وإذا كان رجاؤنا في المسيح مقصورا على هذه الحياة، فنحن أحق جميع الناس بأن يرثى لهم (1كور 15 /19)
217- البابا لاون العاشر 1513 - 1521
لاون العاشر
جان دي مديتشي
1513 - 1521
إن انتخاب لاون العاشر كان طبقاً لما جاء في براءة يوليوس الثاني، أي بدون سمونيا. ولاون هذا هو ثاني أبناء لورنت الحسن، ولد في 11 كانون الأول سنة 1475، وكان عمره لدى انتخابه سبعة وثلاثين عاماً. وقد تعيّن كردينالاً وهو بعمر ثلاثة عشر عاماً: وهذا التعيين هو محض سياسي. كان معلموه: أنج بوليسيان ومارسيل فيسين ثقافته أميرية وذات نزعة إنسانية. إن موت لورنت وسقوط آل مديتشي (1494) قد أجبراه، لمدة من الزمن، على ترك فلورنسا. فسافر إلى ألمانيا وهولانده ففرنسة، فكانت سنوات قاتمة. رجع إلى روما سنة 1500، وأقام في القصر الحالي المعروف بقصر مدام حيث عاش عيشة مريحة. فكما يقال عن طهارة آدابه، يقال أيضاً عنه كرجل كنيسة بكل معنى. فلم يكن سوى هاوٍ غني مثقف ثقافة عالية ذي ذوق مشبوه، محاط، كما سيحاط عندما يصبح بابا، بحاشية من الأدباء والفنانين ومن الطفيليين.
تكلف أن يقود الجيش الباباوي المخصص لتوقيف الفرنسيين سنة 1512، وما جرى هو أنه خسر وأسر في رافينا. كان عليه مواجهة ثلاثة مواضيع هامة في زمن حبريته القصيرة: المشاكل السياسية، والمشاكل الدينية، والحياة الإجتماعية والفنون. ففي السياسة كان لاون العاشر معروفاً بعداوته لفرنسا، ولكن نزعاته العميقة جعلته يتجنب كل انفجارز فمعركة نافار (6 حزيران 1513) كانت اندحاراً ثقيلاً لفرنسا. قام البابا بالمفاوضة فاعترف لويس الثاني عشر بمجمع اللاتران، ثم رضي أن يضع جميع خلافاته مع الإمبراطور ومع أسبانيا ومع انكلترة ومع سويسرا ومع آل سفورزا في ميلانو تحت تحكيم البابا. وقد جرى الصلح الرسمي بين الباباوية وبين المسيحي الصميم في الجلسة الثامنة لمجمع اللاتران (19 كانون الأول سنة 1513).
نالت فلورنسا آل مديتشي قسطاً كبيراً من الحظوة الباباوية، فأصبح جيليو، ابن عم البابا (الذي سوف يكون اكليمنضوس السابع)، رئيساً لأساقفة فلورنسا وكردينالاً، ثم ابن عم آخر للبابا أصبح كردينالاً، هو ليوجي دي روسي، ثم إن جوليان دي ميدتشي، أخا البابا، تزوج من فيليبرت دي سافوا، عمة فرنسوا الأول، ونال لقب دوق نيمور، ونال لورنت دي ميدتشي، والد كاترين، دوقية اورليان، التي نزعوا مليكتها من يد فرنسيسكوا ديلا روفر، الذي كان يحميه يوليوس الثاني؛ ثم أخيراً عيّن لاون العاشر، ابن عمه اينوشنسيوس سيبو (حفيد اينوشنسيوس الثامن) كردينالاً وهو من أضعف الشخصيات.
إن اشتداد تهديدات أسبانيا في إيطاليا ورجحان مشروع زواج لويس الثاني عشر من أميرة أسبانية دفعت بالبابا إلى جعل فرنسا تتقرب من انكلترة فنجحت سياسته، التي لم تتعب، بتزويج لويس الثاني عشر من ماري تيدور، أخت هنري الثامن (1514)، ورغم ذلك مازالت عين فرنسا تتطلع إلى ميلانو، وجعل، فرنسوا الأول، خليفة لويس الثاني عشر. ميلانو تحت السيطرة الفرنسية في معركة مارينيان في 13 و 14 أيلول سنة 1515، وعلى أثر ذلك قرر لاون أن يقاتل الملك في بولونيا في شهر كانون الأول، والصلح الذي عقد في هذه المدينة أعطى ميلانو لفرنسا وخسّر لاون العاشر بارم وبليزانس. وفي سنة 1516 جاء مكسيمليان الأول إلى إيطاليا ليقيم فيها حرباً ضد البندقية وفرنسا، في حين كان لاون العاشر يعمل جاهداً ليمنع هذه الأخيرة من التحالف مع أسبانيا؛ حيث جلس شارلكان على العرش.
