ما أَعظَمَ أَعْمالكَ يا رَبّ لقد صَنعتَ جَميعَها بِالحِكمة فاْمتَلأَتِ الأَرضُ مِن خَيراتِكَ (مز 104 /24)
210- البابا بيوس الثاني 1458 - 1464
بيوس الثاني
اينياس سيلفيوس دي بيكولوميني
1458 - 1464
بيوس الثاني هو الإنساني الغيور، الذي ارتقى إلى عرش القديس بطرس، حتى أنه اختار اسمه كبابا من قصيدة فرجيل "بيوس انياس" الذي تفسيرها "الحمل النقي". ولد في كورسينيانو، قرب سيّان، في 18 تشرين الأول سنة 1405، تابع دروسه في سيّان ثم في فلورنسا. عمل أمين سر الكردينال كابرانيكا الذي صحبه إلى مجمع بال، ثم للكردينال البرتي، خلال إقامته في بال. عاش عيشة النزعة الإنسانية ولكن بدون تقشف (إذ ولد له ولدان بطريقة غير شرعية). كان له بعلاقاته الشخصية والدروس التي كان يلقيها في جامعة فيينا تأثير قوي في تطوير النزعة الإنسانية الألمانية، وبدون أي تحقيق دقيق في الحقوق الباباوية. دخل بالتتابع في خدمة فيليكس الخامس، ثم (سنة 1442) في خدمة فريدريك الثالث وأخيراً في خدمة اوجانيوس الرابع.
هكذا كانت حياة اينياس سيلفيوس "العلمانية" ولكن منذ سنة 1445 لوحظ عليه تغيير عمق، فقبل السيامات العليا، ثم سنة 1447 أصبح مطراناً على تريستاو في سنة 1449 مطراناً على سيّان ثم كردينالاً سنة 1456. كان يسيطر على حبريته، كحبرية سلفه، فكرة الصليبية، ولكنه كان أقل نجاحاً من كاليستوس الثالث؛ مع أنه نجح في إتمام الصلح مع نابولي، حيث أقرّ لفردينان الأول، الابن الغير شرعي لألفونس الأول، كخليفة لوالده وخطب ابنة، غير شرعية للملك، لابن أخيه أنطوان بيكولوميني. وفي سنة 1459 دعا إلى مؤتمر للأمراء في مانتو، لتهيئة وتجهيز صليبية. لم يهتم الأمراء للأمر كثيراً، بيد أن البابا قد انتظر وحده المؤتمرين مدة أربعة أشهر وبالرغم من فشل المؤتمر التام، تابع جهوده، فيما كانت الثورة في ألمانيا وفي فرنسا ضد السلطة الباباوية كما كانت القلاقل في بوهيميا تضاعف قلقه، وأمام جمود الأمراء وتقدّم الأتراك المستمر، قرّر، مع أنه كان مريضاً، أن يقوم على رأس جيش صليبي، مع أنه الرجل الأقل خبرة في الحرب من غيره في عصره لصد الأتراك. معظم الكرادلة وافقوا على ذلك، وكان أشدهم حماساً كارجافال الكهل، أحد منتصري بلغراد؛ لكنّ هذا المشروع كان محكوماً عليه بالسقوط قبل البدء به. البندقية وحدها اهتمت مباشرة للأمر، ومن وجهة نظر السياسة، ووعدت بمساعدة الجيش الباباوي الضعيف. سار بيوس الثاني، الذي كان مريضاً مرضاً خطيراً، حتى أنه لا يقدر تقريباً أن يتحرّك، في حزيران سنة 1464 إلى أنكون حيث كان من المفروض أن يبان أسطوله وأسطول البندقية ولكن لم يكن شيء تقريباً، معداً. وفي 2 آب أنبأوه باقتراب مراكب البندقية وعلى رأسها القاضي الأول. كان بيوس الثاني يحتضر فجيء به قرب النافذة فقال: "حتى هذا اليوم كانت المراكب تنقصني، والتي تسمح بسيري، أما الآن فأنا الذي يلتزم أن يغيب عن الأسطول" وبهذه الكلمات ودّع البابا