مكتوب: ((بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم تجعلونه مغارة لصوص )) ( مت 21 /31)
الخلاص في حياة آباء البرية - الجزء الثاني - القس بطرس وليم
الخلاص في حياة آباء البرية
الجزء الثاني
القس بطرس وليم
ظهرت بعض مفاهيم ومبادئ هذا الخلاص في حياة آباء البرية، وفي سيرتهم العطرة المملؤة بالفضائل، وفي تعاليمهم ورسائلهم.. منها:
- أهمية الأعمال في الحصول على الخلاص (تابعنا هذه النقطة في الجزء الأول).
- الجهاد والنعمة.
- الروح القدس وعمله في الخلاص.
- المسيح هو مُخلصنا الصالح، وأنه لا خلاص إلاَّ بدم المسيح.
- تتميم الخلاص بخوف ورعدة.
ثانيًا: الجهاد والنعمة
إن كانت الأعمال لازمة كثمرة للخلاص.. فهل يخلص الإنسان بجهاده ضد الخطية أم بنعمة الروح القدس العاملة معه؟
لا يمكن للإنسان أن يخلص بجهاده وحده.. فقد قال السيد المسيح له المجد: "بدوني لا تقدِرونَ أنْ تفعَلوا شَيئًا" (يو15: 5)؛ وأيضًا النعمة وحدها لا تشاء أن تخلصك بدون استجابة إرادتك لها.
أنصت إلى قول القديس يوحنا ذهبي الفم: "... إن الله لا يريدنا أن نكون مستلقين على ظهورنا ويعطينا الملكوت.. لذلك فالنعمة لا تعمل كل شيء وحدها.. فهي ليست مجالاً للكسل والتهاون والتراخي".
الأنبا باخوميوس أب الشركة
وقد أعطى الأنبا باخوميوس أب الشركة ملخصًا لجهاده عندما جمع الأخوة ورؤساء الأديرة قبل ناحتة بثلاثة أيام وقال لهم:
- أنتم تعرفون قصدي فقد سرت بينكم دون أن انتهر أحدًا بفظاظة كمَنْ له سلطان.. إنما كنت أجتهد من أجل خلاص نفوسكم فقط.
- كما أنني لم أنقل أحدًا من موضع إلى آخر، أو من عمل إلى آخر إلا وأنا عالم أن هذا لخيره.
- لم أكافئ أحدًا شرًا بشر، ولا لعنت إنسانًا كان لعنني مضجرًا غاضبًا، إنما كنت أؤدب بدعة وطول أناة حتى لا يخطئ إلى الله الذي خلقه.
- لم يعاتبني أحد فتذمرت حتى لو كان ذلك الشخص صغيرًا، إنما كنت أقبل الكلام من أجل الرب، كما لو أن الرب أرسله إليَّ.
- ولم أمضي قط إلى مجمع أو موضع كمَنْ له سلطان عليه، ولا طلبت دابة أركبها من موضع إلى آخر بل كنت أسير على رجلي بشكر.
- فان كان أحدكم يجري ورائي بدابة ويطلب مني أن أركبها أسمع له إن كان جسدي ضعيفًا، أما إذا كان قويًا فما كنت أقبل.
- أما بالنسبة للأكل والشرب أو ما أشبه ذلك من راحات الجسد.. فأنتم لستم غير عارفين بها.. أنتم تعملون كيف كنت اهتم بها.
الأنبا أنطونيوس
كذلك الأنبا انطونيوس في سيرته العطرة:
كان دائمًا يحث النساك الذين يزورونه على: الإيمان بالله، وعلى محبتهم له، وحفظ أنفسهم من الأفكار الشريرة واللذات الجسدية، وشبع البطن، وعلى تجنب المجد الباطل، والترتيل قبل النوم وعند الاستيقاظ، والصلاة المستمرة، وحفظ وصايا الكتاب المقدس عن ظهر قلب، وتذكر أعمال القديسين، وتقليد غيرتهم كي ما تفكر نفوسهم في الوصايا.
الأنبا شنودة رئيس المتوحدين
أما الأنبا شنودة رئيس المتوحدين فيذكر الأنبا ويصا تلميذه في سيرته:
لما حلت جمعة الآلام صنع خشبة مثال الصليب المقدس، وربط نفسه عليها، ووقف وهو مبسوط اليدين كخشبة الصليب، ولم يزل قائمًا هكذا وهو قدام صدره إلى تمام الأسبوع.. وكان يصنع ذلك كأنه يتألم مع سيده ويصلب أعضاءه.
