و لا تدعوا أحدا أبا لكم في الأرض، لأن لكم أبا واحدا هو الآب السماوي ( مت 23 /9)
أحد شفاء الاعمى - المطران بشارة الراعي
شفاء الاعمى
2 كورنتس 10/1-7
مرقس 10/46-52
الرؤية الجديدة
نبدأ الاسبوع السادس من الصوم الكبير، وهو الاخير قبل عيد الشعانين، وفيه تذكار آية شفاء الاعمى، رمز التغيير في الرؤية. انه يوم الرؤية الجديدة. الاعمى يعلن ان يسوع هو ابن داود الذي يرحم ويخلص. والشعب في اورشليم يهتف: " هوشعنا، يا رب خلّص. مبارك الآتي باسم الرب".
رسالة القديس بولس الرسول لهذا الاحد تدعونا الى تصحيح الافكار الخاطئة بنور المسيح، وبالتالي الى رؤية جديدة. وانجيل شفاء الاعمى يعلن ان يسوع وحده يُعطينا هذه الرؤية الجديدة، لكونه نور العالم.
اولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والانجيل
1. رسالة القديس بولس الثانية الى اهل كورنتس/10/1-7
أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ الـمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا الـمُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والـجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا. وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين. أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الـجَسَد، ولـكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛ لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلى هَدْمِ الـحُصُونِ الـمَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الـخَاطِئَة، وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ الله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ الـمَسِيح. ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم. أِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى الـمَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذـلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.
يشدد القديس بولس الرسول على فكرة اساسية هي: " هدم الافكار الخاطئة باخضاع العقل الى طاعة المسيح" (الآيتان 5 و6). هذه هي الغاية من مسيرة الصوم التي قامت على تحرير الذات مما هو عتيق في القول والمسلك والموقف. كانت الاصوام والاماتات تهدف الى السمو على الغرائز والشهوات، "فلا نكون جسديين"، كما يقول بولس الرسول. انه يميّز بين " العيش في الجسد" والتصرف " كأناس جسديين". اننا نعيش في الجسد كبشر ولدنا فيه، وله قيمته ودوره في مسيرتنا التاريخية، لكننا لا نتصرف حسب رغبات الجسد التي تتنافى ومقتضيات الروح المعطاة لنا من الله، وبها خلقنا على صورته ومثاله.
ان النفس البشرية مزيّنة بالعقل والارادة الحرّة، ما يجعل الشخص البشري مشدوداً الى الله منذ الحبل به، ومعَّداً للسعادة الابدية. من اجل هذه الغاية، عليه ان يتبع الشريعة الاخلاقية التي تحثّه على " فعل ما هو خير، وتجنّب ما هو شرّ". وهي شريعة يسمعها في عمق ضميره، ويعيشها بمحبته لله ولكل انسان[1]. وهكذا " يعيش في الجسد" لكنه "يسلك ويتصرف وفق مقتضيات الروح". وبكلمة " نحيا بالجسد، ولسنا جسديين" ( 2كور 9/3).
وكانت في مسيرة الصوم اعمال محبة ومصالحات ورحمة. هذه جعلتنا محررين من العيش بحسب الجسد، اذ اخرجتنا من الانانية والانطواء على الذات، وفتحت لنا القلب واليد على حاجات الاخوة الضعفاء، الفقير والمحتاج، الحزين والمهمّش والمجروح في كرامته والاسير في حقده وبغضه.
وكانت ايام صلاة وتوبة، استغفار وغفران، حملتنا على تصحيح العلاقة مع الله والناس، بالتحرر من حالات الخطيئة والشر.
من اجل ذلك انتصرنا على الشرير الذي حملنا على الافراط في الحرية، والسقوط في تجاريبه، وعمل الشر امام الله، بقوة نعمة المسيح الذي حررنا بموته وقيامته من الشيطان والخطيئة، واستحق لنا الحياة الجديدة بالروح القدس. فنعمته ترمم فينا ما شوّهته الخطيئة[2]. هذا ما عناه بولس الرسول بقوله: " نهدم الافكار الخاطئة، وكل شموخ يرتفع ضد معرفة الله، ونأسر كل فكر لطاعة المسيح" (2كور9/5-6).
