اللِّقاءُ بدُبَّةٍ فَقَدَت صِغارَها و لا اللِّقاءُ بِجاهِلٍ في غَباوَته (ام 17 /12)
سيرة حياة القديس موسى الحبشي
القديس موسى الحبشي
سيرة حياته
نشأته:
نكاد لا نعرف شيئًا عن ماضيه قبل توبته غير أنه كان أسود اللون، ويبدو أنه كان من قبيلة من قبائل البربر. وكانت حياته شريرة حتى قيل أنه لا توجد رذيلة لم يكملها. أما عن ميلاده فهو ما بين سنة 330 و340 م. ويبدو أنه كان عبدًا لشيخ قبيلة تعبد الشمس، لكن من فرط شروره طرده سيده، فاشتغل بأعمال النهب والسطو والقتل. وكان ذا جسم ضخم جبار يساعده على ذلك، وقيل أنه بسبب هذه المؤهلات صار رئيسًا لعصابة قطاع طرق. وكمثال على قوته البدنية أنه في أحد الأيام عبر النهر وسرق خروفين من راعي غنم وذبحهما وعبر بهما ثانية إلى الشاطئ الآخر للنهر.
إيمانه بالسيد المسيح:
مع كل ما كان يفعله من شرور كان يرفع وجهه ويخاطب الشمس كالإله الحقيقي طالبًا أن يعرِّفه ذاته، فسمع صوتًا يرشده أن يذهب إلى هذه البرية ليلتقي برهبان برية شيهيت وكانت شهرتهم في ذلك الوقت ذائعة جدًا.
ذهب إليها حاملًا سيفه وتقابل مع القديس ايسيذورُس قس القلالي خارجًا من قلايته ليذهب إلى الكنيسة، فارتعب من منظره. فسأله الشيخ: "ماذا تريد يا أخي هنا؟" أجابه موسى: "قد سمعت أنك عبد الله الصالح، ومن أجل هذا هربت وأتيت إليك لكي ما يخلصني الإله الذي خلصك". وكان يطلب منه بإلحاح وخشوع: "أريد أن أكون معك، ولو أني قد صنعت خطايا كثيرة وشرورًا عظيمة".
أخذ يسأله عن حياته، فاعترف له بكل ما صنع من شرور. ولما رأى أنبا ايسيذورُس صراحته أخذ يعلمه ويعظه كثيرًا بكلام الله وكلمه عن الدينونة العتيدة، وتركه لتأملاته.
أخذ موسى يذرف الدموع الغزيرة، إذ كره الشر وعزم على التخلص منه، وكان الندم الحار يجتاح نفسه ويُقلق نومه مثل شبح مخيف. جاء إلى أنبا ايسيذورُس وركع أمامه واعترف بصوتٍ عالٍ بشروره وجرائمه في انسحاق يدعو إلى الشفقة وسط دموع غزيرة، فاصطحبه إلى الأنبا مقاريوس الذي وضعه تحت رعايته وأخذ يعلمه ويرشده برفقٍ، ثم منحه نعمة العماد، وسلمه إلى أنبا ايسيذورُس لكي يعلّمه.
رهبنته:
بعد مدة طلب موسى من الأب ايسيذورُس أن يصير راهبًا، فأخذ ايسيذورُس يشرح له متاعب حياة الرهبنة من جهة تعب البرية ومحاربات الشياطين والاحتياجات الجسدية، وقال له: "الأفضل لك يا ابني أن تذهب إلى أرض مصر لتحيا هناك". وكان هذا على سبيل اختبار موسى، لكن بعد أن رأى ثباته وصدق نيته أرسله ثانية إلى القديس مقاريوس الكبير أب البرية.
اعترف موسى علانية في الكنيسة بجميع خطاياه وقبائحه الماضية. وكان القديس مقاريوس أثناء الاعتراف يرى لوحًا عليه كتابة سوداء، وكلما اعترف موسى بخطية مسحها ملاك حتى إذ انتهى الاعتراف وجد اللوح أبيضًا كله. بعد ذلك وعظه الأنبا مقاريوس، وأعاده إلى القس ايسيذورُس الذي ألبسه إسكيم الرهبنة وأوصاه قائلًا: "اجلس يا ابني في هذه البرية ولا تغادرها، لأنه في اليوم الذي تخرج فيه منها تعود إليك كل الشرور. لذلك أقِم زمانك كله فيها، وأنا أؤمن أن الله سيصنع معك رحمة ونعمة وسيسحق الشيطان تحت قدميك".