اكتشفت، في نيسان سنة 1517، مؤامرة الكردينال الشاب الفونس بتروتشي، الذي كان ينوي أن يدس السم للبابان وقد تورط بهذه الدسيسة عدد من الكرادلة، بينهم: رفائيل رياريو، قريب سيكستوس الرابع وبندينيللو صولي. أما بتروتشي فقد أعدم، وسامح لاون باقي الكرادلة بكل كرم أخلاق؛ في حين كان صولي ورياريو يطمحان إلى التاج المثلث. أثارت هذه المأساة ضجة كبيرة في روما، وخاصة تلك البلاد التي هي بحالة اضطراب في تلك الحقبة، وهي ألمانيا. وبتعيينه في تموز سنة 1517، واحداً وثلاثين كردينالاً ـ لم يعين هكذا عدد من قبل. كان لاون ينقاد أساساً لاعتبارات سياسية، وأيضاً، بأكثر من ذلك، لاعتبارات مالية. وليس بين الذين عيّنهم من هو أهل لهذا إلا قلة، وما هذا التعيين سوى التخلي النهائي عن العدد أربعة وعشرين ولترجيح كفة البابا في مجمع الكرادلة.
تحزّب البابا، إبّان انتخاب الإمبراطور في سنة 1519، ضد شارلكان، لظنه أن وحدة الإمبراطورية تحت سيطرة آل هابسبورغ، كانت تبدو له، بأنها تهدم بضراوة موازنة القوى في أوروبا. أما ما تبقى من حبريته فكانت انهماكاً في صراعات داخلية في إيطاليا ونزاع مع فرنسوا الأول، في حين كان الإمبراطور والبابا يتقاربان. فتألف آنذاك جيش حليف من الألمان والأسبان والسويسريين ومن جيش البابا وأنهى بسرعة السيطرة الفرنسية على لومبارديا، إذ استولى على ميلانو سنة 1521. أما على الصعيد الديني فقد أقرّ انتهاء المجمع اللاتراني (1516) وقد كان راضياً فرحاً لرؤيته فرنسا تقبل بالمجمع وتنهي خطر الانشقاق والادعاءات القائلة بتقدم المجمع على البابا؛ لذلك لم يقم البابا بأية محاولة، تقريباً، لوضع منهج إصلاحي ودعمه. فالمجمع لم يكن في الأصل، سوى تمويه وصرف الأنظار عن كل ما يجري، وأضحى لاون العاشر يتصرف كما لو أصبح بلا هدف. أما معاهدة بولونيا مع فرنسا فتعتبر بنداً سياسياً ودينياً في آنٍ معاً (1516)، فالبابا وافق على أن الملك يعينّ تقريباً على مجموعة الأرباح الكبرى. وتخلى الملك عن الانتفاع بالضريبة التي تدفع للبابا إذ كان يمسك حسابات هذه الضريبة.
نتيجتان استخلصتا هما: قبول الملك بأن البابا، كرأس ورئيس للكنيسة الجامعة، يدبّر شؤون الكنيسة في فرنسا، والبابا يعتبر ملك فرنسا(المسيحي الأصيل) الممثل الشرعي للكنيسة الفرنسية (الغاليكانية). وقد عرفت الأهمية التاريخية لهذا الاتفاق.
رأى لاون العاشر، دون أن يأخذ أي اعتبار لكل ما يجري، اتضاح أول علامات ثورة لوثر (31 تشرين أول 1517 تعليق أول قضايا لوثر في ويتنبرغ، أما البابا فسيمنح هنري الثامن لقب المدافع عن الإيمان لوضعه كتاباً ضد لوثير. أما المظهر الثالث لحبريته فهو رعاية الفنون. فلاون العاشر كابن عائلة مديتشي الصرف، له هوايته وميله للزهو والترف والفخفخة. فيوليوس الثاني قد ترك كنزاً للكنيسة، لكن عند وفاة لاون العاشر كان الصندوق فارغاً. كان الرجل بالفعل متلافا كما وإنه أيضاً كان محباً محسناً على البؤساء، إذ كان ينفق عليهم بسخاء. أمّا الرخاء في قصره فمدهش: كان له ستمئة وثلاثة وثمانون خادماً، ابتداءً من الأساقفة المرشدين إلى حراس الفيلة، إلى الموسيقيين، إلى المهرجين، ومعهم كان لاون يحب أن يفرح ويرتاح. وهذا يتطلب مبلغاً ضخماً وبيته كان يكلفه ضعف بيت سلفه، أي ما يوازي مئة ألف دوكا في السنة، وكذلك عدد الوظائف التي تباع وتشتري قد ارتفعت إلى حوالي ألفين ومائتي وظيفة وأما الغفرانات، فقد أحدثت معاملات وصفقات ضخمة وقد قام ضدها محتجاً الكرادلة ذوي الضمائر الحية، فيما اريوست كان ينظم فيها أهاجيه، كان