إِلى اللهِ صَوتي فأَصرُخ إِلى اللهِ صَوتي فإِلَيَّ يُصْغي (مز 77 /2)
شخصيات من الكتاب المقدس - أبينا إبراهيم أبو الآباء - الجزء الأول - القس مرقس زكي
شخصيات من الكتاب المقدس
أبينا إبراهيم أبو الآباء
الجزء الأول
القس مرقس زكي
===============
دعوة الله لإبراهيم
E هو رأس الأمة اليهودية وفخرها، وهو أبو المؤمنين جميعهم من اليهود والأمم.. يقول مُعلِّمنا بولس الرسول: "اعلَموا إذًا أنَّ الذينَ هُم مِنَ الإيمانِ أولئكَ هُم بَنو إبراهيمَ" (غل3: 7). ويقول أيضًا: "ليكونَ أبًا لجميعِ الذينَ يؤمِنونَ" (رو4: 11).
E وهو الذي سنتكيء في حضنه في فردوس النعيم.. فنصلي في أوشية الراقدين ونقول: (تفضل يارب أن تنيح نفوسهم جميعًا في أحضان آبائنا القديسين إبراهيم واسحق ويعقوب...).
E هو خليل الله.. "وتمَّ الكِتابُ القائلُ: فآمَنَ إبراهيمُ باللهِ فحُسِبَ لهُ بِرًّا، ودُعيَ خَليلَ اللهِ" (يع2: 23).
E وهو حبيب الله كما ندعوه في الأجبية في قطع الساعة التاسعة: (لا تتركنا إلى الانقضاء... من أجل إبراهيم حبيبك...).
نشأ أبونا إبراهيم - وكان اسمه أبرام - في عالم كان قد ابتعد كثيرًا عن طريق الله، وعَبَدَ آلهة وثنية، إلاَّ أن أبرام ظل محتفظًا بعبادة الله الإله الحقيقي.. ولذلك اختاره الله ليبدأ به تكوين شعب خاص يعبده، ويأتي المسيح من نسله.
وكانت أول خطوة في هذا الأمر هي أن يخرجه من مكان الشر (أور الكلدانين)، فقال له الرب:
"اذهَبْ مِنْ أرضِكَ ومِنْ عَشيرَتِكَ ومِنْ بَيتِ أبيكَ إلَى الأرضِ التي أُريكَ" (تك12: 1).
ورغم غرابة هذا الطلب إلاَّ أن أبرام أطاع في ثقة وإيمان، وخرج من (أور الكلدانيين)، ومعه أبوه تارح وامرأته ساراي وابن أخيه لوط، وساروا حتى وصلوا إلى مدينة حاران، وفيها مات أبوه تارح.
ويكرر الرب طلبه مرة أخرى فيطيع أبرام ويتجه إلى أرض كنعان، ويشرح لنا ذلك القديس اسطفانوس قائلاً: "ظَهَرَ إلهُ المَجدِ لأبينا إبراهيمَ وهو في ما بَينَ النَّهرَينِ، قَبلَما سكَنَ في حارانَ، وقالَ لهُ: اخرُجْ مِنْ أرضِكَ ومِنْ عَشيرَتِكَ، وهَلُمَّ إلَى الأرضِ التي أُريكَ. فخرجَ حينَئذٍ مِنْ أرضِ الكلدانيينَ وسكَنَ في حارانَ. ومِنْ هناكَ نَقَلهُ، بَعدَ ما ماتَ أبوهُ، إلَى هذِهِ الأرضِ التي أنتُمُ الآنَ ساكِنونَ فيها" (أع7: 2-4).
وقد كان عمله هذا من أعمال الإيمان والطاعة..
ولما وصل كنعان أقام فى شكيم عند (بلوطة مورة)، وهناك ظهر له الرب ثانية وقال له: لنسلك أعطي هذه الأرض. فبنى أبرام مذبحًا للرب.. "واجتازَ أبرامُ في الأرضِ إلَى مَكانِ شَكيمَ إلَى بَلّوطَةِ مورَةَ. وكانَ الكَنعانيّونَ حينَئذٍ في الأرضِ. وظَهَرَ الرَّبُّ لأبرامَ وقالَ: "لنَسلِكَ أُعطي هذِهِ الأرضَ". فبَنَى هناكَ مَذبَحًا للرَّب الذي ظَهَرَ لهُ. ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هناكَ إلَى الجَبَلِ شَرقيَّ بَيتِ إيلٍ ونَصَبَ خَيمَتَهُ. ولهُ بَيتُ إيلَ مِنَ المَغرِبِ وعايُ مِنَ المَشرِقِ. فبَنَى هناكَ مَذبَحًا للرَّب ودَعا باسمِ الرَّب. ثُمَّ ارتَحَلَ أبرامُ ارتِحالاً مُتَواليًا نَحوَ الجَنوبِ" (تك12: 6-9).
وعاش في خيام وهكذا تميز أبرام بحياة المذبح والخيمة.. المذبح للصلاة والخيمة لإحساسه بالغربة عن العالم.. "لأنَّهُ كانَ يَنتَظِرُ المدينةَ التي لها الأساساتُ، التي صانِعُها وبارِئُها اللهُ" (عب11: 10).