جهاده:
سكن في بادئ الأمر مع الإخوة الرهبان، ولكنه بسبب كثرة الزائرين طلب من الأنبا مقاريوس مكانًا منعزلًا، فأرشده إلى قلاية منفردة وعاش فيها مثابرًا على الجهاد الروحي. وكان جهاد موسى عظيمًا كتعويض عما فاته نتيجة خطاياه وشروره الماضية. أخذ الشيطان يذّكره بعاداته المرذولة القديمة، ولكن الأنبا ايسيذورُس كان ينصحه بالثبات خصوصًا وأن تلك العادات كانت قد تأصلت فيه.
وكان يشكو بصفة خاصة من شهوات الجسد، ولكن الأنبا ايسيذورُس كان يوصيه بالثبات، وضرب له في ذلك مثالًا بالكلب الذي يقف أمام الجزار فإن لم يعطِه شيئًا وداوم على ذلك سيتحول عنه إلى آخر. حورب بالزنى بقوة، وكان من فرط الحرب التي تهاجمه لم يطق أن يجلس في قلايته، خرج وأعلن هذا للأب اسيذوروس. فرجاه أن يعود إلى قلايته. فلم يقبل قائلًا: لا أحتمل ذلك يا أبتِ. فأخذه وأصعده إلى السطح وقال له: أنظر إلى المغارب. فرأى حشدًا من الشياطين بلا عدد مضطربًا جدًا يحدث شغبًا استعدادًا للحرب. فقال له ثانية: أنظر إلى المشارق. فتطلع فرأى حشدًا من الملائكة القديسين الممجدين. فقال الأب ايسيذوروس: أنظر، هؤلاء هم الذين يرسلهم الله لمساعدة القديسين. أما الذين في الغرب فهم الذين يحاربونهم. فالذين معنا هم أكثر عددًا. وهكذا شكر موسى الله وتشجّع ورجع عائدًا إلى قلايته.
بناء على نصيحة أب اعترافه كان يحاول موسى أن ينهك جسده القوي بالوقوف في الصلاة والصوم والمطانيات. ومن أجل قمع جسده كان يطوف بالليل بقلالي الرهبان الشيوخ ويأخذ جرارهم ويملأها ماءً. ضجر الشيطان من فرط جهاده، فالتقى به عند البئر في إحدى المرات وضربه ضربًا موجعًا وتركه غير قادرٍ على الحركة، إلى أن جاء بعض الإخوة إلى البئر وحملوه إلى الكنيسة عند الأب ايسيذورُس، وظل في الكنيسة ثلاثة أيام إلى أن استرد قوته على الحركة.
مرة سطا على قلايته أربعة لصوص فربطهم جميعًا وحملهم وأتى بهم إلى الكنيسة. ولما علم هؤلاء اللصوص أنه موسى الذي كان رئيسًا لعصابة لصوص، أرادوا أن يتوبوا ويترهّبوا، فوعظهم بكلام كثير محركًا قلوبهم.
من فرط جهاده تصدت له الشياطين حتى أن مرشده الأنبا ايسيذورُس نصحه بالاعتدال في أعماله النسكية حتى لا يثيروا المتاعب عليه، وطلب إليه أن يسلّم أمره لله وهو وحده يرفع عنه القتال، حتى لا يظن أنه بكثرة أعماله النسكية يقهر الشياطين، ولكن بالتواضع والمسكنة الروحية الله يحارب عنا.
رسامته قسًا:
بسبب جهاده وفضائله أرادوا أن يرسموه قسًا، وعندما أراد البطريرك أن يمتحنه قبل رسامته أمر الكهنة أن يطردوه بمجرد دخوله الهيكل ويقولون له: "أخرج من هنا يا أسود اللون". ولما طردوه أرسل البطريرك وراءه شماسًا فسمعه يقول لنفسه: "لقد فعلوا بك ما تستحقه لأنك لست إنسانًا، وقد تجرأت على مخالطة الناس. فلماذا تجلس معهم؟" وتمت رسامته قسًا بمدينة الإسكندرية بيد البابا ثيؤفيلس البطريرك الـ23. وسُمِع صوتًا يقول "أكسيوس أكسيوس أكسيوس. مستحق مستحق مستحق". وبعد أن ألبسوه التونية البيضاء قالوا له: "ها قد صرت كلك أبيضًا يا موسى" أما هو فأجاب في تواضع وقال: "ليت هذا يكون من الداخل كما من الخارج".
