مَن طَلَّقَ امرَأَتَه، إِلاَّ لِفَحْشاء، و تَزوَّجَ غيرَها فقَد زَنى ( مت 19 /9)
53- الإصلاح الديني في ألمانيا
53- الإصلاح الديني في ألمانيا
لماذا ألمانيا؟!
هناك جملة أسباب جعلت هذه الظروف تنضج في ألمانيا بالذات وتفسر لماذا قامت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا بدلًا من قيامها في انجلترا أو السويد مثلًا.
فمن ناحية: أصبحت المدن الجديدة من نهاية القرن الرابع عشر ذات أثر راجع في مقدرات الشعوب الألمانية فإن المدن من أمثال فرانكفورتFrankfurt وستراسبورجStrassburg ونورمبرج وغيرها من مراكز النشاط التجاري والصناعي قد أخذت تلعب دورها في حياة ألمانيا فقد ظهرت طبقة من الممولين الذين برز من بينهم (بيت فوجر) سيطرت على تجارة ألمانيا مع إيطاليا الشمالية والأراضي المنخفضة (بلجيكا وهولندا حاليًا ومع الشرق أيضًا). وكان المال هو أهم مصادر قوتها وقد أصبحت هذه الطبقة قبلة أنظار الأمراء وكان الحكام يطلبون منها سد احتياجهم وبفضل هذا المركز الاقتصادي الممتاز فرض البرجوازيون سيطرتهم الواسعة على كافة نواحي الحياة في زمانهم.
وإلي جانب هذه الطبقة كانت توجد طبقة الفرسان وكانوا ساخطين على الأوضاع. وخلال هذه الطبقة من النبلاء الضعفاء بدأ من القرن السادس عشر أن تضاءلت قيمة أراضيهم بسبب التطور الاقتصادي، فلم تصبح الأرض هي مصدر الثروة الوحيد، كما تغيرت أساليب القتال وأدواته وفنون الحرب فنقدت هذه الطبقة مبرر بقائها ومع أن قلائل منهم استطاعوا الاحتفاظ بشيء من امتيازاتهم مثل فرسان الراين وسوابيا وفرانكونيا، فإن الأغلبية الكبرى خضعت لسيادة الأمراء الأقوياء ولم تحتفظ إلا بالقليل من امتيازات النوعية ولهذا أصبح هؤلاء الفرسان متحفزين للثورة ضد النظام الاجتماعي والسياسي القائم.
وإلي هذه الطبقة الساخطة كانت توجد طبقة أخري أشد سخطًا هي "طبقة الفلاحين" فقد كان هؤلاء يعشون على هامش الحياة بمعزل عن التطورات العميقة التي شهدتها المدن الألمانية حيث كانت أفراد الطبقة البرجوازية قد قطعوا شوطًا بعيدًا في مجال التقدم والرفاهية.
وكان هؤلاء الفلاحين ألمان يعشون عبيدًا في قيود إقطاعيين وكانوا محل استغلال مشترك من الأمراء ورجال الكنيسة والفرسان إذ كانوا نهباَ بشتى أنواع الضرائب: نقدًا أو عينيًا وتسخيره وتحرم عليهم أشياء كثيرة، فقد كانوا يحرمون حتى من ممارسة صيد السمك في الأنهار والقنوات وصيد الحيوانات في الغابات لأنها أرض إقطاع في حين كانت تنهب أراضيهم وبيوتهم وأعراضهم كان أعدائهم لرجال الدين شديدًا فقد نددوا بالأعباء المالية التي فرضها عليهم هؤلاء وبإسرافهم في فرض ضريبة العشور وغيرها من الضرائب والرسوم المختلفة تحت مسميات وأنواع مختلفة.
وبالإضافة إلى ذلك فهناك أسباب أخرى تفسر قيام حركة الإصلاح الديني في ألمانيا، وهي، الألمان كانوا يحقدون منذ القدم على الكنيسة الكاثوليكية في روما، إذ كان النزاع المستمر بين البابا والإمبراطور الألماني (إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة) سببًا في أن كل فريق كان يشعر نحو الآخر بعداء شديد وفضلًا عن ذلك ففي الدول الأوروبية الأخرى. كانت تقاليد الحكم في أيدي ملوك أقوياء استطاعوا حماية رعاياهم من جشع رجال الدين ولكن في ألمانيا حيث كان الإمبراطور يحكم مجموعه من الأمراء الأقوياء وليس له ظل من السلطة فإن البرجوازيين بين كانوا تحت رحمة القساوسة والمطارنة مباشرة الذين كانوا يحاولون جمع المال لصالح تلك الكنائس الضخمة التي كان إنشاؤها هواية الباباوات في عصر النهضة.