شهد لله بحياة المذبح وسط الكنعانيين والوثنيين، وعاش شاعرًا بالغربة.. ثم يتعرض أبرام لتجربة، ويتصرف بتفكيره البشري دون استشارة الرب.. "وحَدَثَ جوعٌ في الأرضِ، فانحَدَرَ أبرامُ إلَى مِصرَ ليَتَغَرَّبَ هناكَ، لأنَّ الجوعَ في الأرضِ كانَ شَديدًا" (تك12: 10).
وهذا التصرف بدون استشارة الرب أوقعه في عدة أخطاء.. فنجده يخاف على حياته من القتل على يد المصريين إذا علموا أن ساراي امرأته، فيكذب، ويقول عنها إنها أخته، وبهذ فلم يتكل على الله ولم يثق في حمايته له.
صحيح هي أخته من أبيه وليست شقيقته ولكن (أنصاف الحقائق ليست كلها حقائق)، وخصوصًا أنه كذب لينال خيرًا بسبب ساراي لأنها كانت حسنة المنظر.
والشيء الذى خاف أن يحدث فقد حدث.. فالمصريين رأوا ساراي جميلة، فأخذوها لفرعون الذي أراد الزواج منها، ولكن الله يتدخل لإنقاذ ساراي وأبرام.. "فضَرَبَ الرَّبُّ فِرعَوْنَ وبَيتَهُ ضَرَباتٍ عظيمَةً بسَبَبِ سارايَ امرأةِ أبرامَ" (تك12: 17)، ويعرف فرعون أن ساراي امرأة أبرام فيعيدها إليه ويصرفه من مصر بسلام.
نتعلم درسين من حدوث المجاعة ونزول أبرام إلى مصر:
E أولها أن طريقنا مع الله قد تصادفه مشاكل.. لكن الحل هو في التمسك أكثر بالله.
E وثانيها أن الله بمحبته ينقذنا من مشاكل كثيرة نوقع نحن أنفسنا فيها، مثلما أنقذ أبرام وساراي من زواجها بفرعون.
وعد الله لإبراهيم وطاعة دعوة الرب
سكن أبرام في بيت إيل ومعه لوط ابن أخيه، وكان الاثنين غنيين في المواشي والغنم والبقر فلم تحتملهما الأرض.. إذ حدثت مخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشي لوط بسبب مكان الرعي، ويذكر الكتاب المقدس:
"وكانَ الكَنعانيّونَ والفَرِزيّونَ حينَئذٍ ساكِنينَ في الأرضِ" (تك13: 7).
هذه الآية الاعتراضية تنبه أذهاننا إلى شيء هام، وهو خطورة اختلاف المؤمنين أمام غير المؤمنين.. ليتنا لا ننقسم أمام الآخرين لكي لا يستضعفونا، ولكي لا نصير عثرة لهم.. "لأنَّ اسمَ اللهِ يُجَدَّفُ علَيهِ بسَبَبِكُمْ بَينَ الأُمَمِ" (رو2: 24).
تدخل أبرام لكي يحل المشكلة فقال للوط: "لا تكُنْ مُخاصَمَةٌ بَيني وبَينَكَ، وبَينَ رُعاتي ورُعاتِكَ، لأنَّنا نَحنُ أخَوانِ. أليستْ كُلُّ الأرضِ أمامَكَ؟ اعتَزِلْ عَني. إنْ ذَهَبتَ شِمالاً فأنا يَمينًا، وإنْ يَمينًا فأنا شِمالاً" (تك13: 8-9).
E أعطاه أن يختار رغم أنه ? أبرام ? الأكبر سنًا ومقامًا، ولكنها حكمة ومحبة وتضحية شديدة من أبرام للوط.
E لوط اختار لنفسه أن يسكن في سدوم رغم أن أهلها كانوا أشرارًا وخطاة لدى الرب جدًا.. فنظر لوط فقط إلى خصوبة الأرض.
E كان اختياره مبنيًا على الظاهر والخيرات المادية فقط، ولم ينظر إلى نوعية الناس الذين سيسكن معهم، رغم أن الكتاب المقدس يُحذرنا: "لا تضِلّوا: فإنَّ المُعاشَراتِ الرَّديَّةَ تُفسِدُ الأخلاقَ الجَيدَةَ" (1كو15: 33).. وسنرى كم الويلات التي أصابت لوط بسبب اختياره هذا.
أما أبرام إنسان الله الذي لا يحب الخصام فلم يختر لنفسه.. بل ترك لله أن يختار له..
"وقالَ الرَّبُّ لأبرامَ، بَعدَ اعتِزالِ لوطٍ عنهُ: ارفَعْ عَينَيكَ وانظُرْ مِنَ المَوْضِعِ الذي أنتَ فيهِ شِمالاً وجَنوبًا وشَرقًا وغَربًا، لأنَّ جميعَ الأرضِ التي أنتَ ترَى لكَ أُعطيها ولنَسلِكَ إلَى الأبدِ. وأجعَلُ نَسلكَ كتُرابِ الأرضِ" (تك13: 14?16).
