اللهَ لا يُحابي أَحَدًا (رو 2 /11)
لأنى منه و هو أرسلني - الانبا بيشوى
لأني منه وهو أرسلني
تكلم السيد المسيح فى حوار مع اليهود وأورد ذلك القديس يوحنا الإنجيلى كما يلى:
"نادى يسوع وهو يعلّم فى الهيكل قائلاً: تعرفوننى وتعرفون من أين أنا، ومن نفسى لم آت، بل الذى أرسلنى هو حق، الذى أنتم لستم تعرفونه. أنا أعرفه لأنى منه وهو أرسلنى" (يو7: 28، 29)
قال السيد المسيح ذلك رداً على كلام اليهود عنه "هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (يو7: 27).
لم يفهموا أن السيد المسيح قد جاء من السماء وتجسد من السيدة العذراء بدون زرع بشر، بل اعتقدوا أنه كان ابناً طبيعياً للقديس يوسف وللعذراء مريم. وبذلك اعتبروا أنهم يعرفون من أين هو. وكانت معرفتهم غير سليمة. لأن سر التجسد الإلهى كان مخفياً عن عقول الأشرار
لكن السيد المسيح بالرغم من أنه لم يتكلم وقتها صراحةً عن الميلاد العذراوى، إلا أنه أشار إلى ولادته من الآب قبل كل الدهور وإلى إرسال الآب له إلى العالم أى تجسده فى ملء الزمان
وقد لخص السيد المسيح الحقائق المختصة بميلاده حسب لاهوته من الآب قبل كل الدهور، وولادته من العذراء مريم بحسب ناسوته فى ملء الزمان بقوله عن علاقته بالآب السماوى "لأنى منه، وهو أرسلنى" (يو7: 29)
إنها عبارة قصيرة مكونة من شطرين أقصر منها. ولكنها تحمل حقائق عفائدية فى منتهى القوة والأهمية
الشطر الأول من العبارة "لأنى منه" تشير إلى ولادة الابن الوحيد من الآب بنفس جوهر الآب. وهذا هو الميلاد الأول للابن الكلمة
والشطر الثانى من العبارة "وهو أرسلنى" تشير إلى إرساله من قِبَل الآب إلى العالم ليتجسد من العذراء مريم. وهذا هو الميلاد الثانى للابن الكلمة
لأنى منه :
جميل جداً أن يقول الابن عن نفسه أنه من الآب. أى أن له نفس طبيعة الآب وجوهره
وكما شرح قداسة البابا شنودة الثالث كمثال فإن العقل الذكى يلد فكراً ذكياً، والعقل القوى يلد فكراً قوياً، والعقل الحكيم يلد فكراً حكيماً، والعقل المقدس يلد فكراً مقدساً. أى أن العقل يلد فكراً له نفس جوهر العقل، أى أن جوهرهما واحد.
والعقل يلد الفكر فى داخله دون أن ينفصل منه، وإن خرج الفكر منطوقاً به ككلمة فإنه أيضاً لا ينفصل من العقل بل هو كائن فيه على الدوام.
وفى حوار السيد المسيح مع اليهود الذين قالوا إنهم يعرفون من أين هو، استنكر هو ذلك لأن مصدره هو الآب، ولم يكن اليهود يفهمون ذلك.
