على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ (مز 91 /12)
يوحنا الذهبي الفم
يوحنا الذهبي الفم
(أنطاكية 354 - 407)
1. حياته
حياة يوحنّا الذي أكسبَته بلاغتُه، منذ القرن الخامس، لقب الذهبّي الفم، تشبه من نواحي كثيرة حياة عظماء الكنيسة الذين لمعوا في القرن الرابع من مثل باسيليوس الكبير، وأمبروسيوس. ولد في أنطاكية من أب ذي وظيفة عالية في الدّولة اسمه سكوندس، توفي بعد ولادة ابنه بزمن قليل، ومن أمّ يونانية اسمها أنتوسة. وكان يوحنا ينمو على طموحٍ في المعرفة والكمال الإنسانيّ وقد تتلمذ هو وثيوذورس المصيصي للخطيب الوثنيّ الشهير ليبانيوس. وبعد معموديته سنة 372 دخل أسكيتوريون ذيوذورس الطّرسوسيّ يدرس فيه الطريقة الأنطاكيّة في التفسير الكتابيّ، ويُعمّق حياته النسكيّة والرّوحية، ويُرسَم شماساً رسائليّاً سنة 375.
مارس في بيته الأبويّ تقشفّاً قاسياً، وراضَ نفسه على تطلّب الكمال، ثم أنضوى إلى أحد النُّساك ولزمه أربع سنوات في ضواحي أنطاكية، ثم انعزل مدّة سنتين في أحد الجبال ناسكاً متوحِّداً مُكبّاً على العبادة والتأمّل، ولكن هذه العزلة أضنت صحّته، فعاد إلى أنطاكية لمواصلة الحياة الكنسيّة، وفي سنة 381 رسمه المطران ملاتيوس شمّاساً إنجيليّاً.
في هذه المرحلة، وبداعي العمل والمسؤوليّة وضع يوحنّا أبحاثه في الحياة النسكيّة، والرّهبانية، وفي البتولية، والزّواج، والترمّل، وتربية الأحداث؛ وهكذا كانت جميع أعمال يوحنا من وحي الضرورات الراعويّة العمليّة. لقد أرسى أعلام العمل التي كان من شأنها أن توجِّه حياته كلّها: العمل الخطابيّ اللامع الذي تجلّى في مواعظه، والعمل الروحيّ الذي كان يسعى فيه إلى اتبّاع المسيح قدر المستطاع وإلى أقصى الحدود وفق تعليم الكتاب المقدس، العمل الذي انتهى به إلى الشهادة.
في 28 شباط سنة 386 قام المطران فلابيانس، خليفة ملاتيوس، برسامة يوحنّا كاهناً، بعد خمس سنوات قضاها شمّاساً إنجيليّاً، ومنذ ذلك الحين انحصر همُّه في الوعظ والخدمة الرّعوية، فكان له، في سني كهنوته الاثنتي عشرة بأنطاكية، وسني أسقفيّته الستّ بالقسطنطينية، سبع مئة موعظة؛ وهي تعالج في أكثرها موضعاتٍ كتابية، وقد عالج بعضها، في سلاسل متماسكة، أسفاراً كاملة من الكتاب المقدّس. وهنالك إحدى وعشرون موعظة بليغة جدّاً ألقاها الذهبيّ الفمّ بداعي الفتنة التي شبّت في القسطنطينية سنة 387 احتجاجاً على زيادة الضّرائب، وحُطمّت فيها تماثيل الإمبراطور.
في أيلول سنة 397 توفّي نكتاريوس أسقف القسطنطينية، فتوجّهت أنظار الإمبراطور أركاديوس إلى الذهبيّ الفمّ، بإشارة من وزيره أوتروبيوس. وفي سنة 398 رسمه ثيوفيلس الإسكندري أسقفاً. وكان هذا الاختيار الإمبراطوري السريع ناجحاً جداً من الناحية الراعويّة المحلّية، ولكنّه كان وبالاً من الناحية السياسيّة، ذلك أن يوحنا لم يكن رجل دبلوماسية وملاينة.