وهناك سبب مهم أخر هو أن ألمانيا كانت موطن الطباعة، منذ اخترع يوحنا جوتنبرح (1397 – 1468) الطباعة بالحروف المصفوفة في منتصف القرن الخامس عشر فأزال العقبات في سبل انتشار العلوم وتوصيلها إلى عامة الشعب وكان الكتاب المقدس أول كتاب طبع بهذه الطريقة في سنة 1455، وبذلك لم يعد محفوظًا محجبًا بالأسرار في صورة كبار رجال الدين الذين تولوا تفسيره إذا كانوا قد فسروه، بل أصبح كتابا من الكتب المتداولة في كثير من البيوت، الذي كان بها مَنْ يعرف اللغة اللاتينية، ومن هنا بدأت أسر بأسرها تقرأ الكتاب المقدس، الأمر الذي كان مخالفًا لنظام هذه الكنيسة من قبل، وتبين للناس عندئذ أن القسوس كانوا يعلمونهم أشياء كثيرة تختلف للأسف عما هو موجود في النصوص الكتابية التي بين أيديهم، مما أثاره في نفوسهم الشك في رجال الدين واشتداد الحملة ضدهم.
في ذلك الحين كانت الظروف تتجمع داخل الكنيسة وتدفع للثورة عليها. وتنقسم هذه الظروف إلى قسمين:-
الأول: يتصل بفساد الكنيسة.
الثاني: يتصل بمحاولات الإصلاح.
ففيما يختص بفساد الكنيسة ففي النصف الثاني من القرن الخامس عشر، كان عدد كبير من رجال الكنيسة، وعلى رأسهم البابا يعيشون عيشة الترف والمجون، وتحولت الولايات البابوية إلى دول علمانية من الناحية العملية، استخدم فيها البابا كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق أغراضه السياسية، ومن هذه الوسائل: التآمر والقتل والاغتيال بالسم، والحروب. وفي الفترة التي سبقت حركة "مارتن لوثر" جلس على كرسي البابوية اثنان من الباباوات يعتبران بحق مسئولين عن تدهور سمعة البابوية وانحدار مركزها هما: اسكندر السادس (1492 – 1503) ويوليوس الثاني (1503 – 1515).
فبالنسبة لحياة اسكندر السادس، فقد كانت حياته محزنة، فقد كرّس حياته لإشباع ملذاته وتحقيق أطماعه، وإغداق مراتب الشرف على أبنائه، وتنمية ثرواتهم، وكان قد أقام علاقة بإحدى السيدات المتزوجات وتدعى فانوتزا vamogga وأنجب منها بفضل هذه الصلة غير الشرعية أبناءه الأربعة: دون جوان وشيزار وجوبي goPe وابنته لوكرنريا، كما كان له أبناء آخرون من نساء أخريات، وقد أقام ابنه شيزار بورجيا borgia قسيسًا ثم كاردينالًا، فارتكب من الجرائم ما جعل روما ترتجف رعبًا من مجرد ذكر اسمه، ولم يتورع عن قتل أخيه دون جوان، عندما خشي أن يشاركه سطوته ونفوذه واستخدم البابا وابنه جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق أهدافهم، مثل: الرشوة والاغتيال على أوسع نطاق في سلاح الحرمان البابوي.
أما البابا يوليوس الثاني فلم يكن يقل في أطماعه الدينونة عن سابقه اسكندر السادس وإن سلك في سبيلها طريقا مختلفا عن طريق أل بورجيا وهو طريق الحرب والسياسة فقد وقف يوليوس الثاني موقف المحارب والسياسي يقود الجيوش ويقاتل الأعداء ويدبر المكائد ويعقد المخالفات وذلك لإعادة تأسيس ممتلكات الكنيسة، حيث يعتبر بحق مؤسس أملاك البابوية في القرن السادس عشر.
وقد كان من الطبيعي أن تتأثر ميول كبار رجال الكنيسة بميول هؤلاء الباباوات، فانكبوا بدورهم على الدينونات، وطرحوا العناية بالشئون الدينية والروحانيات جانبا وصار من المألوف أن ينظر أصحاب هذه المراكز الدينية إلى وظائفهم باعتبارها مصدر إيراد فقط، أصبحت الوظائف الكنسية تباع غالبا في سوق المساومات مع هؤلاء الباباوات وصارت هذه الوظائف بفضل تحايل الإكليروس شبه وراثية ما داموا قادرين على دفع المال.
وقد ترتب على ذلك أن أهملت الواجبات الكنسية ونفذت الكنيسة مكانتها العالية التي تبوأتها، واهتز الأساس الروحي والأخلاقي الذي أقامت عليه نفوذها وهيمنتها في العصور الوسطي ومن هنا بات المسيحيون في غرب أوروبا يدعون إلى إصلاح الكنيسة والقضاء على الانحرافات الخطيرة فيها، وتطوير نظمها وتنظيم علاقاتها مع سائر العالم المسيحي.
وقد أخذت هذه الدعوة تتم بعدة أدوار وتتعرض لعدة تطورات. نقلتها من مجرد الدعوة إلى إصلاح الكنيسة إلى الدعوة إلى إصلاح العقيدة ذاتها! وهذه الدعوات جميعها وهي التي تحولت إلى حركات هي التي يطلق عليها في مجموعها (حركة الإصلاح الديني).