هذه هي " الرؤية الجديدة" التي نسعى اليها في مسيرة الصوم الكبير.
2. أعمى اريحا والرؤية الجديدة ( مرقس10/46-52).
بين الجمع الكثير الذي كان يتبع يسوع، وهو خارج من اريحا، متجهاً الى اورشليم، واحد رآه على حقيقته هو الاعمى طيما بن طيما. كلهم عرفوه بعيونهم انه يسوع الناصري، اما هو فعرفه بقلبه انه ابن داود. ولما سأله يسوع: " ماذا تريد ان اصنع لك "، اجابه بما أملى عليه ايمانه من فهم: " رابوني، أي يا معلم، ان أبصر".
الرؤية الجديدة هي رؤية القلب أي رؤية الايمان المقرونة برؤية العقل. هذه هي هبة الفهم، احدى مواهب الروح القدس. ليست الرؤية الحقيقية رؤية العين بل البصيرة الداخلية، بصيرة القلب والعقل: " اؤمن لأفهم "، حسب مقولة القديس انسلموس. وجّه السيد المسيح ملامة اشعيا الى الذين "ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون" (متى13/13): "سمعاً تسمعون ولا تفهمون. ونظراً تنظرون ولا تدركون. لأن قلب هذا الشعب بات غليظاً . فثقّلوا آذانهم، واغمضوا عيونهم ، لئلا يبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرتدوا فأشفيهم" (اشعيا6/9).
هذا ما حصل مع الجمع الذي سمع صرخة الاعمى: " يا ابن داود ارحمني" لكنهم لم يفهموا، بل " انتهروه ليسكت". كانت صرخته بمثابة نداء لهم من فوق، فلم يدركوه. كانت مجرد صرخة سمعتها اذانهم، لا قلوبهم وعقولهم. هؤلاء لم يرتدوا الى يسوع ليشفيهم من عمى قلوبهم وعقولهم، كما فعل الاعمى ليشفى من عمى عيونه، بعد ان شفي بالايمان بيسوع من عمى البصيرة الداخلية. آية شفائه علمتهم انهم هم العميان حقاً وان الاعمى هو المبصر حقاً. والتفت يسوع الى تلاميذه، أي المؤمنين به، وقال: "اما انتم، فطوبى لعيونكم التي ترى ولآذانكم التي تسمع" (متى13/16).
العمى الحقيقي هو عمى الروح، منه يريد السيد المسيح ان يشفينا، والبرهان انه قادر على ذلك هو آية شفاء الاعمى: بما انه يستطيع ان يعطي نوراً للعيون المنطفئة، يستطيع ايضاً ان ينير القلوب والعقول والضمائر المظلمة. كلنا عرضة لهذا العمى. الصوم والسنة اليوبيلية البولسية هما زمن الشفاء من عمى الروح. الى المسيح "النور الحق الذي ينير كل انسان" (يو1/9)، نرفع صلاتنا: " أضىء علينا بنور وجهك، يا رب " ( مز4/7)، "فبنورك نرى النور يا يسوع النور"، وهكذا نصير، كما يقول بولس الرسول، "نوراً في الرب" و " ابناء النور" (افسس5/8)، وبالتالي ، يقول بطرس الرسول: " تصير نفوسكم مقدسة بالطاعة للحق، وتحبون بعضكم بعضاً حباً اخوياً بلا رياء" 1( بطرس1/22). هذا ما تضمّنه قول يسوع للاعمى: "اذهب، ايمانك خلّصك ".
