أعَظِّمُكَ يا رَبُّ لِأَنَّكَ اْنتشَلتَني و لم تُشمِتْ بي أَعْدائي ( مز 30 /2)
إغناطيوس الإنطاكي
اغناطيوس الإنطاكي
من آباء الكنيسة الشرقية، ثاني أساقفة كرسي أنطاكية وإحدى أهم الشخصيات في تاريخ الكنيسة على الإطلاق. عاش في نهاية القرن الأول وبداية الثاني، وفي حوالي عام 110 م في عهد الامبراطور ترايانوس، حُكِمَ عليه بالموت ملقىً كفريسة للوحوش، فأُسِرَ وقيد من سوريا إلى روما حيث استشهد.
من أقواله: "أفضل ما يمكن أن تقدموه لي، هو أن تتركوني أُقّدَّم ضحية على مذبح الرب [...] لأنه ارتضى أن يجد أسقف سوريا أهلاً، فأتى به من الشرق إلى الغرب. خير لي أن أغيب عن هذه الحياة لأستقبل شروق حياةٍ جديدة مع الله".
خلال رحلته من أنطاكية السورية إلى روما حرَّرَ سبع رسائل وهي الكتابات الوحيدة التي وصلتنا منه. وهي موجهة إلى كنائس أفسس، ماغنيزيا، ترالّي، فيلادلفيا وإزمير وروما بالإضافة إلى رسالة موجهة إلى بوليكاربوس أسقف إزمير.
في إزمير، المدينة التي أرسلت موفدين ليسلّموا عليه خلال مروره منها، دوّن رسائله لأفسس وماغنيزيا وترالّي. فيها كتب ليشكر الكنائس لأجل مظاهر الود التي أحاطوه بها خلال سفره، و ليحثّهم على الطاعة لرؤسائهم الكنسيين وليحذرهم من التعاليم المضللة. من هناك أيضاً أرسل أهم رسائله أي تلك الموجهة إلى كنيسة روما، المدينة التي كان متجهاً نحوها، حيث كان يرجو المؤمنين ألا يقوموا بأي تدبير يمنع عنه نعمة الشهادة التي كان يصبو إليها بكل رغبته. لأن الموت بالنسبة له لم يكن سوى بداية الحياة الحقيقية: "كم هو مجيد أن يكون المرء شمساً عند الغروب، قرب الله، ليتني اسمو إلى محضره!" (روما 2 / 2).
من طروادة، حيث وصل إليه نبأ انتهاء الإضطهادات في أنطاكية، بعث رسائله لفيلادلفيا وإزمير، كما بعث من هناك أيضاً بالرسالة إلى بوليكاربوس. تشبه هذه الرسائل في مضمونها تلك المُرسلة من إزمير، ففيها يُظهر أغناطيوس دفاعاً قوياً عن وحدة الإيمان ويطلب من المؤمنين أن يشاركوا اخوتهم في أنطاكية فرح السلام الذي كانوا يرجونه وذلك بإرسال وفد إليها. كما كان يحثهم على أن يكونوا في علاقة وثيقة مع أسقفهم. أما الرسالة إلى بوليكاربوس فتتضمن شرحاً عن كيفية ممارسة الخدمة الأسقفية.
تلقي هذه الرسائل ضوءاً على حالة الجماعات المسيحية الأولى. وهي تجعلنا ندخل إلى أعماق الأسقف الشهيد، المملوءة حماساً وحرارة. وعدا ذلك فهي تُعدّ ذات أهمية بالغة في دراسة تاريخ العقيدة.
في القديم شكك البروتستانتيون كثيراً في أصالة هذه الرسائل. فلم يكن معقولاً بالنسبة لهم أن نجد في عهد ترايانوس تنظيماً كنسيّاً تراتبياً دقيقاً كما تصفه رسائل أغناطيوس. لذلك كانوا يعتقدون بأن هذه الرسائل مزيّفة وتهدف للدفاع عن الأسقفية التراتبية. أما اليوم وبعد الأبحاث المعمّقة التي قام بها كل من لايتفوت (Lightfoot)، هارناك (A. v. Harnack)، زاهن (Th. Zahn) و فونك (F. X. Funk)، لم تعد تشكل تلك الإعتراضات أية أهمية، ولذلك فإن أصالة الرسائل مقبولة بشكل عام من الجميع.
كما أننا نملك بشأنها شهادات معاصرة لها. فقد كتب بوليكاربوس، بعد موت أغناطيوس، في رسالته إلى أهل فيليبي يقول: "كما طلبتم منا، ها إننا نرسل لكم مع هذه الرسالة، رسائل أغناطيوس، تلك التي أرسلها لنا وللآخرين والتي هي بحوذتنا؛ ستجدون فيها فائدة عظيمة، لأنها تحتوي على الإيمان والصبر وكل بناء يخص ربنا" (فيليبي 13 / 2). يتطابق هذا الوصف تماماً مع ما جاء في رسائل أغناطيوس. من ناحية أخرى يذكر كل من أوريجانوس وإيريناوس الرسائل السبع بأسمائها بحسب ترتيبها التقليدي، كجزء ثابت من التقليد الذي تسلّموه.
وصلت إلينا رسائل أغناطيوس في ثلاثة أشكال:
أ. النسخة القصيرة: وهي النسخة الأصلية، وهي موجودة باللغة اليونانية فقط وتعود للقرن الثاني، وهي محفوظة في الـ (Codex Medieus Laurentianus). لا نجد في هذه النسخة الرسالة إلى روما، لكنها اكتشفت فيما بعد في نص الـ (Codex Paris. Graec., n. 1457) العائد للقرن العاشر.
