لِكُلِّ أَمرٍ أَوان و لكُلِّ غَرَض تَحتَ السَّماءَ وَقْت (جا 3 /1)
حياة الفضيلة بين الهدف والوسيلة - قداسة البابا شنوده الثالث
حياة الفضيلة
بين الهدف والوسيلة
قداسة البابا شنوده الثالث
كلنا تقريباً نتفق فى الأهداف أو الأغراض، ما دام الهدف سليماً وخيِّراً. ولكننا نختلف فى الوسائل المؤدِّية إلى الهدف ... فما هى أسباب إختلاف الوسائل إذن؟ سببها إختلاف الفكر والعقل. كل مِنَّا له فكره الخاص، ونظرته الخاصة إلى الأمور. كذلك تختلف الأفكار بدرجة الذكاء، وبالتالي في الحُكم على الأمور. كما يختلف الناس أيضاً فى الطِّباع وفى نوع النفسية. كما يختلفون من جهة البيئة المحيطة بكل منهم ومدى تأثيرها عليهم ...
لذلك نجد إناساً طيبين، ويريدون الخير، ومع ذلك فوسائلهم مختلفة. كل واحد له منهجه الخاص فى الوصول إلى الغرض.
أحياناً يوجد تنوّع، وأحياناً يوجد إختلاف وخلاف ... والتنوع شيء طبيعي.
ولكن الإختلاف كثيراً ما يتسبب فى إنقسام وصراعات. ورُبَّما يتحوَّل من الموضوعية إلى خلاف شخصي. ورُبَّما إلى خصام وإلى عداوة.
مثال لذلك موضوع الاصلاح: كلنا نحب أن تنصلح الأمور. ولكن يختلف الأسلوب،
فإنسان يرى أن الاصلاح يأتي عن طريق الحكمة والتفكير والتفاهم. وآخر أسلوبه فى الإصلاح هو العنف. عن طريق النقد الشديد والمنشورات والتجريح والتشهير. ويقول إن المخطئين
لا يصلحهم إلا اتخاذ الشدّة معهم. وآخر يقول: تنصلح الأمور بالصبر وطول الآناة، وآخر يقول: نُصلِّي ونصوم، واللَّه يتدخَّل ويصلح كل شيء.
لذلك إن اشتركت مع أحد فى عمل ما، أو من أجل خير ما، لا يكفى أن يكون مشتركاً
معك فى الهدف والغرض. إنما ينبغي أن يكون أيضاً مُشتركاً معك فى الوسيلة وأسلوب العمل. لئلاً تكون طريقته فى تنفيذ الغرض المشترك غير طريقتك. فتختلفان معاً، أو يُسبِّب لك مشاكل باعتباركما شريكان فى عمل واحد.
الخطير فى مسألة الوسيلة هو المبدأ الميكاڤلي. وكان ميكاڤلي يقول: الغاية تُبرِّر الوسيلة. فيظنه البعض أن الهدف الطيب يُبرِّر الوسيلة الخاطئة!!
فمثلاً إنسان بِاسم الغيرة المقدسة على عمل الخير، لا مانع عنده من أن يصيح وينتهر ويوبِّخ ويشتم، ورُبَّما يرفع قضايا ... ونحن نقول لمثل هذا الشخص: " إن الغيرة المُقدسة تناسبها وسيلة مقدسة ".
وبالمِثل أب يقسو جداً على ابنه حتى يُعقِّده نفسياً، ويحتج بغرض مُقدَّس هو تربية ابنه! الغرض سليم ولكن الوسيلة خاطئة. أو أب من أجل حرصه على عفاف ابنته يعاملها بشدة وقسوة حتى تهرب من بيته، وتبحث عن صدر حنون يعطف عليها ... أو زوج يحبس زوجته فى البيت ويُقيَّد كل تحركاتها وكلامها بحجة الحفاظ عليها! الوسيلة أيضاً خاطئة ... أو أُم تتدخل فى صميم الحياة الزوجية لابنتها، وعلاقة الابنه بزوجها.
وقد تتسبب فى فصلها عن زوجها. وتختفي وراء هدف مُقدِّس وهو الحرص على ابنتها وضمان راحتها.