الرب معنا في سرّ القربان، لينير طريقنا بشخصه وكلامه ونعمته ومحبته، فنشهد له الشهادة الصحيحة في اقوالنا وافعالنا ومواقفنا. الرؤية الجديدة هي ان نرتفع بالايمان من المنظور والمسموع والمحسوس الى الحقيقة الموحاة، الى سرّ المسيح. هذا ما فعله اعمى اريحا، وما غفل عنه الجمع المرافق ليسوع. في الواقع، الايمان لا يستند الى الحواس، فمن يؤمن هو يؤمن بما لا يرى، كما يقول بولس الرسول: " الايمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه" (عبرانيين 11/1).
" وللوقت أبصر" ( مز10/52)
أبصر الاعمى بعينيه بعد ان كان مبصراً بايمانه وعقله: آمن ففهم. كانت لديه المعرفة بالايمان والمعرفة بالعقل. " يسوع الناصري" ليس عنده يسوع ابن يوسف النجار فقط بل هو " ابن داود" أي المسيح المنتظر الذي كتب عنه الانبياء. كتب البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة " الايمان والعقل"[3] في سياق شرحه لكلمة القديس انسلموس "اؤمن لأفهم": " لا يمكن الفصل بين العقل والايمان، بدون ان يفقد الانسان قدرته على ان يعرف ذاته، ويعرف الله والعالم معرفة وافية. ان معرفة احوال العالم واحداث التاريخ معرفة راسخة لا تتم الاّ اذا رافقها اعلان ايماننا بالله الذي يعمل فيها. فالايمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل ان يكتشف، في سياق هذه الاحداث، ملامح العناية الالهية وحضورها الفاعل" ( عدد16).
وانطلق معه في الطريق ( مر10/52)
بسبب معرفته ليسوع بالايمان، بدأ الاعمى مسلكاً خلقياً جديداً. وجد عند يسوع الجواب على الخير والشر، ولا شك في انه طرح ذاك السؤال الاساسي في حياة كل انسان، الذي وجهه الشاب الغني الى المسيح: " ايها المعلم الصالح ماذا اصنع من الصلاح لتكون لي الحياة الابدية " (متى19/16).
كل لقاء مع الرب يسوع يعطي الجواب الوحيد على هذا السؤال الذي يملأ رغبات قلب الانسان. ولذلك " اقام الله كنيسته لكي يتمكن البشر من تحقيق مثل هذا اللقاء بالمسيح، لانها هي تسعى الى هذا فقط: ان يجد كلُ انسان المسيحَ، لكي يكمل المسيح مسيرة الحياة معه"[4].
***
ثانياً، الوثيقة التعليمية: كرامة الشخص[5]
ضخ مني الرجل في البويضة (الفقرة 17).
هو معضلة ثالثة من تقنيات الاخصاب الاصطناعي، قوامها ضخ مني الرجل المصنّف سابقاً في البويضة. وقد اصبحت التقنية الاكثر استعمالاً وأهمية بسبب فعاليتها الاكبر، ولانها تساعد على تخطّي انواع مختلفة من عقم الرجال. معلوم ان هذه التقنية تتسبب بمخاطر على صحة الولد الذي حُبل به، وهي قيد الدرس حالياً لدى الاخصّائيين.
هذه التقنية غير جائزة من طبعها، مثل الاخصاب في الانبوب، وهي وجهه الآخر، لانها تفصل بالكلية الانجاب عن الفعل الزوجي. في الواقع انها تجري خارج جسم الزوجين بافعال اشخاص آخرين، يقرّر نشاطهم التقني بنجاح العملة: فهي تضع حياة الجنين وهويته تحت سلطان الاطباء وعلماء الحياة، وتستعيد تسلّط التقنيات على اصل الشخص البشري ومصيره. وهذا منافٍ للكرامة والمساواة اللتين ينبغي ان تكونا مشتركتين بين الاهل والاولاد.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريكي الماروني
تعرض الخطة الراعوية من النص المجمعي 14: التعليم المسيحي، ما يختص باماكن التعليم المسيحي للاولاد وتنشئة الراشدين (الفقرات 19-27)، على مستويين: نقل الارشاد الايماني والمحافظة على اصالته السليمة. هذه الاماكن هي ثمانية.
