آمنت، فشدد إيماني الضعيف (مر 9 /24)
دعوة للإبداع - لنيافة الأنبا موسى
لنيافة الأنبا موسى
لاشك أن إلهنا العظيم هو المبدع الأول في هذا الوجود، لأنه أصل الوجود، واجب الوجود، وعلة كل الموجودات.
1 - الله... المبدع الأول :
في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله: ليكن نور، فكان نور" (تك 1:1-3).
كانت هذه بداية الإبداع الإلهي، فبينما يعيش إلهنا العظيم في أزليته، ليس في حاجة إلى شيء، وفى تيار الحب المتدفق من الآب إلى الابن في الروح القدس، خلق الله الزمن "كان مساء وكان صباح.." (تك 4:1)،
كما خلق الكون المادي: النور، ثم الجلد، ثم اليابسة، ثم النبات، ثم الشمس والقمر والنجوم، ثم الزحافات والطيور، ثم الحيوان، فالإنسان (تك 1) الذي أبدعه الله على صورته ومثاله؛ في القداسة والبر، وفى الحكمة والنطق، وفى الحياة والخلود، وفى الروح العاملة الحرة.
قبل أن يبدع الرب الإنسان: المملكة الشاسعة في الداخل، الروح والعقل والنفس والجسد، الأعضاء والأنسجة والخلايا المتنوعة، التفاعلات الحية داخل كل خلية، الوظائف المحددة لكل عضو، مع تناغم مذهل..
خلق الرب للإنسان الخليقة المادية، بما تتميز به من جمال أخاذ، وحياة لا يهبها إلا الله الحي، وما تتمتع به من رعاية، حتى لأصغر فيروس، والطبيعة الرائعة ذات الألوان، والمنافع ودورات الحياة.. ملايين الأنواع من الكائنات التي يحار العلم الإنساني في سبر أغوارها:
سواء في عالم النبات أو الحيوان أو البحار.. وبالأكثر في عالم الأفلاك والنجوم، حيث المجرات الشاسعة بالملايين، وكل مجرة تحوي شموساً بلا عدد، وكواكب..
كيف أبدع الله الكون؟!
نعم.. فإلهنا هو "مهندس الكون الأعظم".. فيه عظمة الخالق، ودقة القوانين الطبيعية، وبراعة الطبيب الخالد، وروعة المدبر والمنظم.. لهذا هتف معلمنا داود النبي قائلاً: "أيها الرب ربنا، ما أعجب أسمك على الأرض كلها، لأنه قد ارتفع جلالك فوق السموات.
من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سبحاً.. السموات أعمال يديك، القمر والنجوم أنت أسستها" (مز 1:8،2). "السموات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه.. جعل في الشمس مظلته، وهى مثل العريس الخارج من خدره، من أقصى السماء خروجها، ومنتهاها إلى أقصى السماء" (مز 1:18،4،5). ولهذا أيضاً قال الرسول بولس، إن من يتأمل في الكون يرى الله، ولذلك فهو بلا عذر إذا لم يؤمن به، وانساق وراء عبادة الأصنام:
"الذين يحجزون الحق بالإثم.. معرفة الله ظاهرة فيهم.. لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم، مدرَكة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته.. حتى أنهم بلا عذر" (رو 18:1-20)
2 - الله.. أساس الإبداع الإنساني:
لأن الله مبدع، ولأنه خلق الإنسان على صورته ومثاله، وأعطاه روحاً عاقلة حرة، صار الإنسان مبدعاً مثل الله.. الفرق هو أن الله هو المبدع اللانهائي، والإنسان هو المبدع النسبي..
أي أن إبداعاته مأخوذة أساساً من عمل روح الله في داخله، وفى عقله، وفى وجدانه، وبطريقة محدودة، تمجد الله، وبدون الله ليس لها وجود ولا استمرارية.
الفنان مثلاً.. سواء من يستخدم حنجرته أو بنانه، في الإنشاء أو الرسم.. الله هو الذي أعطاه هذه الحنجرة. والإنسان يصقل هذه المواهب بالعلم والدراسة.. هذا من حيث أصل هذه المواهب. أما من حيث استمراريتها، فمستحيل أن يضمن الإنسان سلامة صوته أو عينيه أو أصابعه، في خضم هذه الحياة الزاخرة بالأمراض والحوادث..
الله فقط هو الضامن الوحيد لهذه العطايا كي تستمر. ونفس الأمر نجده في الإبداع الفكري أو العلمي أو الثقافي.. فالله "اللوغوس" الحكمة اللانهائية، هو الذي يعطينا الحكمة المحدودة، التي بها نفكر وندرس، ونحلل، ونلاحظ، ونستنتج ونربط، ونصل إلى اكتشافات واختراعات علمية، أو إلى إنجازات فكرية وثقافية..
