامُ بلا مخافةٍ.
إذا قمتَ للصلاةِ قدام الله احرص أن تجمع عقلَك طارحاً عنك الأفكار المقلقة. ضع نُصبَ عينيك كرامة الله ونقِ حركاتك من الميول الشريرة. فإن شعرتَ بحرارةِ النعمة تقدَّم ولا تضعف، فإذا أبصر الله صبرَك فإنه بسرعة يسكب فيك نعمتَه ويتقوى عقلُك وينشط للعمل بواسطة السخونة (حرارة النعمة) فتضيء أفكار نفسك ويسمو بك الشعور إلى تمجيد عظمة الله كلِّ حين. ولن يكون لك ذلك إلا بطلباتٍ كثيرةٍ وفكرٍ نقي، كما أنه لا يليق أن يوضع البخورُ الطيب في إناء منتن، كذلك الله لا يُظهر عظمته في فكرٍ رديء.
إذا قمتَ في صلاتك قدام الله فأولُ شيءٍ قل: «قدوس قدوس قدوس الله القوي، السماء والأرض مملوءة من تسابيحك». وبعد ذلك قل: «اللهم أهلنا بنعمتِك لذلك الشرف الذي أعددتَه في العالم الجديد ولا يديننا عدلُك في مجيئك العظيم. اللهم أهلني لمعرفتك الحقانية والخلطة بحبك التام».
وحينئذ اختم صلاتك بالصلاةِ التي علَّمها الله لتلاميذهِ دائماً واتلُها دائماً بتأملٍ. الذي يظن في نفسه أن حياته في هذه الدنيا إنما هي يومه الذي هو فيه فإنه يكاد لا يخطئ.
- وقال أيضاً: «ابتداء التدبير الجيد هو أن يبتعدَ الإنسانُ من أحبائهِ ومعارفهِ وأقاربهِ بالجسد، ثم يتمسكن بالتخلي عن كلِّ شيءٍ يُشغلُ العقلَ، لا عن المقتنيات فقط بل وعن النظر والسمع والكلام كنحو قوتهِ. لأن الحواس هي رباطات الإنسان الباطن وبها حياته، لذلك كان السكوتُ أفضلَ من جميعِ الأعمال، لأن بدوامه تهدأ الأفكارُ وتموت المشيئةُ وينقطع تذكارُ الأمور الباطلة وحركةُ الأوجاع القاتلة الجسمانية منها والنفسانية. فالجسمانية هي: لذة الفم، شره البطن، شهوة الطبع، تنزه الحواس، الاسترخاء، النوم، الزنى.
أما النفسانية فهي: الجهل، النسيان، البلادة، قلة الأمانة، الحسد، الشر، السبح الباطل، العجب، الكبرياء، قلة القناعة.
هدوءُ الجسدِ هو حبسهُ عن الدوران، وهدوءُ النفسِ هو الابتعادُ عن الجهلةِ ومن النظرِ للوجوه. فإن الجهلةَ يُشغلوننا بباطلِهم ويجروننا إلى عوائدِهم ويسخروننا لنواميسِهم، لأنهم يرونها حسنةً ولكنها تقطعنا عن حياتنا.
لذلك ليس شيءٌ أفضل من التباعد والسكوت لأن بدونها لا يقدر الإنسانُ أن يعرفَ نفسَه. أما عملُ السكوتِ فهو: الصوم، السهر، الهذيذ الصالح، إتعاب الجسد بقانونٍ حكيم، في المقدار والترتيب، وبدوام ذلك يجتمع العقلُ إلى نفسِه ويرجع عن الدوران فيما هو خارج عنه. وبعد قليلٍ يبتدئُ في أن يصحو لنفسِه ويتصوَّر حُسنه ويشرق عليه ضوءُ الرب، وينظر الإلهَ خالقَه، ويعرف اللهَ رازقَه، ويفرح بولادتهِ ويعود من سبيه، ويحيا من موتِه ويستريح من الأوجاع، ويُعتق من الظلمةِ ويخلص من عدوه الشرير.
لا بدَّ للإنسان من الإيمان الخاص الحقيقي، فالإيمانُ العام هو لكلِّ الناس، ومن نعمةِ ربنا علينا وَلَدَنا، فأما الإيمانُ الخاص الذي يقرِّبنا من الله فهو أن نسألَ ونطلبَ منه العظائمَ، التي لا يمكن للآخرين أن يصدِّقوا إمكانية وجودِها، وأن نعتصمَ به ونتقوى ولا نخاف من شيءٍ، ونتيقَّن أن الذي نتقوى به هو أقوى من كلِّ شيءٍ. والثبات في الجهاد والصبر على البلايا هو أيضاً أفضلُ من كلِّ الأمور.
وكلما استمر السكوتُ ضعُفت الأوجاعُ، وكلما ضعُفت الأوجاعُ قوي العقلُ قليلاً قليلاً، إلى أن يصحَّ ويستريح، وحينئذ لا يذكر الإنسانُ أوجاعَه وأحزانَه السالفة، وذلك كما قال ربنا عن المرأة التي تلد. وإذا عُتِقَ الإنسانُ من الأوجاعِ الشريرة التي كان يعانيها دائماً فقد عُتِقَ من الأحزان والآلام والأمراض العارضة كلِّها تلك التي يؤدَّب بها الخطاةُ. وبدوامِ السكوت يُعتق من الأوجاع الذميمة.
أما الذين يُعيقوننا من معرفةِ الله ويبعدوننا عن عملِ الفضيلةِ فإنهم لا يُلامون، لأنهم لا يعرفون، وأما نحن فإذ قد عرفنا رِبحَنَا وخسارتنا، فينبغي لنا أن نبتعدَ عنهم ونسكت لكي تحيا نفوسُنا.
وهو ذا شيءٌ آخر رديءٌ جداً يُفسد علينا النقاوةَ بالكليةِ وهو حبُّ الرئاسةِ والكرامة والمدح من الناس، فإن كلَّ هذه أوجاعٌ عظيمةٌ ورجاءٌ كاذب وقليلون هم الذين يتخلَّصون منها بالسكوت، لأنها أشرُّ من اللذَّات وشره البطن. فأما حبُّ الرئاسة والكرامة الحاضرة والسبح الباطل والارتباط به فإنه من العسير الانحلال منها، لأن هذه أوجاعٌ تلبس الإنسان بلا نهاية،
فلا نطلب نحن رئاسةً في هذا العالم الزائل المظلم الأرضي، فإن رئاستنا نحن وكرامتنا في العالم المضيء السمائي، وحبُّ المسيح ربنا وحده هو يخلصنا من هذه الأوجاع، آمين