ثانيًا: حركة الإصلاح الديني من الداخل :
أن الدعوة إلى إصلاح الكنيسة يعبر عنها بالإصلاح من الداخل، أي من داخل الكنيسة ذاتها، فتقوم الكنيسة على أيدي رجالها بإزالة مفاسدها وتنظيم شئونها وإصلاح نفسها بنفسها.
وكان قوام هذا الاتجاه عقد المجامع تباعا وفي فترات على يد رجال الدين الكاثوليك الذين عقدوا المجامع الدينية لإدخال الإصلاح اللازم للكنيسة من داخلها بل أن آخر هذه المجامع هو المجمع الديني الذي عقد في بال basle في 1431، أراد أن يضع القرارات التي تصدرها المجامع الدينية فوق قرارات البابا أراد أن يحد من سلطة البابا ويمنع عنه بعض الموارد الكنسية، ولكن البابا نقولا الخامس في سنة 1447 كرسي البابوية قضي على هذه المحاولة، الأمر الذي أدى إلى فشل حركة المجامع الدينية في إدخال الإصلاح المطلوب من داخل الكنيسة.
وقد كان من كبار المصلحين الدينيين الذين أرادوا أن تقوم الكنيسة بإصلاح نفسها يوحنا رويخلين (1455- 1522) وديزيديروس ليرازنوس (1467- 1536).
أما يوحنا رويخلين فهو (أنساني) ينتمي إلى الحركة الإنسانية في عصر النهضة، وتنقضي في الدراسات العبرية، وكان طيلة حياته المركز الحقيقي لكل الدراسات الإغريقية والعبرية في ألمانيا وقد استعان باللغة العبرية في تفسير العهد القديم أثار بكتاباته ضجة من الجدل وكشف هو وتلاميذه وأتباعه عن مساوئ الكنيسة، ونقدوا البدع والخرافات التي انتشرت فيها مما أدي في النهاية إلى تكون قسم من الرأي العام معاد لكنيسة روما ولكنه مع ذلك لم يستهدف إطلاقا الخروج على الكنيسة أو الانفصال عنها وإنما كان هدفه أن تقوم الكنيسة بإصلاح نفسها.
أما ديزيدلوس ارازموس فهو أنساني أيضًا وهو الزعيم المعترف به في حركة الاستنارة في أوروبا حتى أيام فولتير، وقد نادي بإصلاح عيوب الكنيسة، وأسهَم في إثارة الرأي العام ضد البابوية والكنيسة وإن لم يستهدف هو أيضًا الانفصال عن الكنيسة أو الخروج عليها.
وتتمثل أهميته من ناحية الإصلاح الديني: في ترجمته القسم اليوناني من الكتاب المقدس إلى اللغة اللاتينية، أي الإنجيل أو العهد الجديد وأرفق مع هذه الترجمة النص اليوناني الأصلي القديم فكشف بهذه الترجمة الصحيحة ما في الترجمة اللاتينية القديمة للكتاب المقدس والتي راجعها القديس جيروم في القرن الرابع واعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية والمعروفة بالفولجات من أخطاء في بعض المواضع وبذلك لم تعد نسخة الإنجيل المكتوبة باللاتينية منذ القرن الرابع شيئًُا مقدسًا.
وقد كان تأثير ذلك على الفكر المسيحي عظيمًا، فإذا كان في وسع الرجل العلماني أن ينفذ من وراء اللغة اللاتينية وهي الرسمية للإكليروس إلى اللغتين الأصليتين اللتين كتب بهما الكتاب المقدس وهما العبرية التي كتب بها العهد القديم واليونانية التي كتب بها العهد الجديد وإذا كانت نسخة الإنجيل المكتوبة باللاتينية والمقررة من الكنيسة الكاثوليكية قد فقدت قداستها، فقد كان لابد أن تظهر فكرة أن الإنسان يستطيع الاتصال بربه مباشرة دون وساطة الإكليروس (وهذا بالطبع شطط نتج عن أخطاء الكنيسة ومحاولات الإصلاح الفاشلة هذه).
ومع فشل الكنيسة في إصلاح نفسها بنفسها وعدم استجابتها لرغبات المصلحين انتقلت حركة الإصلاح الديني إلى مرحلتها الثانية؛ وهي مرحلة فضّ الإصلاح من الخارج. وهي التي قام فيها مارتن لوثر الذي قام بمحاولات منه لإصلاح العقيدة ذاتها، فارتكب الشطط وخرج بعقيدة أخري، عندما خرج على عقيدة الكاثوليكية. وليس فقط على فساد الكاثوليكية وإكليروسها ورتبها، وقرارات البابا.. ونادى أن يحد من سلطة البابا، ويمنع عنه بعض موارد الكنيسة ولكن عندما تولى البابا نقولا الخامس في سنة 1447 كرسى البابوية قضى على هذه المحاولة، الأمر الذي أدى إلى فشل حركة المجامع الدينية في إدخال الإصلاح المطلوب من داخل الكنيسة.
وقد كان من كبار المصلحين الذين أرادوا أن تقوم الكنيسة بإصلاح نفسها يوحنا ويخلين John reuchlin (1455 – 1522) ويزيد بروس ايرازمواس desideruis erasmus (1467 – 1536).