1. العائلة
هي المكان الاول والاساسي الذي يهيّء الارض الخصبة للتعليم المسيحي ولتثقيف الايمان، بجوّ من الصلاة في البيت والسلوك المستقيم وشهادة الحياة. والدور يعود الى كل من الوالدين والاجداد والاخوة والعرّابين (فقرة 20).
2. الرعية
هي الخلية الثانية الاساسية لنقل مضمون الايمان. يتاح فيها التعليم والتنشئة وفقاً للفئات المتواجدة فيها ولخصوصياتها: الاطفال، الفتيان، الشبيبة، المعاقين، المسنين، الخاطبين، الاخويات وسائر المنظمات الرسولية، المجالس الرعائية ولجان الاوقاف وسواها. فضلاً عن الدور الكبير في التعليم والتنشئة الذي تقدمه الاحتفالات والرتب الليتورجية (فقرة 21).
3. المدرسة وسائر المؤسسات التربوية
انها تشكل مكاناً مميّزاً حيث تُعطى الاجيال الطالعة مع العلم والمعرفة، التراث الروحي والاجتماعي، وتتربى على الصلاح والحق، وتنمو بالحكمة والنعمة، وتبني مدينة الارض على قيم الملكوت الروحية والمسيحية.
ولا بدّ من ذكر الدور الكبير الذي تقوم به معاهد التثقيف الديني للكبار في مختلف الابرشيات والرهبانيات ( فقرة 23).
4. الاديار وامكنة الحج والمزارات الوطنية
تشكل واحات روحية لتثقيف الايمان وممارسته وللخلوات الروحية، التي يستفيد منها كل فئات شعب الله.
5. وسائل الاعلام
نذكر بنوع خاص تليلوميار ونور سات واذاعة صوت المحبة التي تشكل مدرسة ايمان وصلاة، وتنقل غنى تراثنا الروحي والكنسي والليتورجي. ولا بدّ من الاشارة الى البرامج الدينية في الاذاعات والتلفزيونات المدنية ( فقرة 25).
6. المستشفيات
هي المكان المهمّ لتثقيف المرضى واهلهم عن مفهوم الألم واهمية الايمان بالله، طبيب الارواح والاجساد، ولتعليم اخلاقيات الطب والحياة للاطباء والجسم التمريضي، ولحماية الحياة البشرية، والدخول في عمق سرّ الوجود النابع من الله (الفقرة 26).
7. السجون
هي المكان الامثل للحضور المسيحي والانساني، وللوقوف امام الذات بحضور الله وعدله وعنايته. ان العمل الروحي والتثقيفي الايماني للمساجين كفيل بتغيير مجرى حياتهم ( فقرة 26).
8. المؤسسات المدنية على تنوعها
تشكل فسحات مهمة للغاية حيث يستطيع المسيحيون ان يشهدوا للمسيح في كيفية تعاطيهم الوظيفية بروح الخدمة المتجردة والسخية، وان يكونوا في هذه المؤسسات بمثابة الملح في الطعام والخميرة في العجين ( الفقرة 27).
***
الصلاة
ايها الرب يسوع، انت النور الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم، انرنا بنور شخصك وكلامك وآياتك، لنحظى بالرؤية الجديدة. اقبل صومنا وصلاتنا واعمال محبتنا، وأهلنا بها لنهدم كل الافكار الخاطئة ونعيش في طاعة الانجيل، بعقل واعٍ وارادة حرّة. ألهم رجال العلم واهل الطب على احترام الجنين البشري المولود من هبة الزوجين المتبادلة في سرّ اتحادهما العميق روحاً وجسداً. ولتكن تقنيات الطب في خدمة الحياة البشرية وحمايتها والمحافظة عليها ونموها. وليبق تعليم الانجيل والكنيسة مزدهراً في العائلة والمدرسة والرعية ووسائل الاعلام، لكي يصل النور الالهي الى جميع الناس ويهتدوا به نحو كل حق وخير وجمال. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.
***