ورد السيد على كلامهم بقوله إنهم لا يعرفون الآب، أما هو فيعرفه بالتأكيد لأنه منه "ولستم تعرفونه وأما أنا فاعرفه" (يو8: 55)
ونفس الشئ قاله معلمنا بولس الرسول عن الروح القدس "لأن الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله" (1كو2: 10)
فالابن لأنه من الآب بالولادة، فهو يعرف الآب معرفة كاملة مطلقة غير محدودة. وكذلك الروح القدس لأنه من الآب بالانبثاق، فهو يعرف الآب معرفة كاملة مطلقة غير محددة
واقتران كلام السيد المسيح عن معرفته للآب مع قوله عن ولادته من الآب "لأنى منه" يؤكد أنه كان يتحدث فى هذا الشطر من العبارة عن العلاقة الفائقة التى تربط الابن بالآب فى الجوهر الإلهى الواحد، أى عن أن الابن مولود من الآب بنفس جوهره وطبيعته
وهو أرسلنى :
يقول معلمنا بولس الرسول "لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدى الذين تحت الناموس" (غلا4: 4، 5)
فعبارة السيد المسيح "وهو أرسلنى" تشير إلى إرسال الابن الوحيد إلى العالم مولوداً من امرأة، ليفتدى العالم من لعنة الخطية
وقد كرر السيد المسيح كثيراً فى الأناجيل، وبخاصة ما سجله القديس يوحنا فى إنجيله، أن الآب قد أرسله إلى العالم. وتكرر ذكر هذه الحقيقة عشرات المرات
وكمثال لذلك نرى السيد المسيح يذكر إرسال الآب له عدة مرات فى الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا كما يلى:
"أنا والآب الذى أرسلنى" (يو8: 16)،
"ويشهد لى الآب الذى أرسلنى" (يو8: 18)،
"لكن الذى أرسلنى هو حق" (يو8: 26)،
"والذى أرسلنى هو معى" (يو8: 29)،
"لأنى لم آتِ من نفسى، بل ذاك أرسلنى" (يو8: 42)0
إن تأكيد السيد المسيح على إرسال الآب له يحمل من جانب تمجيداً للآب السماوى. بمعنى أن كل ما يفعله الابن من أجل خلاص العالم هو بتدبير من الآب والابن والروح القدس. مثلاً نقول فى التسبحة {لأنه بإرادته ومسرة أبيه والروح القدس أتى وخلصنا}.
لذلك كان السيد المسيح دائماً يؤكد أنه لا يعمل وحده بل يعمل هو والآب الذى أرسله. فعمل الثالوث هو واحد بالرغم من تمايز دور كل أقنوم فى العمل الواحد
وتأكيد السيد المسيح على إرسال الآب له، يحمل من الجانب الآخر إبرازاً لحقيقة صدق إرساليته وارتباطها بالآب السماوى وذلك بشهادة الآب له
وحينما تكلّم السيد المسيح مع نيقوديموس عن صلبه من أجل خلاص العالم قال له "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16)
إن الصليب ليس فقط تعبيراً عن محبة المسيح لنا باعتباره ابن الله الوحيد، بل هو أيضاً تأكيداً على محبة الآب لنا
إن المحبة الصادرة من الثالوث هى محبة واحدة، وكما وصفها الآباء القديسون هى [من الآب بالابن فى الروح القدس]. فالأقانيم الثلاثة يحبوننا بنفس المقدار وبنفس القوة
وقد ذكر القديس أشعياء النبى اشتراك الروح القدس فى إرسالية الابن الوحيد إذ سجل ذلك على لسان السيد المسيح "منذ وجوده أنا هناك والآن السيد الرب أرسلنى وروحُه (بضم الحاء)" (أش48: 16). فالروح القدس ورد فى هذا النص فى صيغة الفاعل وليس المفعول به، أى هو والآب قد أرسلا الابن إلى العالم
ما أعظم هذه الإرسالية التى جعلتنا نتمتع بظهور الله الكلمة فى الجسد. وما أروع هذا التدبير الإلهى الذى جعلنا ننعم بحضور الله معنا تحقيقاً لنبوة أشعياء النبى
"هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذى تفسيره الله معنا" (مت1: 23)
لم تعد عبارة "الله معنا" هى على سبيل التمنى أو الإحساس فقط بمعونة الله، ولكنها تحولت إلى حقيقة تلامست معها البشرية فأمسكت بالحياة الأبدية.
وهذا ما عبّر عنه القديس يوحنا الرسول فى رسالته الأولى "الذى كان من البدء، الذى سمعناه، الذى رأيناه بعيوننا، الذى شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأُظهرت لنا" (1يو1: 1، 2)