الكل رأى التفاح يسقط من الشجر إلى أسفل كما رآه نيوتن. والكل يرى المياه تفيض من "البانيو" كما رأى أرشميدس. والكل رأى غطاء الإبريق يتحرك إذا غلى الماء.. والكل يعرف أن الزمن مهم في قياس الأشياء والحركة كما رأى أينشتاين. لكن هناك شيء ما، يسميه المفكرون "الومضة" (glimpse).. إشعاعة من فوق.. فكرة من العلا.. أتت إلى ذهن العالم أو المفكر بشيء جديد.. وأدت إلى إبداعات مذهلة: من البخار إلى الكهرباء إلى الذرَّة .. ومن فلسفات القدماء إلى أفكار المحدثين.. ومع أن الإنسان كثيراً ما يدَّعى أنه بمفرده أنجز كل ذلك، إلا أن العالم المتضع هو القادر أن يكتشف الإله غير الظاهر حسياً، والمعلن في كل هذه الإبداعات..
لهذا قال نيوتن حينما سئل عن إحساسه بعد الإنجازات الهائلة في قوانين الطبيعة: "كنت كطفل صغير، يلهو على شاطئ محيط ضخم" وقال أينشتاين: "كلما ازدادت دراستي لهذا الكون، ازداد إحساسي بالجهالة"
3 - إذن... فلنبدع نحن:
نعم.. فأنت مدعو للإبداع.. ولكني أنصحك أن تعيد قراءة السطور السابقة.. فالله هو أساس الإبداع الإنساني المتنوع:
أ - اِقتنِ الصفاء الإلهي :
فبصفاء النفس بالتوبة، وشبع الروح بالصلاة والكلمة والأسرار الكنسية، واستنارة الذهن بالقراءة والتأمل.. يمكن أن تهدأ نفس الإنسان فيستشرق الآفاق الجديدة، ويستشعر الحضور الإلهي، ويكتشف جديداً في الفكر والمعرفة والفنون.." من أجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات، يشبه رجلاً رب بيت، يخرج من كنزه جدداً وعتقاء" (مت 52:13).
ب- تحفَّظ من الكبرياء :
فالكبرياء طريق السقوط، ولكنها بالأكثر طريق الجهالة.. فالإنسان المتكبر متمركز حول ذاته، ولهذا لا يرى سواها، ولا يكتشف العالم المحيط، ولا إبداعات الآخرين، وبالتالي لا يستعمق شيئاً، ولا يجدد شيئاً، لا في حياته، ولا في حياة الآخرين!
ج- احذر الانحراف :
فمع أهمية أن "تكون نفسك"، (BEING YOURSELF)، لأن الإنسان لديه حاجة نفسية إلى التفرد والخصوصية، وقد اختص الله كل إنسان بعطايا ومزايا خاصة.. إلا أن الإنسان أيضاً بحاجة إلى المرجعية، التي تراجع أفكاره وأعماله وإبداعاته، فتطمئن وتطمئنه إلى صحة ما أنتج من فكر أو علم أو ثقافة..
الإبداع شئ، والبدعة شئ آخر.. فالأول ناتج عن عمل الله في الملكات الإنسانية، التي استودعها الإنسان، أما البدعة فهي نتاج عمل الشيطان، لتدمير الإنسان والإنسانية!!
وها "عبادة الشيطان" قد أتت إلينا من الغرب، تخرب وتدمر روح الإنسان وفكره، بل حتى جسده وأسرته ووطنه..
إذن.. فطريق الإبداع مفتوح.. لكن بعمل إلهي، وتجاوب إنساني... فالرب لم يهمل الإنسان حتى في الوحي المقدس... حينما رفض أن يلغي الإنسان، بل استخدمه في إيصال الوحي الإلهي، مستخدماً ملكاته في اللغة والأسلوب، ومعلوماته التي أخذها عن التقليد الشفاهي أو المكتوب.. ولكن مع عصمة إلهية من الزلل، إذ يكتب "مسوقاً من الروح القدس" (2بط 12:1).
أحبائي..
هيا إلى مزيد من الشركة الروحية مع الله، والنفس الصافية الهادئة، والذهن المستنير بالكلمة، لكي يأتي الإبداع سليماً في مصدره وغاياته، سواء أكان إبداعاً فكرياً أو فنياً أو علمياً. أو حتى إذا كان إبداعاً روحياً..
فأمامنا تأملات السروجي، وأعماق يوحنا سابا، وتفسيرات ذهبي الفم وروحانية أنطونيوس، وشركة باخوميوس، وتوحد الأنبا بولا.. وكلها إبداعات أثرت الإنسان والكنيسة...