فضائله:
عاش منكرًا لنفسه حتى أن حاكمًا سمع بفضائله فاشتاق أن يراه. وإذ علم موسى بهذه الزيارة هرب، وفي أثناء هروبه تقابل معه الحاكم وسأله عن قلاية الأب موسى فقال له: "وماذا تريد أن تسأله؟ إنه رجل عجوز وغير مستقيم". اضطرب الحاكم وقصد الدير وقال لهم ما حدث، فلما سألوه عن أوصاف ذلك الشخص اتضح أنه هو نفسه الأب موسى وانه قال ذلك إنكارًا لذاته.
نال من الله موهبة عمل المعجزات وصنع العجائب بسبب حبه وتواضعه وجهاده ونسكه الشديد.
ذُكِر عن أحد الرهبان أنه سقط في زلةٍ ما، فانعقد مجمع لمحاكمته، وأرسلوا يدعون الأب موسى. أماّ هو فلم يرد أن يأتي. فأرسل إليه الكاهن رسالة قائلًا: هلمّ يا موسى، الشعب ينتظرك. فلما ألحّوا عليه نهض وأتى يحمل كيسًا مثقوبًا فيه رمل. فلما رآه الإخوة الذين خرجوا للقائه تعجبوا، وقالوا له: ما هذا يا أبانا؟ أجابهم: "أنتم تدعونني لأحكم على أخٍ لي في زلةٍ، وهذه ذنوبي خلفي تجري دون أن أراها ولا أحس بها". فخجلوا منه وعفوا عن الأخ المذنب.
ذات مرة صدرت في الإسقيط وصية بالصوم في ذلك الأسبوع. وحدث أثناء ذلك أن زار بعض الإخوة الأب موسى قادمين من مصر، فأعدّ لهم طعامًا. فلما رأى الإخوة الدخان المتصاعد، قالوا للآباء: "انظروا ها قد أوقف موسى صيامه وأعدّ لنفسه طعامًا". أمّا هم فقالوا لهم: عندما يأتي إلينا سنكلمه. ولما جاء السبت ورأى الآباء عمله الصالح، قالوا له أمام الإخوة: يا أبانا موسى، لقد حللت وصية الناس وحفظت وصية الله (أي ضيافة الغرباء).
استشهاده:
أتي البربر إلى الدير وكان بالروح يعلم بمجيئهم قبل وصولهم. قال ذلك للأخوة وكان عددهم سبعة، وطلب إليهم أن يهربوا. فلما سألوه عن نفسه وقالوا له: "وأنت ألا تهرب يا أبانا؟" قال: "منذ زمن طويل وأنا انتظر هذا اليوم لكي يتم قول السيد المسيح من يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخَذ" (متى 26: 52). قالوا له: "نحن أيضًا لا نهرب ولكن نموت معك"، فقال لهم: "هوذا البربر يقتربون إلى الباب"، فدخل البربر وقتلوهم ولكن واحدًا منهم كان خائفًا فهرب إلى الحصن ورأى سبعة تيجان نازلة من السماء توّجت السبعة، فتقدم هو أيضًا ونال معهم إكليل الشهادة. (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ).
هكذا أكمل الأنبا موسى سعيه وجهاده في اليوم الرابع والعشرين من شهر بؤونة سنة 408 م.، وكان في سن الخامسة والسبعين أو الخامسة والثمانين. ونال ثلاثة أكاليل: الأول للحب والنسك الشديد والثاني للرهبنة والكهنوت والثالث للشهادة.
يعتبر أول شهيد في الإسقيط، وله تعاليم مفيدة للغاية، وجسده محفوظ مع جسد مرشده الروحي الأنبا ايسيذورُس في أنبوبة واحدة بدير البراموس.
من كلماته:
زاره أحد الإخوة في الإسقيط وطلب منه كلمة: فقال له الشيخ: اذهب واجلس في قلايتك، وهي تعلّمك كل شيء.