لم يُعتّم يوحنّا أن يكتشف جوّ مدينته الأسقفية الذي يختلف اختلافاً شديداً عن جوّ أنطاكية. وكان نُبل خلقه يأبى الممالقة، وتمسُّكه الشديد بالواجب، وروح تجرّده، كل ذلك كان من شأنه أن يُثير استغراب البلاط واستياءه. فجدَّ في إصلاح أبرشيّته وفق تعاليم الإنجيل، وعمل، على ضبط نمط المعيشة في المطرانيّة؛ وعند اقتضاء الحاجة كان يبيع أملاكه وأملاك الكنيسة لمساعدة المعوزين، والمرضى، والمسافرين، وقد عمل، بمساعدة نساء فاضلات من مثيلات الشمّاسة أولمبيا، على تنظيم شمّاسية النساء، وجمعيّات الأرامل؛ وحثّ الإكليرس العلمانيّ على التقيّد بنظام الحياة المثالية، وحاول بسط سلطته الأسقفية على الرّهبان، وأعلن في مواعظه وبصوتٍ عالٍ، مبادئ الحياة المسيحيّة، ولو قاده ذلك إلى انتقاد أعضاء البلاط الإمبراطوريّ أو من يتهاونون في التردّد إلى الكنيسة لحضور ألعاب الميادين البهلوانية الشائعة إذ ذاك، وقد سانده في مواقفه الشعب المسيحي، وجماعة من الإكليرس والرهبان، واتّقدت في صدور غيرهم نيران الحقد، ولا سيّما في صفوف الإكليريكيّين غير المنتظمين، والرّهبان الشّاردين، والمتعبّدات الفاسدات، والأثرياء المُشتبه في ثرواتهم، وسيّدات المجتمع المُستهترات، والأساقفة الغير المقيمين على مسؤوليّتهم والمتهافتين على مقامات التبجيل والتعظيم.
وزادت على يوحنا النقمة والمؤامرة عندما عمل في أحد مجامع أفسس (401)، على عزل ستّة أساقفة سيمونّيين، وبعد إسقاط الوزير أوتروبيوس وموته انتقلت السّلطة إلى الإمبراطورة أوذوكسيّة، وكانت تُضمر ليوحنا كرهاً يزداد يوماً فيوماً؛ وكانت ترى في عظاته المندّدة بالفساد تلميحات وإشارات إلى سلوكها في حياتها الإمبراطورية. أضف إلى ذلك أن يوحنا قَبِل أوتروبيوس في حمى الكنيسة عندما نقم عليه القصر، وأنّه استقبل في الشركة فريق رهبان "الإخوة الطّوال" الأربعة المتّهمين في مصر بتأييد أوريجانس؛ وأنّه بشعبيّته وسيطرته الكنسيّة شكّل خطراً على أوّلية مقام الكرسيّ الإسكندري فأوغر ذلك صدر ثيوفيلس الإسكندري؛ فكان من ذلك كلّه ومن نقمة عدّة أساقفة آخرين، أن دُعي يوحنا في آب 403 إلى المثول أمام 36 أسقفاً في مجمع عُرف بمجمع السنديانة بالقرب من خلقيدونية، فلم يمتثل لما قام عليه ذلك المجمع من التحامل والتآمر؛ فاُسقط وعُزل، وصدر حكم إمبراطوري بنفيه بدعوى أن يوحنّا تطاول على السّلطة الإمبراطورية، ولكنّ ذلك النفي لم يدُم إلاّ يوماً واحداً، ثم أعيد إلى كرسيّه بين هتافات الشعب وزغرداته.
لم تدُم الهدنة طويلاً، فبعد شهرين، اعترض الذهبيّ الفم على المراقص والمشاهد التي رافقت تدشين تمثال الإمبراطورة الذهبيّ في جوار الكاتدرائية، فغاظ ذلك الإمبراطورة، ولا سيما بعد العظة التي ألقاها في ذكرى عيد يوحنا المعمدان. فصدر له الأمر بالتوقّف عن ممارسة أعماله الكنسيّة، ولكن الأسقف لم يكن مستعداً للتوقّف إلاّ بالقوّة، واشتدّت الحال بين المؤيّدين والمندّدين. وفي ليلة الفصح، وقد تأهّب الكهنة الأوفياء لتعميد أكثر من ثلاثة آلاف موعوظ، مُنع الاحتفال بقوة السّلاح، وكاد يوحنّا يُقتل.
وإذ عجز الخصوم عن عقد مجمع لعزله لجأوا إلى القصر فلبّى لجاجتهم وأصدر أمراً جديداً بنفيه، ومنعاً للاضطراب والشّغب سلّم نفسه للجند الذين كانوا على أُهبة التدخّل، وكان ذلك في 9 تموز 404؛ فمضوا به إلى كوكوزة بأرمينية حيث لبث ثلاث سنوات.