ما أجمل عطايا الله لمَنْ يسلِّم له حياته
فرق كبير بين أبرام الذي قال له الرب: "ارفَعْ عَينَيكَ"، وبين لوط الذي رفع هو عينيه.. "فرَفَعَ لوطٌ عَينَيهِ" (تك13: 10).. فرق بين مَنْ يختار له الله ومَنْ يختار لنفسه.
سكن لوط في مدينة سدوم، وحدثت حرب بين خمسة ملوك.. منهم ملك سدوم ضد أربعة ملوك آخرين.. كانت نتيجتها انهزام الملوك الخمسة، وانتصار الملوك الأربعة الذين سبوا أهل سدوم ومَنْ ضمنهم لوط.
وهذا نتيجة سيئة لاختيار لوط لنفسه، ولكن أبرام عم لوط حينما سمع بما حدث لابن أخيه،
لم يشمت به لأن تركه بل على العكس أخذ 318 من عبيده مع بعض الأشخاص ممَنْ له معهم عهد وخرج وراء الغزاة
واستطاع أن يهزمهم، ويسترجع جميع المأسورين ومَنْ ضمنهم لوط ابن أخيه وأهل سدوم وجميع ممتلكاتهم.. "فأتَى مَنْ نَجا وأخبَرَ أبرامَ العِبرانيَّ. وكانَ ساكِنًا عِندَ بَلّوطاتِ مَمرا الأموري، أخي أشكولَ وأخي عانِرَ. وكانوا أصحابَ عَهدٍ مع أبرامَ. فلَمّا سمِعَ أبرامُ، أنَّ أخاهُ سُبيَ جَرَّ غِلمانَهُ المُتَمَرنينَ، وِلدانَ بَيتِهِ، ثَلاثَ مِئَةٍ وثَمانيَةَ عشَرَ، وتبِعَهُمْ إلَى دانَ. وانقَسَمَ علَيهِمْ ليلاً هو وعَبيدُهُ فكسَّرَهُمْ وتبِعَهُمْ إلَى حوبَةَ التي عن شَِمالِ دِمَشقَ. واستَرجَعَ كُلَّ الأملاكِ، واستَرجَعَ لوطاً أخاهُ أيضًا وأملاكَهُ، والنساءَ أيضًا والشَّعبَ" (تك14: 13-16).
جميل موقف أبرام الذى هب لنجدة لوط الذى سباه الأعداء.. فما موقفنا نحن حينما نسمع عن أحبائنا الذين سباهم الشيطان؟!
عند رجوع أبرام من انتصاره هذا.. خرج ملك سدوم لاستقباله وشكره وتقابلا معًا عند ملكي صادق ملك شاليم الذى كان كاهنًا لله العلي، وأخرج خبزًا وخمرًا.. والذى كان رمزًا للمسيح له المجد في كهنوته..
"فخرجَ مَلِكُ سدومَ لاستِقبالِهِ، بَعدَ رُجوعِهِ مِنْ كسرَةِ كدَرلَعَوْمَرَ والمُلوكِ الذينَ معهُ إلَى عُمقِ شَوَى، الذي هو عُمقُ المَلِكِ. ومَلكي صادِقُ، مَلِكُ شاليمَ، أخرَجَ خُبزًا وخمرًا. وكانَ كاهِنًا للهِ العَلي. وبارَكَهُ وقالَ: "مُبارَكٌ أبرامُ مِنَ اللهِ العَلي مالِكِ السماواتِ والأرضِ، ومُبارَكٌ اللهُ العَليُّ الذي أسلَمَ أعداءَكَ في يَدِكَ". فأعطاهُ عُشرًا مِنْ كُل شَيءٍ" (تك14: 17-20).
حاول ملك سدوم أن يقدم لأبرام الذي أرجع له شعبه من السبي والأسر الغنائم التي حصل عليها، ولكن أبرام الذي تعود على عطايا الله فقط، والذي لم تكن له مطامع دنيوية قال له: "رَفَعتُ يَدي إلَى الرَّب الإلهِ العَلي مالِكِ السماءِ والأرضِ، لا آخُذَنَّ لا خَيطًا ولا شِراكَ نَعلٍ ولا مِنْ كُل ما هو لكَ، فلا تقولُ: أنا أغنَيتُ أبرامَ. ليس لي غَيرُ الذي أكلهُ الغِلمانُ، وأمّا نَصيبُ الرجالِ الذينَ ذَهَبوا معي: عانِرَ وأشكولَ ومَمرا، فهُم يأخُذونَ نَصيبَهُمْ" (تك14: 22-24).
رفض أبرام أخذ الغنائم لأنه عمل الخير غير منتظر أجرًا عليه، وكذلك لا ننسى أن أهل سدوم أشرارًا لا يأخذ شيئًا منهم لأن زيت الخاطئ لا يدهن رأسي.. "ليَضرِبني الصديقُ فرَحمَةٌ، وليوَبخني فزَيتٌ للرّأسِ. لا يأبَى رأسي" (مز141: 5).