إن من يهرب من الناس يشبه كرمة حان قطافها. أمّا الذي يقيم بين الناس فيشبه الحصرم.
إذا حفظنا وصايا آبائنا فإني أضمن لكم أن البرابرة لا يأتون إلى هنا. ولكن إذا لم نحفظها، فإن المنطقة هذه ستقفر.
قال الأب بيمن إن أخًا سأل الأب موسى: بأية طريقة يميت الإنسان نفسه عن قريبه؟ قال له الشيخ: إذا لم يضع الإنسان نفسه عقليًا في القبر ثلاثة أيام، لا يمكنه أن يبلغ إلى قامة هذا الكلام.
ينبغي للمرء أن يموت عن قريبه حتى لا يدينه في شيء.
ينبغي للإنسان أن يميت نفسه عن كل أمرٍ شريرٍ قبل خروجه من الجسد لكي لا يسيء إلى أحد.
إذ لم يشعر الإنسان في أعماقه أنه خاطئ، لا يصغي إليه الله. سأله أخ: وما معنى قولك أن يشعر الإنسان في أعماقه أنه خاطئ؟ أجابه الأب إن من يحمل خطاياه لن يرى خطايا قريبه.
إذ لم تتفق الصلاة مع السيرة، عبثًا يكون التعب. قال أخ: وما معنى اتفاق الصلاة مع السيرة يا أبتِ؟ أجاب الأب: أقصد أن نعمل ما نصلىّ من أجله، إذ عندما يتخلى الإنسان عن مشيئته يتصالح مع الله، ويقبل الله صلاته.
سأله أخ: في كل مسعى للإنسان، ما الذي يساعده فيه؟ قال الشيخ: الله هو الذي يعين، لأنه مكتوب: "الله لنا ملاذ وقوة، عون لنا في الشدائد التي تكتنفنا" (مزمور45: 2).
قال الأخ: وما نفع الأصوام والأسهار إذًا يا أبتِ؟ أجابه الشيخ: هذه من شأنها أن تجعل النفس وديعة متواضعة، لأنه مكتوب: "أنظر إلى تعبي وتواضعي وامح كل سيئاتي" (مزمور 24: 18). فإذا ما جنت النفس كل هذه الثمار، فإن الله لأجل هذه يتحنن عليها.
وقال الأخ للأب: وماذا يعمل الإنسان بكل تجربة تأتيه أو بكل فكر من الشرير؟ قال الشيخ: ينبغي أن يبكي أمام صلاح الله كي ما يعينه. ويرتاح للحال، إذا ما كانت صلاته بمعرفة، لأنه مكتوب: "الرب معيني فلن أخشى ماذا يصنع بي الإنسان" (مزمور 117: 6).
سأله الأخ إذا ما ضرب إنسان عبده لخطيئة اقترفها ماذا يقول العبد؟ أجابه الشيخ: إذ كان عبدًا صالحًا يقول: ارحمني لأني أخطأت. فقال الأخ: ألا يقول شيئا آخر؟ أجابه الشيخ: لا، لأنه ما أن يجعل اللوم على نفسه ويقول أخطأت حتى يتحنن عليه الرب للحال، ونهاية هذه جميعها أن لا يدين الإنسان قريبه. في الواقع عندما قتلت يد الرب أبكار المصريين لم يعد هناك بيت لا ميت فيه. فقال الأخ: وما معنى هذا أيضا يا أبت؟ أجابه الشيخ: إذا عكفنا عن معاينة خطايانا، لن نرى خطايا القريب، لأنه من الجهل أن يترك الإنسان ميته ويذهب يبكى ميت قريبه. أن تموت عن قريبك يعني أن تحمل خطاياك وأن لا تكترث لأي إنسان، صالحًا كان أم شريرًا. وأن لا تسيء إلى أحد، وأن لا تفكر بإساءة أحد في قلبك، وأن لا تحتقر من أخطأ، وأن لا تطيع من يسيئ إلى قريبه ولا تفرح له. لا تثلب أحدًا، إنما قل إن الله يعرف كل واحدٍ. لا توافق المتكلم بالسوء على قريبه. هذا هو معنى الدينونة. لا يكن لك عداوة مع أحد. لا تحقد في قلبك على أحدٍ. لا تمقت من يعادي قريبه. هذا هو السلام.