من كان عنده قميصان فليقسمهما بينه وبين من لا قميص له و من كان عنده طعام فليعمل كذلك (لو 3 /11)
157- البابا غريغوريوس السابع (قديس) 1073 - 1085
القديس غريغوريوس السابع
هيلدبراند دي سوانا
1073 - 1085
تبيّن، لأول مرة في التاريخ، أن غريغوريوس السابع هو رفيق للبابا غريغوريوس السادس المنفي إلى كولونيا. إن أصل عائلة غريغوريوس غامض. قيل أنه كان راهباً في دير كلوني بدون أي إثبات لذلك. أما الشيء الثابت والأكيد بالمقابل، وهو المهم، بأنه كان، منذ عهد لاون التاسع، المستشار الودود للباباوات الإصلاحيين. عند وفاة اسكندر الثاني كان الإجماع على اسمه وكان هذا الإجماع من القوة بحيث لم يستطع هيلدبراند أن ينكره. أما عهد باباويته فسيكون بمجمله مجرد عهد كفاح في سبيل إصلاح الكنيسة. ولقد سلكت الباباوية طريق هذا العمل الإصلاحي بوضوح وفعالية لا مثيل لها. حدّد غريغوريوس السابع شروط هذا العمل الإصلاحي بمراسيم جازمة، ثم تابع تطبيقه في الغرب كله بواسطة رسلٍ غير اعتياديين وقد منحهم الصلاحيات من ضمنها صلاحية عزل وحرم الأساقفة المتمردين؛ كان البابا يشعر بالاغتباط كلما أبدى الملوك رغبتهم في التعاون؛ أما في حال حدوث العكس فكان يلجأ إلى الكفاح. وممّا هو معروف عنه أنه لم يكن متساهلاً: عندما كان الأمراء يشترون الرتب الكنسية ويستغلونها لإقامة إقطاعات علمانية (سيمونية وتقليد العلمانيين درجة اكليريكية)، كانت الكنيسة تجد نفسها مهددة لفترة قصيرة بالعلمانية وانعدام كل قيمة روحية وكل رسالة إنجيلية. إن عمل البابا كان يهدف بمجمله إلى تحرير وإصلاح الكنيسة؛ وتبريراً لهذا العمل، كان غريغوريوس يستند إلى الرسالة الإلهية الموكولة إلى البابا، خليفة بطرس ورئيس الكنيسة والمسؤول عن كل الأنفس ومن بينها أنفس الأمراء والأساقفة المتمردين. لم يكن له أي مطمع سياسي إطلاقاً. وما صياغة مبادئ التيوقراطية الباباوية، كما ورد في مراسم البابا خاصة في الرسائل إلى هيرمان دوميتز، إن هو إلا تعداد للمبادئ التي ستسمح عملياً للبابا ـ وهو الرئيس الأوحد، لأن الأمراء يتهربون من كل مسؤولية ـ بتحقيق بناء مدينة الله.
إنه خلال السنتين اللتين تلتا انتخابه حاول فيهما غريغوريوس السابع أن يعقد اتفاقاً مع الأمراء: إما تحفّظ وإما ترفض: حتى أن كلوني رفض الالتزام به. رأى البابا ذاته أنه سائر في طريق الخطأ، فقرر أن يتخذ وحده الإجراءات الكفيلة للسلامة العامة والتي لا غنى عنها وذلك بوضع المراسيم المتعلقة بالسيمونية وتسرّي الاكليريكيين، الصادرة منذ سنة 1074، والتي لم تأت بجديد، موضع التنفيذ، وخاصة المرسوم الذي يمنع العلمانيين منعاً قاطعاً من تنصيب أي من الاكليروس بوظيفة ويقضي بحرم الأساقفة الإيطاليين أو الألمان المتمردين وهذا المرسوم صدر سنة 1075.
لقد وقع هنري الرابع بخدعة دبّرها له جماعة من الأساقفة الذين تصوبت إليهم تلك المراسيم الإصلاحية، وأغروا الملك: ماذا يبقى للإمبراطور الملك الذي انتزع منه حق تعيين البابا أو حتى تثبيت انتخابه، أو إذا أسقط حقه في تعيين وتنصيب الأساقفة الذين يسيطر معظمهم على إقطاعات إمبراطورية هامة والذين هم كونتات للمدينة مركز أسقفيتهم؟.
أعلن مجمع ورمس سنة 1076 أن هيلدبراند هو بابا زور، ودعا الإمبراطور الرومان إلى استبداله بآخر. أما الجواب الباباوي على ذلك فكان حرم الملك؛ ومما ساعد في ذلك هو أن القسم الأكبر من الأساقفة الألمان ومن الأسياد العلمانيين ذوي الشأن هو منفصل عن هنري الرابع. دعا البابا إلى عقد مجمع إمبراطوري في اوغسبورغ لتسوية الشؤون الألمانية، وبمعنى أصح هو لانتخاب ملكٍ جديد، فاتجه هو شخصياً إلى ألمانيا. اتخذ عند ذلك هنري الرابع قراراً قد ينقذه وقتياً وهو: الإجتماع بالبابا قبل أن تكون ألمانيا قد انتخبت ملكاً جديداً. تمّ اللقاء كما هو معروف في كانوسّا القلعة العائلية لعظماء (مراكيز) توسكانا. توقف البابا فيها، وقد أمنّت له الحماية الكونتيسة الكبيرة ماتيلده، وأقام فيها هوغ رئيس دير كلوني وعراب الملك هنري الرابع؛ لنضع جميع ما قيل جانباً، ونرى أن الملك قد حضر أمام البابا وهو بثوب التائب (لأنه كان محروماً). فما كان من البابا إلاّ أنه صالح الملك المحروم مع الكنيسة، بناء لرغبة الكونتيسة والآباتي هوغ رئيس دير كلوني، بيد أن المشكلة السياسية بقيت بدون حل، إنما المصالحة المدهشة هذه كانت انتصاراً لهنري الرابع.
لم يكن لمصالحة كانوسّا من معنى إلا إذا احترم هنري الرابع للمراسيم المتعلقة بالسيمونيا وبتقليد العلمانيين درجات اكليريكية، لكنه لم يفعل شيئاً من هذا فحرم مرة ثانية وخلع عن العرش؛ فعينّ الملك الإمبراطور هذه المرة بابا زور، هو غيبير دي رافينا، مستشاره في إيطاليا، والذي اتخذ اسم: "اكليمنضوس الثالث. استطاع هنري الرابع أن يحتل روما هناك توجه البابا الذي عينّه هو إمبراطوراً عليها، فيما كان غريغوريوس السابع ملتجئاً في قلعة سانت انج (الملاك القديس)، ثم حرره النورمنديون أتباع روبير غيسكار، وقد اغتنموا فرصة قيامهم بهذا العمل الصالح لينهبوا المدينة. ثم مات غريغوريوس بعد هذا بسنة واحدة في ساليرنا؛ وكانت كلماته الأخيرة التي قالها: "أحببت العدالة وكرهت الظلم، لذلك أنا أموت في المنفى".
إن العدالة التي ناضل البابا من أجلها هي العدالة بالمعنى الذي يفهمه القديس اغسطينس أي عدالة النظام في العالم كما يريدها الله.
أعلنت قداسة غريغوريوس السابع سنة 1606 وجعل بندكتوس الثالث عشر عيده يشمل الكنيسة الجامعة كلها بالرغم من اعتراض الكنيسة الفرنسية. لم تزل كتاباته الهامة محفوظة بكاملها وهي بمثابة الوثائق الضرورية للتعرف إلى شخصيته.