من أراد أن يكون كبيرا فيكم، فليكن لكم خادما ( مت 20 /26)
حبّذا لو نتمسّك بالقِيم والمضامين الروحيّة للأعياد - الأب إبراهيم داود
حبّذا لو نتمسّك بالقِيم والمضامين الروحيّة للأعياد،
ونبتعد عن المظاهر الصبيانيّة الفارغة!
الأب إبراهيم داود
بعد أقل من اسبوعين يحتفل العالم المسيحي بعيد التجسُّد الإلهي، الميلاد المجيد..وتسبق حلولهُ الإعلاناتُ الملوّنة الكبيرة في الصحف، مُعلِنة وصول كمّيات جديدة ومتنوّعة من زينة شجرة الميلاد، وأشخاص بابا ناويل لتزيين الأشجار والمنازل...
وكما في كل عام، يبدأ "المؤمنون" يندفعون نحو المتاجر لاقتناء أدوات غالية الثمن، بذريعة أن عيد الميلاد هو " عيد الأطفال"، وبالتالي فإنهم لا يبخلون على أطفالهم بشيء، إذا كان هذا ما يُدخِل الفرح والسّعادة إلى نفوسهم!
وفي غمرة هذه الاندفاعات والمقتنيات، لا يتساءل احدٌ عن معنى نشوء وتكاثر هذه المتاجر والدكاكين المزيّنة قُبيلَ شهرٍ أو اثنين من موعد حلول العيد!
إنها تبدأ بالتكاثر في كل بلدة " ليمسك التجار سعرًا" كما يقولون، ويتمكّنوا من بيع بضاعتهم " الميلادية" البرّاقة، ويزيدوا أرباحهم.. والحقيقة انه ليس لي شخصيًّا أي شيء ضدّ التجار. جلّ ما يعنيني في هذا الشأن هو تصرف الأهل والشباب، بشأن الاحتفال بميلاد السيد المسيح، له المجد...
إلى جانب " الشجرة وأغراضها"، فالأهل أيضا يقتنون الهدايا لأولادهم وأولاد أقاربهم. فالعيد أيضا " عيد الهدايا"، كما يقولون!..والجديد في هذا الخصوص، انه منذ عدة سنوات، نشأت في الكثير من القرى والمدن عادة تسليم الهدايا،أو حتى تسليم النقود، لبعض الحركات الشبابية ليقتنوا هم بأنفسهم الهدايا،
ثم يقومون مساءً بتوزيعها على الأطفال بواسطة شخص متنكّر بملابس "بابا ناويل" يحضر برفقة مجموعة من الشباب يقومون بالتنقل من بيت لآخر بالسيارات، يقودونها بسرعة ويُطلِقون العنان لزمّاراتها المتنوعة والمزعجة الأصوات!!
إذًا ، عيد الأطفال.. وعيد الهدايا..وعيد بابا ناويل.. وعيد الشجرة!!...
وتجد الكثيرين ممّن"يهمّهم الأمر"، يُطلقون التفسيرات والتأويلات حول هذه "المفاهيم"!
وتفتّش أنت عن صاحب العيد الحقيقي،السيد المسيح،فلا تجد له أثرا أو ذِكرًا ذا قيمة، ضمن هذه التفسيرات والتأويلات
+++
وحتى لا نطيل، تعالوا بنا نتحدث في المهم...
المهمّ الأهم هو أن عيد الميلاد المجيد، كما يؤمن المسيحيون، هو حدثٌ عجائبيّ سنويّ يدعونا بشكل خاص إلى التأملّ في محبّة الله غير المتناهية للبشر، لدرجة انه تنازل وتواضع وتجسّد في أحشاء عذراء من الناصرة، ثمّ وُلد من هذه العذراء في مغارة للبهائم في بيت لحم.
هذا الحدث الإلهيّ العجيب، هو رسالة إلهية لنا نحن البشر، في ثبات الله وأمانته على محبته لنا، بالرغم من ابتعادنا عن طرقه، ورفضنا لتعاليمه النيّرة، وهو رسالة لنا في التواضع واحترام المهمّشين بيننا، علّنا نقتدي ونتمثّل!