ب. النسخة الطويلة: في القرن الرابع للميلاد، قام أحدهم بإدخال إضافات على النسخة الأصلية، ومن الواضح أنه كان قريباً من الأبوليناريين. كما أنه أضاف 6 رسائل أخرى تحت اسم أغناطيوس. نجد هذه النسخة الطويلة في مخطوطات عديدة باليونانية واللاتينية. وقد عُرفت قبل القصيرة. طُبعت باللاتينية عام 1489 وباليونانية عام 1557.
ج. الخلاصة السريانية: نشر كُريتون (W. Cureton) عام 1845 نسخة سريانية تحوي الرسالة إلى أفسس، روما وبوليكاربوس. وكان يعتبرها أصلية. أما لايتفوت (Lightfoot) وغيره فقد برهنوا صحة النظرية القائلة بأنها ليست سوى خلاصة لترجمة سريانية.
أ. تحتل فكرة "التدبير الإلهي" المكان المحوري في لاهوت أغناطيوس. فالله يريد تحرير العالم والإنسانية من عبودية أمير هذا العالم أي إبليس. لذلك هيّأ العالم لهذا الخلاص عن طريق الديانة اليهودية بواسطة الأنبياء، الذين كانوا ينتظرون تحقيق الوعود في شخص المسيح.
ب. إن مسيحانية (كريستولوجية) أغناطيوس واضحة تماماً بشأن لاهوت المسيح وناسوته، وهي متأثرة في مجملها بلاهوت يوحنا الإنجيلي: "لا يوجد سوى طبيب واحد، جسدي وروحاني، مولود وغير مولود، الله الصائر جسداً [...] من مريم ومن الله" (إلى أفسس 7 / 2).
حاربَ أغناطيوس بدعة الظاهرية (الدوسيتية) التي كانت تنكر طبيعة المسيح الإنسانية، وبالتالي آلامه: "فإذا كان، كما يقول بعض الملحدين، بأنه لم يتألم إلا في الظاهر، لماذا إذاً أجدني في القيود؟ ولِمَ عليّ أن أرجو مصارعة الوحوش؟ سيكون موتي عبثاً؛ وكل ما قلته عن الرب سيكون كذباً! اهربوا من هذه النباتات الشريرة المستغِلّة؛ فهي تحمل ثمار الموت، فإن ذاق منها أحدٌ يهلك فوراً (إلى ترالّي 10-11 / 1). هم بعيدون عن الإفخارستيا وعن الصلاة لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بأن الإفخارستيا هي جسد ربنا المخلص يسوع المسيح، الذي تألم لأجل خطايانا والذي أقامه الآب بصلاحه (إلى إزمير 7).
ج. يسمّي أغناطيوس الكنيسة "مكان الذبيحة" (إلى أفسس 5 / 2؛ إلى ترالّي 7 / 2؛ إلى فيليبي 4). من المرجّح أن هذه التسمية تلمّح للإفخارستيا كذبيحة الكنيسة: "اجتهدوا ألا تشتركوا إلا في إفخارستيا واحدة، ذلك أنه واحدٌ جسد ربنا يسوع المسيح، واحدٌ هو الكأس الذي يوحّدنا بدمه، واحدٌ هو المذبح، كما أنه واحدٌ الأسقف الذي تلتفّ حوله جماعة الكهنة والشمامسة، شركائي في الخدمة" (إلى فيليبي 4).
د. أغناطيوس هو أول من أطلق على الكنيسة صفة "كاثوليكية (جامعة)"، بها يقصد كل جماعة المسيحيين (إزمير 8 / 2).
هـ. يُعتَبَر أغناطيوس أول شاهد في التاريخ عن وجود الدرجات الكنسيّة: الأسقفية، الكهنوت، الشمّاسية. تُظهر رسائله اهتماماً كبيراً بكرامة الأسقف في الكنيسة، فهو يمثّل المسيح في الجماعة، ولهذا تكتسب وظيفته بُعداً روحياً سامياً، فلا يحق لأحد أن يشك في سلطان أسقفٍ ما حتى وإن كان شاباً. فهو معلم الإيمان واتباعه يعني الاحتماء من خطر الهرطقات، كما أنه الحبر الأعظم في الليتورجيا، فبدونه لا يمكن الإحتفال لا بالمعمودية ولا بالإفخارستيا. على نفس الشاكلة يجب على الزواج المسيحي أن يُقام في حضرته.
ز. تقوم نظرة أغناطيوس للزواج على أساس نظرة القديس بولس له، فيرى فيه رمز الرباط الأبدي بين المسيح والكنيسة، لكنه مع ذلك يفضّل البتولية عليه (إلى بوليكاربوس 5 / 2).
ح. من خلال مقارنة الرسائل نجد أن أغناطيوس يحتفظ بتكريم خاص لروما، فيدعو كنيستها بـ "المترئسة في المحبة". لقد اختلفت تفسيرات العلماء بشأن هذه العبارة فمنهم من وجد فيها مديحاً لكنيسة روما لتفوقها في أعمال المحبة وآخرون وجدوا فيها تلميحاً إلى أولية كرسي روما.
ــــــــــــ
- المراجع
J. Quasten, Patrologia, vol. I, ed. Marietti 1980, pp. 64-73.
B. Altaner, Patrologia, ed. Marietti 1977, pp. 48-51.