مشروعه الصليبي، والذي بقي ثابتاً عليه حتى آخر نسمة من حياته. قبره اليوم في روما، في كنيسة سانت اندريا ديلاّفال، وفي 11 آب، كان قد توفي، أيضاً، الصديق الحميم لبيوس الثاني، الكردينال العظيم نيقولا دي كوز، الذي هو أيضاً لم يتمكن من القيام بمشروع عظيم لإصلاح المجلس الباباوي. هناك بعض قضايا إدارية قد تقررت مع ذلك. قد استعمل بيّوس الثاني كل ما لديه من وسائل ممكنة لمحاربة النخاسة واضطهاد اليهود. وقاوم سلطة المجامع على البابا وفكرة الملكية في الباباوية، وتراجع بكل إخلاص عن كل أخطائه إبّان مجمع بال. طوّب في 29 حزيران سنة 1461 كاترين السيانية ووضع لها خدمة وأناشيد على شرفها خاصة بها، وفي السنة ذاتها قام بالمبادرة الغريبة ليرد محمد الثاني إلى المسيحية، فأرسل له رسالة دفاعية مفصّلة والتي فيها استعمل نقد القرآن الذي وضعه نقولا دي كوز. مما يؤخذ به بيوس الثاني توظيفه لأقاربه: فالأقارب هؤلاء، هم، على الأعم الأغلب، بعيدون، والذين قد عيّنهم قلّما تحدث أحد عنهم؛ ما عدا اثنان هما: الكردينالان: فورتغيري وتودشيني بيكالوميني (الذي سيصبح بيوس الثالث). وبيوس الثالث هذا سيوصي بانتوريشيو بعمل سلسلة الجدرانيات لمكتبة كاتدرائية سيّان التي تمثل مشاهد من حياة بيوس الثاني (1502 ـ 1508).
لقد أظهر بيوس الثاني أحد أعظم الباباوات فحسب بل كان أيضاً من الشخصيات الأكثر جاذبية في عصره. قلة من الباباوات الذين نقدر أن نجد لهم وصفاً ونأخذ عنهم صورة كاملة ودقيقة انطلاقاً من أعمالهم الخاصة. ظهرت كتاباته في عدد كبير من الطبعات حتى القرن العشرين، فهو كذلك كاتب ينبض بالحياة ومندفع، منتمي إلى الأدب العالمي. هو البابا الوحيد الذي ترك مذكرات، وهذه المذكرات المشهورة صدرت على شكل جريدة ودعاها: "تعليقات" تتضمن وصفاً لسير حياتية مُعبّرة، وأوصافاً أخرى تتغلغل في العمق ـ حتى ذكر سباق الزوارق ـ وعدداً من مواضيع شيّقة عن الطبيعة. بيوس الثاني يشعر ويحس الطبيعة كرومنطيقي صرف. حتى لكأنه انطباعي متأثر بذلك؛ إنما هو شاعر ورسّام. كانت أحسن أمنياته وموضع سروره الرحلات والأسفار أو إلى جلسة تحت الأشجار القديمة، كان يقول عن ذاته بأنه "هاوٍ للغابات" وبصفته كشاعر ومؤرخ وذي روح نقّادة كان يعتنق كل الثقافة الإنسانية في زمنه، وكان يتطلب المزيد من ذوي النزعة الإنسانية أكثر من نقولا الخامس، الذي لم يكتب شيئاً. بيوس الثاني هو المؤسس لجامعات بال ونانت واينغولشتادت؛ أما مؤلفه الذي يبحث في الكون فيجب أن يكون وصفاً جغرافياً وعرقياً للعالم المعروف في تلك الحقبة، فلم يكمل من هذا المؤلف سوى مقاطع من قسم أوروبا، ومؤلفه هذا قد أوصى كريستوف كولومب بطريقة مقنعة جازمة. بيوس الثاني كان بسيطاً ومتواضعاً في كل تصرّفاته كما أنه جذّاب بصلاحه ولا يمل في عمله. قال مرة: " ألا تعلم بصفتي بابا أني لا أعيش لذاتي بل للآخرين؟" كان يعطي بلا تأخير، ولم يكن معه أموال تحت تصرفه الخاص.