كثيراً ما ضيّع الناس أنفسهم وعلاقتهم بالوسيلة الخاطئة: مثال ذلك شخص يسعى إلى مصالحة غيره. وهذا هدف سليم بلا شك ولكنه يرى أن الوسيلة هى العتاب. لا مانع. ولكنه فى طريقة العتاب، يُعيد الأوجاع والجروح القديمة، ويضغط عليها بأسلوب يتعب الطرف الآخر.
ويخرج من العتاب وقد ساءت العلاقة عن ذي قبل لأن وسيلة العتاب كانت خاطئة ... بعكس ذلك إنسان آخر يستطيع بالعتاب أن يكسب الموقف، بل يجعل الطرف الآخر يتفهّم الأمور ويعتذر له، ويخرجان صديقين كأن شيء لم يكن.
العتاب هو العتاب. ولكن وسيلته عند واحد مقبولة ومجدية، وعند آخر متعبة ومؤذية وتأتي بعكس المطلوب ... فواحد يُعاتب بطريقة هادئة، والآخر يُعاتب بطريقة ساخطة.
الأول يعاتب بحُب وعشم، والثانى يُعاتب بحقد وإنتقام. فواحد منهما يُريد أن يُصالح.
والآخر يُريد أن يثبت للطرف الآخر أنه مخطئ!
جماعة تدخل فى جمعية أو مؤسسة ما. وكلهم يريدون الخير لهذه المؤسَّسة. ولكنهم يختلفون فى الوسيلة أحدهم يرى أن الوسيلة هى التعاون الكامل، ولو في ذلك لون من إنكار الذات. ولكن عضواً آخر يرى أن وسيلته هى السيطرة وتدبير الأمور حسب حكمته هو.
كل واحد له طريقته. ولكن يحدث الإختلاف حينما يرى البعض أن وسيلته هى الطريق الوحيد السليم. وينتقد غيره من الوسائل أو يحاول تحطيمه.
يُمكن أن يوجد تنسيق وتكامل وتعاون بين الطُّرُق المتنوعة المُتعدِّدة الواصلة إلى غرض واحد. ولكن يحدث التصارع بين الوسائل المتناقدة.
نطرق موضوع معاملة المخطئين: كلنا نكره الخطأ، ونأخذ من أصحابه موقفاً معارضاً. هذا غرض واحد ولكن الوسائل تختلف: البعض يبعد عن المخطئين، ينعزل عنهم ولا يختلط بهم. والبعض يأخذ منهم موقف المقاومة، ويرد لهم بالمثل، ويحاسبهم على كل خطأ، ولا يترك الأخطاء تمر بسهولة أو بدون مؤاخذة. والبعض يحاول أن يصلح هؤلاء ويكسبهم، رُبَّما بالحُب والصبر،
ورُبَّما بالمواجهة والاقناع ... والمُهم أن نوصلهم إلى اللَّه وإلى الطريق السليم ونربح نفوسهم.
أحياناً تتحوَّل الوسائل إلى أهداف. فكلنا نرى أن هدفنا الروحى هو الوصول إلى اللَّه. ونرى أن من الوسائل الصلاة والصوم ... الخ، ولنأخذ الصوم مثلاً وكيف يتحوَّل عند البعض إلى هدف فى ذاته، بينما هو وسيلة نوجد بها فى فترة روحية تًساعدنا على الوصول إلى اللَّه. فنمنع أنفسنا عن كل ما نشتهيه لكى نتعوّد السيطرة على الارادة وبهذا يُمكن أن نمنعها عن الخطأ كما منعناها عن الأكل.
هل نحن نحرص فى صومنا أن يوصلنا إلى هذا الهدف الروحى؟! أمْ نحن نصوم لمُجرد الصوم بلا هدف وبلا فائدة وبلا نتيجة!
لذلك كله ينبغي أن يراجع كل إنسان هدفه. ويتحقَّق أن وسيلته توصّله إليه. يتأكد أن الهدف سليم وروحي، وأنه لم ينحرف عنه إلى هدف آخر، وأنه يستخدم الوسيلة السليمة التي تُحقِّق هدفه الروحي ...
الهدف الروحي الوحيد هو الوصول إلى ارضاء اللَّه والوصول إلى ملكوته. وما الصلاة والصوم والقراءة الروحية والتأمل والوحدة سوى وسائل توصِّل إلى هذا الهدف وكذلك الفضائل هى مُجرَّد وسائط توصِّل إلى الهدف الذي هو اللَّه ... ولكن للأسف قد تتحول هذه الوسائط كلها إلى أهداف!!