لاون غالباً ما يشارك لمدة أسابيع في الصيد يتبعه مائتا خيال بينهم كرادلة وندماء ومهرجون. والبابا الذي كان عازفاً ومؤلفاً موسيقياً، كان يرعى جمعية موسيقية لامعة، والفضل، في انضمام عدد من الموسيقيين إلى الرتب الاكليريكية العليا ويقبضون رواتب ضخمة، يعود إليه، وكان يجهد لاقتناء الآلات الثمينة. ومن مؤلفاته الموسيقية فنشر أروع القداسات الموسيقية في عصره. كان يطلب أن تمثّل الروايات الهزلية لديه باستمرار، وقد كان الفاتيكان لا يعرف الهدوء. وفي سنة 1514 أمر بتمثيل رواية كالندريا، وهي رواية هزلية هجائية، للكردينال بيبيانا، الروحاني والمشكك، وفي سنة 1519 تمثلت رواية "الافتراض" تأليف اريوست، وقام بتزيين المسرح بلتازار ورفائيل. وفي سنة 1520 يظهر أن رواية ماندراغور ميكيافيلي مثّلت أمام لاون العاشر. وفي مرفع سنة 1521، في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة تعاني من الاضطرابات الداخلية مما يهدد بالانشقاق العام والتفكك، كان السلطان سليمان على قيد خطوات للاستيلاء على بلغراد، كل هذا لم يهتم به لاون العاشر، بل كان يرى، من الأفضل، حضور رواية راقصة موضوعها: "فينوس الحب" جمع غفير من رجال الأدب ومن المرتزقة المراهنين ومن ذوي اللسان الذلق كانوا يزدحمون على المائدة الباباوية ويتقاضون من لاون العاشر رواتب سخية وأعطية وافرة على مؤلفاتهم التي سرعان ما تموت؛ فقد أصبحوا من النبلاء، ونالوا ألقاب شرف. ولهم الكلمة النافذة ووظائف ومداخيل. لكن قد برز من هذا الجمع أناس ذوو أدب وعلم فعلاً وذوو شهرة، منهم الكرادلة والعلماء في اللاتينية: بيترو بمبو وجاكوبو سانّازار، وهذا الأخير كان قد شهر، في شعر له، اكتشاف اللاكون الموجود الآن في الفاتيكان. وكذلك كان المؤرخون الكبار الوطنيون، فرنسوا غيشاردان ونيقولا ميكيافيلي، الذي رفع إلى البابا تقريراً حول إصلاح فلورنسا ـ وبول جوف، كان لهم حظوة كبرى لدى لاون العاشر، وكان هذا يسرّ ويفرح بأنه يحظى باحترام ايراسم الزائد واطرائه المخادع القاسي. وايراسم هذا هو إنساني النزعة، لا بل من كبار هذه النزعة في زمنه، الذي قدّم للبابا نسخة من مؤلفه عن القديس ايرونيموس، ونال بدلها حظوات زائدة وإكرامات. ونرى الناس من مسيحيين وملحدين، رجال محترمين أو رجال لا يصلحون لشيء، يقدمون مؤلفاتهم وأعمالهم إلى لاون العاشر الذي كان يقبل الجميع دون تمييز، يرعى الآداب بحسب الكمية أكثر من النوعية. أما أعظم عبقري ارتبط باسمه فهو رفائيل الذي رسم للبابا صورة فريدة من نوعها. بالرغم من وضوح البشاعة الطبيعية فيها، كما رسم للكردينالين اللذين كان البابا يحميهما. هذه اللوحة في قصر بيتي في فلورنسا. تابع رفائيل أعماله في ستانز حيث رسم لوحة تمثّل لاون الكبير يقابل اتيلا، فلم يعط للبابا تقاطيع يوليوس الثاني بل تقاطيع لاون العاشر، وهو الذي رسمه وجسده على جدرانيات غرفة الحريق، وقد أكمل معظمها تلاميذ رفائيل، وفيما كان تلميذ رفائيل الأكثر حظوة وتقديراً لدى رفائيل، جوليو رومانو يرسم في البهو المسمى باسم قسطنطين، كان المعلم يرسم للمعرض اللوحات للسجاجيد المخصصة لتغطية جدران الكابيلا السكستينية يزيّن الأروقة. هناك برزت رعاية لاون للفن أعظم مما برزت في حقل الأدب.
توفي لاون ـ ربما بمرض الملاريا ـ بعمر ست وأربعين سنة؛ فإذا بشائعة تقول: أنه مات مسموماً. قبره، في كنيسة القديسة مريم مينرفا، بسيط جداً، حتى أنه لا يحمل أيّة كتابة تشير إلى حبريته، أو تذكرها... بعد أن كان، وهو حي، يتقبل المدائح والهدايا الكثيرة!...