وفي ربيع 407 لجّ الحقد في خصومه فنفوه إلى مدينة بيتيوس الواقعة على شاطئ البحر الأسود الشرقيّ، وكانت مسيرة شاقة جدّاً فأنهكه الإرهاق وسوء المعاملة ومات في طريق الجلجلة شهيد الكلمة والحقيقة، في 14 أيلول 407.
2. أعماله
قد خلّف لنا الذهبيّ الفمّ الكثير من المقالات والخطب والمواعظ والرسائل، حتى عُدَّ من أغزر الآباء مادّة وأغناهم إفصاحاً عن شؤون الرعاية، وأوسعهم تناولاً لأمور الاجتماع والسياسة. أجرى قلمه في موضوعات شتّى استمدّها من واقع الحياة اليومية، ولم يغفل النظر في موضوع الملكوت الذي تصبو إليه البشرية المفتداة بدم المسيح. وراح يرسل الحكم الروحية يستقيها من معين الكتاب المقدس، ويُدلي بالآراء اللاهوتية يغترفها من كتابات الآباء الذين سبقوه، ويبثّ خلاصة اختباراته الروحيّة والزهديّة في تضاعيف مواعظه ورسائله ومقالاته، مُدعَّمة بكلمات المخلّص وأقوال الرسول بولس، محكمة الصياغة، مشرقة الديباجة، خالية من النوافل، غنيّة في إيجازها وما يتوارى وراءه من معان. ومن أعماله:
1- الأبحاث
- الحياة الرُّهبانية والكمال المسيحيّ
[الحياة الرهبانية (مقارنة بين الملك والراهب) - في النّدامة - ضدّ مُغْتابي الحياة الرهبانيّة - تحريض ليثودورس - في الكهنوت - إلى أرملة شابّة - في عدم تكرار الزواج - في البتولية - في شأن أخوات المحبّة - في المخالطات الرّهبانية - في المجد الباطل - إلى ستاجيريوس الذي يعذّبه الشيطان - في أنّه ما من أحد يُلحق الأذى إلاّ بنفسه - في عناية الله (أو إلى الذين يتعثّرون بسبب المصائب)].
- المواقف الدّفاعية.
[في شأن القدّيس بابيلاس ضد يوليانس والأمم - ضد اليهود والوثنيّين].
2- العظات
- العظات التفسيريّة
أ) العهد القديم
[في التكوين - في المزامير - في أشعيا - في غموض الأنبياء - في حنّة - في داود وصموئيل].
ب) العهد الجديد
[في إنجيل القديس متّى - في إنجيل القديس يوحنا - في أعمال الرّسل - في الرسالة إلى الرومانييّن - في الرسالتين إلى الكورنثيّين - في الرسالة إلى الغلاطيّين - في الرسالة إلى الأفسسيّين - في الرسالة إلى الفيليبييّن - في الرسالة إلى الكولوسيّين - في الرسالتين إلى التّسّالونيكيّين - في الرسالة إلى تيموثاوس وتيطس وفيلمون - في الرسالة إلى العبرانيّين - العظات العقائدية والطقسيّة والدِّفاعية - عظات في المعموديّة - عظات ضدّ اليهود].
3- الرسائل
4- الليتورجيا
3. وجوه تعليمه
- المسيحانيّة.
- الخطيئة الأصلية.
- الإفخارستيا.
- التوبة.
- مسحة المرضى.
- الرهبانيّة والحياة المسيحيّة.
- الأخلاقيات.
4. خاتمة
يوحنا الذهبيّ الفمّ إمامُ الكلمة، وزعيم الرّأي الحرّ، كان هزيل الجسم، قصير القامة، ولكن الكلمة كانت تَهيجهُ، وتخلق فيه عملاقاً يلين مع الضعف ويحدب عليه، ويستأسد أمام الظلم ويثور في وجهه. عاش فقيراً فأوغر بنموذج حياته صدور المتصدّرين في المجالس، الغارقين في بحبوحة العيش وترف الحياة. ونُفي فكانت رسائله فيضاً من إنسانيّة غمر قلوب محبّيه ومُبغضيه.
ـــــــــ
المرجع:
المطران كيرلّس سليم بسْترس - الأب حنَّا الفاخوري - الأب جوزيف العَبسي البولِسيّ، تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، المكتبة البولسيّة، جونية 2001