أَللَّهُمَّ لقَدِ اْمتَحَنتَنا و تَمْحيصَ الفِضَّةِ مَحَّصتَنا (مز 66 /10)
49- محاكم التفتيش في أوروبا
49- محاكم التفتيش في أوروبا
إن أهم سمه تميزت بها جماعات المصلين في غرب أوروبا في القرن الثاني عشر. والذين كان الإكليروس يعتبرهم "مخالفين" أو "معاندين" هي سمة: الزهد والدعوة إلى البساطة الأولى كمد روحي للكنيسة الشرقية في مصر وقد انتعشت هذه الآراء في وقت كانت الكنيسة فيه قد تردت في مساوئها: من اتجار في المناصب الدينية (السيمونية) والسماح لرجال الدين بالزواج بعد أن رفلوا في أسباب النعيم باحثين عن وراثية لهم في هذا، وغير ذلك من أمراض آلمت بالكنيسة كبيع صكوك الغفران.....الخ
وافتضح أمر البابوية وكبار الأساقفة.
وطرحت قضية "الإكليروس" على بساط الشك من أساسها نظرًا لما أصابته من ثراء فأحش، وكان النبلاء الإقطاعيون يتطلعون إلى الفرصة السانحة ليقضوا على أملاك الكنيسة الشاسعة علهم يصيبون شيئًا منها، ولكن البابوية كانت تفرض من الحماية والحصانة على تلك الأملاك في الوقت الذي كانت تنظر بقلق إلى نشاط هؤلاء النبلاء الطامعين في أملاكها خاصة في فرنسا.
وفي عام 1207 طلب البابا انوسنت الثالث من الملك فيليب أغسطس التدخل على رأس حمله صليبية لقمع النبلاء في الجنوب الفرنسي إلا أن فيليب كان يخشى أن ينتهز ملك إنجلترا "يوحنا" الفرصة للانقضاض على الشمال الفرنسي القريب منه إذا أقدم رجاله على شن حملة على النبلاء في الجنوب الفرنسي.
وأخيرًا بعد أن نفد صبر البابا "انوسنت الثالث" أعلن في 15 يناير 1208 قيام حمله صليبيه ضد نبلاء الجنوب الفرنسي ووعد من يشارك في هذه الحملة بالغنائم التي تقع في أيديهم من أملاك هؤلاء المارقين في نظره هو.
وأرسل البابا قاصدًا رسولًا لتهدئة الأوضاع في الجنوب الفرنسي إلا أن مهمته باءت بالفشل الأمر الذي حدا بالبابا بأن يرسل قرارًا بالحرمان الديني ضد "ريمون السادس" صاحب تولوز وقوبل هذا الحرمان باغتيال القاصد الرسولي من أحد أتباع ريموند.
وعليه فقد دعا البابا "انوسنت الثالث" إلى حمله صليبيه ضد المنشقين، استجاب لها الآلاف من الفرسان المتطوعين من الشمال الفرنسي أملا في ثروات الجنوب وغنائمه وقد قامت هذه الحملة بمذابح رهيبة اشهرها تم في حصار وسقوط بلدة "بيزيه" حيث قتل الصليبيون 15.000 من السكان دفعة واحدة ومن ثم كانت اكبر عملية إرهابية في تلك الفترة.
وبعد وفاة فيليب أغسطس أصدر الملك "لويس الثامن" قرارًا لإرضاء البابا في روما بإقامة وتشكيل محاكم التفتيش في جنوب وشمال فرنسا، وكانت هذه المرة هي الأولى التي يصدق فيها القانون الفرنسي على عقاب المهرطقين بالحديد والنار وليس بالمناقشة في محبة لأن الله يريد أن الجميع يخلصون والي معرفة الحق يقبلون. بعد هذا أمر "لويس الثامن" جيوشه بالاستيلاء على مدينة "افنيون" بسبب رفضها لجيوش البابا بالعبور على أراضيها نحو الجنوب، فدمرت أسوارها واستباح فرسان الشمال خيرات الجنوب الفرنسي تحت شعار الصليب ومحاكم التفتيش!
وكان " لويس التاسع " ملك فرنسا أسوأ حاكم علماني شجع على تثبيت أقدام محاكم التفتيش في فرنسا، لكي يرضي معاصريه من الباباوات لذلك سموه "القديس لويس" وأسند مهمة التفتيش والمحاكمة إلى رهبان الدومنيكان الذين بدأوا بإرهاب صغار القساوسة وبسطاء الناس بجبروتهم، أرسلوا إلى المحرقة أعداد لا تحصي بتهمة الخروج على تعاليم الكنيسة، بالإضافة إلى مَنْ امتلأت بهم جحور السجون وغياهب السبي.
ويحدد المؤرخين سنة 1233 على وجه التحديد كبداية لإرساء محاكم التفتيش في فرنسا جميعها وقد خول الملك الفرنسي رجلاَ يدعي " روبرت لي يتي " صلاحيات كبيرة كمفتش عام على هذه المحاكم، وقد رهب هذا الرجل فرنسا كلها ما بين عامي 1233، 1239 إذ شنق 183 شخصًا دفعة واحدة في مقاطعه (شامباني).
وفي عهد الملك الفرنسي فيليب الرابع الذي تولي ما بين عامي 1285 – 1314 كلف وزيره وحامل أختامه بتلفيق التهم لجماعة رهبان الموعد الذين لعبوا دورًا كبيرًا في الحملات الصليبية في فلسطين ومن هذه الاتهامات: والانحلال الأخلاقي والفجور وبهذا تعرضوا لصنوف من العذابات داخل زنزانات سجونهم إلى حد أن واحدًا منهم عندما بلغ العذاب مداه به صاح قائلًا: أنني على استعداد أن أعترِف لكم بأنني قد قتلت الله شريطة أن تكفوا عن تعذبتي وترحموني من الحرق بالنار. ثم أصدر البابا قرار بمصادرة أملاكهم في كل أنحاء العالم المسيحي ثم أمر بإقامة محكمه تفتيش خاصة للتحقيق معهم لأدانتهم.
وفي سنة 1310 صدر حكم محكمة التفتيش بإحراق 63 راهبًا من رهبان الداوية بتهمة عبادة الشيطان والانحلال. وفي سنة 1314 اكتملت المأساة حيث اقتيد رئيس رهبان الداوية جاك دي مولية وبعض رفاقه إلى المحاكمة وتقر إحراقهم جميعًا بتهمة ملفقة، ومنذ ذلك التاريخ صار تلفيق الاتهامات ونشر الفضائح الكاذبة والإرهاب أكبر سمه للملكية الفرنسية تحت رعاية الكنيسة الغربية حتى قيام الثورة الفرنسية في عام 1789.
وحتى جماعة الفرنسيسكان لم تنج من بطش محاكم التفتيش، فقد نادي فريق منهم بضرورة الرجوع بالعقيدة إلى حياة البساطة الأولى، ولكن البابا " يوحنا الثاني والعشرين " (1316- 1334) قرر تقديمهم إلى محاكم التفتيش سنة 1318.
وتابع الباباوات إرهابهم للفكر بواسطة محاكم التفتيش لكل صوت ينادي بالإصلاح وبالرغم من المذابح الرهيبة انتشرت دعوة الإصلاح الديني إلى بوهيميا وجنوب شرق ألمانيا.
وفي سنة 1229 عين البابا مفتشًا كنسيًا عاما على ألمانيا هو (كوزاد) الذي جر الآلاف من الأبرياء إلى المشانق أو المحارِق وكان يكفي عنده أن يشار إلى جار من جاره بأي وشاية ضد الدين فيجر أهل البيت جميعًا إلى المشانق وقد ضج الناس من الإرهاب الذي اتبعه كونراد هنرا، حتى أن بعض الأساقفة نصحوه بالاعتدال، ولكنه لم يكن يطيع بل يزداد في طغيان تحت سمعهم وبصرهم. وبعد أن استشري الغضب بالشعب هاجمة بعض النبلاء وقتلوه سنة 1233 فتنفس الألمان الصعداء.