"هلمّ يا مؤمنون، لننظر أين يولد المسيح. ولنتّبع إذًا الكوكب إلى حيث يسير، مع المجوسِ ملوكِ المشرق.فهنالك رعاة يسهرون،وملائكة يسبّحون، هاتفين بغير فتور،بتسبحة لائقة:
المجد لله في العلى، الذي وُلد اليومَ في مغارةٍ من البتول والدة الإله، في بيت لحم اليهودية"{من صلاة سحر العيد}.
هذا الحدث العظيم في قيمته، على مُختلف الرؤى والأصعدة، لا يجوز تصغيره في أعين الناس، ولا يجوز جعله يتقلّص لشجرة مزيّنة، أو لهدايا يحملها شخص يرتدي الزيَّ التقليدي لبابا ناويل!..
مِثلُ هذا النهج، في رأيي، وبالرغم من كل ما يمكن أن يقال عن النوايا الحسنة والتقوى الشعبية التي تكمن وراءه، لا يبرّر إهمال صاحب العيد، ولا قِيَم العيد، ولا روحانية العيد..لقد أضحى، للأسف ميلادُ السيد المسيح، وهو الحدثُ الأهم الذي وقع في التاريخ والزمن وقسّمها إلى ما قبْل وما بعد، أضحى عيد الهدايا، أو عيد الأطفال ،أو عيد الشجرة، وأكثرهم يعرفونه بعيد بابا ناويل!! وهذا لعمري، بالإضافة إلى كونه جهلا، فإنّ فيه إهانة ربّما غير مقصودة، للوافد من السماء لأجل خلاصنا!
+ + +
لذلك ليس فقط نُحْسٍنُ صنعا، بل هو من أهم واجباتنا الروحية والتربوية في هذه المناسبة العظيمة، أن نستفيد من قيم الميلاد في ما نقتني لأغراض التزيين والمظاهر الخارجية، ونستغني كليًا عن خدمات " بابا ناويل" الصبيانية المزعجة ..فالميلاد يكتمل بلا شجرة وبلا أدوات زينة، وبلا أضواء كهربائية، وبلا بابا ناويل وأجراسه وسياراته، وبلا كل المظاهر التجارية البرّاقة!!
كم يحسُنُ بنا في هذا العيد المجيد، أن نقرا إنجيل الميلاد بتمعّنٍ، وان نستمع أو نرتّل قطع الصلوات الميلادية الرائعة، وان نتعمّق في التأمّل بأيقونة الميلاد البيزنطية الشهيرة، هذه الأيقونة المكرّمة.. وطبيعي أنّ هذه القيم لا تُتَوّج إلا بالذهاب إلى الكنيسة والاشتراك الفعلي في الذبيحة الإلهيّة المقدّسة..
"ميلادك أيها المسيح إلهنا قد اظهر نور المعرفة للعالم. لانَّ الساجدين للكواكب، فيه تعلّموا منَ الكوكب السجود لك يا شمسَ العدل. وعرفوا انّك المشرق الذي من العلاء، يا ربُّ المجد لك" {طروبارية عيد الميلاد المجيد}.
+ + +
ميلاد السيد المسيح، يا كلّ محبّي المسيح، ليس عيدًا بشريا نحتفل به كما نحتفل بأعياد ميلاد البشر. انه ليس مناسبة للأكل والشرب واللهو والمظاهر! انه مناسبة روحية للتأمل في علاقة الله بالإنسان، وفي محبته وتواضعه وتكريمه لأضعف الخلائق وابسطها.. هذا الكلام لا يعني أن نمتنع عن المأكل والمشرب والملبَس، لكن أن نختصر ونتواضع ونوفّر حتى نستطيع أن نمكّن غيرنا من إخوتنا المحتاجين، أن يسمعوا كلمة الله، وان يشاركونا ما نأكل وما نشرب ..
وحبّذا يا مؤمنون، لو طرحنا جانبا كلّ المفاهيم البشرية الصبيانية التي ذكرنا بعضها في ما سبق، وتمسّكنا نحن وأفراد عائلاتنا، بالمضامين والمفاهيم والقِيم الروحيّة الأصليّة لعيد الميلاد المجيد، بل لكلّ عيد.