إن فضائله كثيرة يطول شرحها.. مما كان يكابده من مشقات العبادة منذ شبابه إلى حد الشيخوخة الحسنة.
ودفعة أقام شهرًا من الأيام يعيش بنصف خبزة واحدة مغموسة بملح، وأنه أكمل سيرة الرهبنة بنسك عظيم وصلوات كثيرة، وكان يصلي اثني عشر صلاة، ويضرب في كل صلاة أربعة وعشرين ميطانية في كل حين، وكان لا ينام الليل البتة إلا وقت الصباح يجيه نعاس قليل ودموع كثيرة ولا يأكل خبزًا سوى بقل وحبوب، وقد رق عظمه وذبل جسمه.
ومع هذا كله لم يخلو الأنبا شنوده من التداريب في هذه الفترة الأولى من حياته.. إذ يقال إنه بينما كان يعمل بعض الأعمال اليدوية حسب قوانين الدير جاءه الشيطان في شكل ملاك، وقال له: إنني مرسل إليك لأعزيك، فكف عن الصلاة، وانتقل من هذا القفر إلى الريف لتأكل الخبز مع الأخوة، وأنه سيعطي لك عمرًا مديدًا، ولكن إن ظللت في هذا التقشف والجهد فإنك ستموت.
وحلل القديس هذا الكلام، فوجده متناقضًا.. لذلك رد على هذه المكيدة بقوله: "إذا كنت أنت ملاكًا بالحقيقة أتيت لتعزيني، فابسط يديك مثال الصليب وصلي للرب يسوع".
فلما سمع عدو الخير ذكر الصليب واسم يسوع انصرف في الحال، وفشلت تلك المؤامرة التي دبرها للقديس الأنبا شنوده].
القديس مقاريوس الكبير
كذلك من أقوال القديس مقاريوس الكبير عن النعمة:
الإنسان الأول لما رأى نفسه عريانًا خجل، فما أعظم فضيحة العري، فإن الجسد إذا تعرى هكذا يعرضنا لفضيحة كبرى.
فكم تكون النفس العارية من القوة الإلهية التي لم تكتسِ باللباس الأبدي الروحاني الذي هو الرب يسوع المسيح نفسه!!
لذلك فكل مَنْ كان غير مكتسِ بذلك المجد الإلهي يجب أن يستحي، ويقر بفضيحته، كما استحى آدم من عري جسده، ويطلب من المسيح ليكسوه بالمجد والنور.
ومع أن آدم ستر نفسه بورق التين إلاَّ أن خجله لم يفارقه، لعلمه بفقره وعُريه.. هكذا ينبغي أن لا تنخدع النفس بزعمها أنها بارة، وأن عليها لباس الخلاص وهي في الحقيقة قد عملت لنفسها غطاء من الأفكار الباطلة.
فإن استند أحد على بره ولم يطلب بر الله البر الحقيقي، الذي هو يسوع المسيح، الذي جعله الله لنا برًا وقداسة وفداء، كما قال الرسول بولس: "ومِنهُ أنتُمْ بالمَسيحِ يَسوعَ، الذي صارَ لنا حِكمَةً مِنَ اللهِ وبرًّا وقَداسَةً وفِداءً" (1كو1: 30).. فإن تعبه يصبح باطلاً، ولا تكون له فيه ثمرة لأن كل بر الإنسان يصير في اليوم الأخير بمنزلة خرقة نجسة.. كما قال النبي إشعياء: "الذينَ يُفرِغونَ الذَّهَبَ مِنَ الكيسِ، والفِضَّةَ بالميزانِ يَزِنونَ. يَستأجِرونَ صائغًا ليَصنَعَها إلهًا، يَخُرّونَ ويَسجُدونَ!" (إش46: 6).
فلنطلب إذًا، من الله بتوسل وصلاة لكي نلبس لباس الخلاص الذي هو الرب يسوع المسيح النور الفائق الوصف، الذي إذا لبسته النفس لا ينزع منها قط.
هكذا النفس التي جرحت بشهوات الفساد والتي عميت بظلمة الخطية.. فهي لا تزال على كل حال لها إرادتها، حتى تصرخ إلى الرب يسوع، تناديه ليأتي إليها بنفسه، ويصنع لها فداءً أبديًا.
لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين.